لم تكن علاقتي مع أدونيس على ما يرام، كان يشوبها نوع من الاحتراز والاحتراس، الخوف والدهشة، الارتباك والحيرة، والسبب قد يعود إلى ذائقتي الشعرية التي لم تستسغ- في البداية- نمطاشعريا يختلف ويتجاوز المعتاد في الشعرية العربية، و ربَّما إلى جهلي بمثل هذه التجارب المؤسسة لشعر هائل بالرؤى، و بالتصورات العميقة،شعر لا يقول الذات والأشياء والعالم بالمألوف والمتداول، بل بطريقة مراوغة ومخاتلة، وتلك قصة أخرى . هذا الموقف الذي لازمني ردْحا من الزمن كان حافزا لنسج علاقة وطيدة مع نتاجاته، المثيرة للأسئلة الملتبسة، و التي تضيء عتمات العقل وتشرع مسالك للتأمّل والتدبّر في الوجود والكائنات. وهي علاقة مَشوبة بما يكفي من تأهّب ومناوشة للكائن والممكن، ومشاغبة للفكر الجامد، المتشبث بالحقائق، بخلق رؤية مَحْتِدُها المروق عن المتعارف والمألوف في ثقافة لا تحيا إلا تحت ظلال الماضي. الماضي الذي يُعيق حركة التاريخ ويحدّ من حريةالعقل. وذلك لاقتحام عوالم شعرية ونقدية مذهلة ومستفزة للذائقة. وفي هذا الإطار، فإن واقع الأمر يجعل الفتى الذي كنتُه يتساءل عمّا يميّز تجربة أدونيس عن الشعراء المجايلين له،المختلفين معه في الرؤية إلى الذات والعالم ؟ وفي النظرة إلى الشعر باعتباره حلما ووسيلة للكشف عن المجهول واللانهائي؟ وكيف يُمكنني قراءته قراءة واعية ومدركة لمنجزه ؟ وأنا أمام شاعر قادم من مستقبل الشعر، وليس من ماضيه.شاعر يمتلك بصيرة حادّة ونافذة وذات مسحة فلسفية، وصاحب نظرة ثاقبة إلى الحياة والعالم، التي نجدها مبثوثة في ما ألّفه من نثر وشعر ونقد، وهنا مكْمن جدارة تجربته وقيمتها، فهي قمينة بالحياة والخلود. غيْر أن هذه الغشاوة ستزول والرؤية ستتضح للوقوف على معالم إضافاته التي وسَمَ بها الإبداع العربي، فعثرتُ على تجربة تحتاج من النقد العربي المعاصر إعادة القراءة، نظرا لما تنماز به من عمق وأصالة، ومن جرأة في تحرير كتابة مغلولة في قوالب تحدّ من تفتّق الإبداع وتحرّره، و بشعرية عاجزة من التخلّص من صوت الماضي. فالرغبة في الإتيان بكل ماهو مختلف سِمة من سمات التّجديد في مشروع أدونيس الشعري والنقدي. ومن هاته الخصائص التّمرّد على سلطة العمود،و وضْع مسافة بينه وبين المنجز القديم، لا تدلّ على الرفض والإنكار لهذا الموروث الشعري، لكن الغاية، من ذلك، قراءته برؤية جديدة تتجاوز السّائد والمجترّ، والذي تمّ ذكره من بين الدواعي الجوهرية التي حفّزتْني على ارتياد مغامرة اكتشاف هذه التجربة، والحفر في أرضها البكر، واقتحام غاباتها التي تخفي صوت شاعر ينتصر للحياة، ويصدح بأناشيد قادمة من بَرَدَى وقاسْيون، ومُفْعم بروح الشّام النّابضة بتراث وحضارة ضاربين في تاريخ الإبداع. هكذا عشتُ وسأظلُّ قريبا من تجربة أدونيس الممتدة في ذاكرة الشعر العربي المعاصر، والمتجذرة في تربته والمتأصلة في كتابة تنحو منحى الاختلاف بدل التطابق،كتابة تحقق تفرّدها المعرفي والجمالي. هذه الكتابة تحتّمُ على المتلقي امتلاك القدرة على تحمّل أهوال الشعر ومخاطره، وجلال رؤاه التي تستمدّ وجودها الإبداعي من الآتي، وتتجرّد من إرث شعري صفتُه الاجترار . فالشاعر أدونيس خاض تجربة كتابة القصيدة العمودية، في بداياته الأولى، ممّا يبرز أنه خَبِرَ مضايقها واسْتَكْنَهَ أسرارها، غير أنّه لم يسقط في حِبالها، فقراءة الماضي ليس من أجل استعادته، ولكن بغية طمْس الفجوات وملئها يقول أدونيس:» ونحن اليوم، إذ نقرأ ماضينا الشعري، فليس لكي نرى ما رآه الخليل واللاحقون، وحسب، وإنما لكي نرى ما غاب عنهم وما لم يروه. نحن، اليوم، نقرأ الفراغ أو النقص الذي تركوه. خصوصا أن التّقنين والتّقعيد يتناقضان مع طبيعة اللغة الشعرية. فهذه اللغة بما هي الإنسان في تفجّره واندفاعه واختلافه، تظل في توهّج وتجَدّد، وتغايُر، وتظلّ في حركيّة، وتفجّر، إنّها دائما شكل من أشكال اختراق التقنين والتقعيد، إنها البحث عن الذات، والعودة إليها، لكن عبْر هجرة دائمة خارج الذات» فالسّعيُ إلى خلْق كتابة شعرية حديثة ذات ماهية خرْقية( نسبة إلى الخَرْق)، يصعب القبض على مفاصلها لكونها متحوّلة وغيْر ثابتة، بل هي عبارة عن أحوال ترتبط بالذات والكون،كانت الهاجس الأول لأدونيس ، وعليه ظلت تجربته مستعصية وغامضة، لكن طول العشرة أزالت الكثير من الالتباسات وانفكّت عقدة دهشة المواجهة الأولى،مُسْتَلْهِماً حكمة قالها أحدهم لم أعد أتذكّره لتكون الزاد والمعين في هذه المغامرة المحفوفة بمخاطر القراءة، التي يقول فيها «عليك بقراءة الكتاب الذي يتعبك ويقلقك، ولا تقرأ الكتاب الذي يمنحك المعرفة بسهولة»، إن طابع التجديد والإتيان باللامألوف في الشعرية العربية لم يأت من فراغ، وإنما ناجم عن وعيّ شقيّ يمتلكه الشاعر منذ إيمانه بقيمة الإبداع، وأهميته في تاريخ الإنسانية، هذا الوعي منبتُه أرض المعرفة المشرعة على أفق الإبداع الكوني. إن سيرة أدونيس الشعرية مليئة بالمنعطفات الرهيبة، والمحطات الغامضة، لأنه لم يسجن تجربته في كتابة شعرية ذات إيقاع واحد، بل فيها تموّجات وأنفاس ضاجّة بالاحتراقات والأسئلة ذات المرجعيات المعرفية والفلسفية المتنوعة الروافد. فكتاباته ترتضي الاتصال مع المتخيّل وتبتعد عن الواقع، كي تحسن الحفر في داخله من أجل تجاوزه، فالرموز والإشارات سمة طاغية على خطابه الشعري الذي تحكمه لغة الحدس حيث الدلالات والأبعاد متداخلة، وهي حمّالة أسرار الذات وأسرار المتخيّل بطرائق تعبيرية تشيّد علاقات متواشجة بين اللغة والأشياء، بين الدال والمدلول، مادامت التجربة نابعة من المجهول، وبالتالي ينبغي قراءتها بعين القلب بعيدا عن لغة البرهان المتنافية مع شعر الحدوسات. والمتجاوزة لنظرة الكتابة، التي تقدّمتها، للدلالات والمعاني والصور، مما أفضى إلى خلق رؤية تصنع القطيعة، وتؤسس لأخرى جديدة تتماشى مع الإبدالات والتغيرات، و» هكذا يكتب أدونيس الغامض، يخرج الأشياء من ماضيها، من أسمائها السابقة، ومن طرائق التعبير عنها، ويدخلها في صورة أخرى مضيفا عليها أسماء جديدة» وبالتالي فما يرتضيه أدونيس من إبداعه الشعري ليس قول الواقع، وإنما تشكيله جماليا بلغة الكشف والغوص في غوامض الذات ومكامن الوجود، لذا فهو أحدث قطيعة مع كتابة تنقل الواقع بخلق كتابة تبدع علاقات جديدة بين اللغة والأشياء، بعيدا عن الاحتذاء الذي يصيب الإبداع في مقتل. و ما أثارني، في تجربته بشقيها الشعري والنقدي، اختيار أدونيس المغامرة سبيلا والمغايرة رؤية تضفي على مساره الشعري الجدّة والنقدي الجدارة، فقد غامر في اجتراح نص شعري يكشف عن عوالم شعرية ملتبسة ومثيرة للجدل والدهشة، نظرا لما يميّزها من خلق وابتكار لم يأت به سابق ،في ما أعتقد، سواء تعلّق الأمر بوعيه بأهمية الشعر في حياة الأمم، أو بإيمانه العميق واليقيني بجدوى الكتابة، بصفة عامة، في عالم متحوّل ومُحيّر ، في إنقاد البشرية من مصير مَشُوبِ بإشكالات وجودية. أما ملامح المغايرة فتمظهراتها جليّة،إذ اتّسمَت تجربته الشعرية ببناء نلمس فيه التجديد والإتيان بالمفاجئ، والإقدام على اقتحام جغرافيات تعبيرية غير مسبوقة، والحفْر في أراض غامضة ذات مسارات ضاربة في العتمات الذاتية والوجودية، والمغايرة التي ارتضاها أدونيس، تدل على التفرد شكلا ومضمونا، ذلك أن الخطاب الشعري الأدونيسي يؤسس لرؤيا شعرية ذات منزع حداثي ، لا يسير على هدْي السلف، بقدر ما يخلق صوته النابع من غوامض التجربة والتباساتها، إنها رؤيا تقف عند حافة المستحيل، مستشرفة الآتي القصيّ والمجهول، لذا نجد أدونيس يلتمس من الموت منحه الحياة لجعل العالم قريبا منه يقول: ( يا يد الموت أطيلي حبْل دربي/ خطف المجهول قلبي؛/يا يد الموت أطيلي/ علّني أكشف كُنْه المستحيل/ وأرى العالم قربي….) ومن ثمّ فالشاعر يبتغي إيصال رؤياه الشعرية القائمة على أن الشعر مغامرة في المجهول وكشف الغامض والصعب، وتلك ميزة من ميزة هذا الشاعر، إضافة إلى الشعور بنوع من الغرابة أمام شعر نابض بطاقة إبداعية مشحونة برؤى فيها متعة الالتباس، فكنت أقع في كمائنه الشعرية حائرا، مندهشا، ومتسائلا حول هذه القدرة الخلّاقة، لشاعر ينحت صوته الشعري بتؤدة وعزيمة قلَّ نظيرها في الشعرية العربية، ويخلق إمبراطورية شعرية ممتدة في مجادلة الماضي وعصيانه، ومشاكسة حاضرا متذبذبا تبتدعه بلغة ماكرة وخادعة، وتصوغه في تشكيلات محبوكة ومنسوجة بإبرة الفن وخيوط الجمال ، لكن الشاعر يقتحم أدغال الشعر وأحراشه المتشابكة،بإرادة المغامر الباحث عن إشراقاته المنفلتة يقول: ( آن لي أن أسلّ نفسي/ من ليل أليف، ومن صباح معاد/ آن لي أن أكون نفسيَ/أن أحْيَا/ وجودي…) عندما كنت أقترب متوجّسا من هذه الانفلاتات الشعرية في مشروعه الشعري الغني والزاخر بعطاياه الجمالية والفنية، أخلص إلى تلك الرغبة الجامحة للشاعر أدونيس في تغيير الكائن، واتخاذ المغايرة طريقا لتحقيق الكينونة،ولمراودة الممكن، فالفرادة سمة من سمات الكتابة لدى الشاعر، فهو شاعر يروم تجاوز حال التكرار والمألوف لابتداع حال شعرية تناسب عصره ليكون هو ذاته، ويشعر بوجوده. إن الكتابة الشعرية عند أدونيس مفارقة وملتبسة، مفارقة لأنها خارج السرب ، تحقق كيانها النصي انطلاقا من التفاعل الحاصل بين التجربة والمعرفة، ومن القدرة الرهيبة التي يتميّز بها الشاعر، وانتهاء بالتقاط المُدهش والغامض في الذات والعالم، والاشتغال على اللغة ببصيرة الرائي ، إنه راعي اللغة واللغة راعية لرؤاه، في هذا التواشج تبرز إبداعية الشاعر الخلاقة، السّاعية إلى إحداث ارتجاجات في الإنسان والعالم والأشياء يقول:( قادر أن أغيّر: لغم الحضارة – هذا هو اسمي) فهوية أدونيس الإبداعية تتشكّل من هدم القائم وبناء الآتي، ومن تمّ ظل أدونيس يواجه ثقافة الاتباع بثقافة الإبداع، ولعل في قوله ما يزكّي طرحنا: ( هذا أنا: لا ، لست من عصر الأفول/ أنا ساعة الهتْك العظيم أنت وخلخلة العقول/ هذا أنا – عبَرَت سحابة/ حبلى بزوبعة الجنون ) إنها إدانة لهذا الواقع الآفل ، الغائب، السلبي، لأنه ينتمي إلى زمن الهتك، كتعبير عن رغبة الذات في الانسلاخ من عالم الظلام لمعانقة عالم يؤمن بالنور والجنون المعقلن بتعبير الشاعر عبد الله راجع، كما تجدر الإشارة إلى أن بنية الهدم حاضرة في الخطاب الشعري الأدونيسي، من خلال إحداث الشقوق والتصدعات في المألوف والسائد. لخلق نصّ شعري يسْبر مكنون الذات والكون، وتلك سجية الشعراء المجدّدين المشّائين التّائهين في ملكوت الحيرة والدهشة والإبهار، الغارفين من ينابيع التجربة الذاتية في تفاعلها مع الكائنات والأشياء والكينونة، ولاغرابة في هذا مادام الشاعر أدونيس يستمدّ إبداعيته من مناحي معرفية وثقافية، تضرب بجذورها في تربة الإبداع الخلاق المؤمن بالشعر ، الذي يغوص في المنسي من الذات والوجود. وفي نصوصه ما يعزز احتمال التأويل يقول في قصيدة « الوقت» : ( حاضنا سنبلة الوقت/ ورأسي برج نار/ ما الدم الضارب في الرمل / وما هذا الأفول/ قل لنا يا لهب الحاضر / ماذا سنقول/ مزق التاريخ في حنجرتي/ وعلى وجهي أمارة الضحيّة / ما أمرّ اللغة الآن / وما أضيق باب الأبجدية…) ، مقول يحملك على جناح مجازات تكشف عن عوالم شعرية تقول الذات والعالم بلغة مختلفة، متحرّرة من سلطة التّقعيد، لأنها الشكل الذي فيه يتخلّق الوجود. ولابد من التأكيدعلى أن في شعر الشاعر ذلك النّفس الفكري والفلسفي والصوفي الذي ثوّرالدلالات و بصَم خطابه الشعري بجماليات الإمتاع ،التجديد والابتداع. واستنادا إلى ما سبق لابد من القول إن تجربته الشعرية المنفلتة من عِقال التحديد، تبقى مستعصية على القبض، لكونها تُنشد أفقا إبداليا مختلفا ينتصر للشعر المراوغ والمخاتل الذي يوسّع المعاني ويبدع المباني، شعر يسبح في مياه لا تتوقّف عن الجريان، بها تتجدّد لغة الشعر ويتغير الإيقاع بتغيّر الواقع، لغة تتعمّق في أسرار الذات والوجود، وتخلق عوالم الأشياء بلذة والجمال والسحر.