أدونيس شاعر مفلق ومفتق للغة، عاجنها بوعي جمالي مسترفد من موروث قرائي، وبحث دؤوب عن نصية شعرية لا تقول إلا كينونتها وفق تصور عميق، ونابع من أرض الإبداع الحق، الأرض التي أثمرت عمالقة الشعراء والأدباء الذين أثروا الإبداع الإنساني، ولا غرابة أن يكون أدونيس (علي أحمد سعيد) من صلب شجرة الإبداع السوري. هذه الشجرة الوارفة بزخم ثماري يانع تغري الجائع بالتهام هذا الإبداع الموغل في التجديد، والمشتعل بأسئلة حارقة لم تعهدها العقلية العربية، أسئلة مرتبطة بالخروج من كهف التقليدية والاتباعية إلى عالم فسيح الرؤى والتصورات ، وقد تمكّن الشاعر من خرق هذه الجدران السميكة لبنية تؤمن بالتوابيت وتكره الحياة؛ بخلق نص شعري مفارق ، مربك، مدهش وصادم لعابدي صنمية النسق القريضي، خارجا عن التنميط الشعري إلى التحديث الشعري، من خلال الكشف العميق عن بنية نصية تجنح إلى الغريب في التركيب، في اللغة على المستوى الدلالي، والعجيب على مستوى الصوغ الشعري. ولعل هذا ما جعل أدونيس شاعرا محدثا ومجددا، شاعرا ينطلق من رؤيا داخلية تنظر إلى الذات من زاوية المروق عن العالم ، فكانت المغايرة الشعرية جوابا جليا عن جسد لم يعد قادرا على الإقامة في روح تفتقر لحياة الخرق وعالم ينتشي بعدميته الإبداعية، فجاءت صرخة أدونيس عبر أطروحة نقدية لا ترتكن للجاهز، ولا تبتغي غير تقويض مسلمات الشعرية العربية، هذه المسلمات كانت لها الهيمنة لقرون، حتى أصبح العقل العربي عاجزا عن تفتيق إبداع شعري، وفكر عقلاني يسهم في بناء ذات أكثر تحررا من الأصفاد النقلية من أجل معانقة سماء مفتوحة على الخلق والتحليق بعيدا عن توابيت الموتى. إن أدونيس مؤسس لحركة شعرية تعتمد الرؤيا مرجعا رئيسا في تشكيل رؤية للعالم ، الحلم سبيلها الوحيد نحو عوالم متخيلة، نابضة بحياة التحول، قابضة على جمر التوتر تجاه الذات والعالم، على اعتبار أن المبدع الحق لا يستسلم لسكونية الواقع والتباسات الذات في محاورتها لعالم ممتد في اللانهائي، بقدر ما تروم هذه الحركة الشعرية إلى رسم ملامح خريطة إبداعية مستفزة للذوق العام السائد؛ ومتواطئة مع كل ما من شأنه أن يحفز الذات إلى ارتياد التجديد والابتداع لخلق نص شعري يرتضي الإقامة في الملتبس والغامض والفاتن، هذه هي سيرة الشاعر أدونيس الذي خاض معارك شرسة مع أعداء الحداثة والتحديث والخلق والإبداع؛ تم توظيف فيها كل الأسلحة الفتاكة من التشكيك في عروبته، واتهامه بالعمالة لضرب اللغة العربية، وهذا الصراع يحيل إلى أجواء القرن الرابع الهجري حيث تعرضت قصيدة الحداثة لمختلف أشكال التضييق والمحاربة من لدن العقلية النمطية المتكلسة التي لا تؤمن بغير ماهو ثابت وسكوني، متناسين أن الحياة في سيرورة متحولة وتبتغي صيرورة تتساوق مع كل هذه الصدمات التي تتعرض لها الذات والعالم. فأدونيس له القدرة الخارقة في توليد وتشكيل ماهو موجود، عبر لغة شعرية مفارقة تستمد وجودها من متخيل توزعت دماؤه بين قبائل معرفية وإبداعية متعددة ومختلفة، وهذا ما أثمر تجربة شعرية لا تقول إلا ما تريده، عالما شعريا لا يقين إلا في مراودة الآتي بأسلوب ماكر متخلق من رحم المعاناة والأسئلة الوجودية الحارقة ، أقصد مخاضات الكتابة الإبداعية الشعرية، التي تعيشها الذات المتأملة في مغالقها المندسّة وراء سديم أسئلة وجودية تبحث عن الجمال الحقيقي للأرض موطن الكينونة كوعي بضرورة التجذر في ملكوت غامض وغائر ، وذلك في سياق حياتي موسوم بالتعطش للجمال بمستوياته العميقة، فالأرض هذا الكتاب المكتوب بحبر الحنين، ماهو إلا ذريعة لإفصاح الذات عن الارتباط الوجودي بالأرض كهوية وانتماء وتاريخ وأسئلة، ففي حوارية شديدة التأمل بين الذات والعالم يقول الشاعر: «قالت الأرض في جذوري أباد حنين، وكل نبضي سؤال بي جوع إلى الجمال، ومن صدري كان الهوى وكان الجمال» فتشكيل الوعي الوجودي يحتاج إلى برهة للغوص في مكامن الأسرار التي تحفل بها الأرض، هذه الأسرار هي الدافع الأساس لاختراق الذات بحثا عن الجمال كملاذ للتخلص من عالم كله يباس وموت وقبح وظلام يمنع من وضوح الرؤية، ويقبر الرؤيا في حدود الأنين وهذا ما لا ترتضيه ذات الشاعر الحالمة بعالم يحتاج إلى الكشف بتمزيق الحجب وتكسير القيود للتخفيف من عذابات الإنسان في أرض القهر والعبودية؛ فالسؤال الجمالي هو المحدد الرئيسي في التجربة الأدونسية (نسبة إلى أدونيس) لكون الكتابة الشعرية رهانها الأول واللانهائي هو البحث عمّا يحقق للنص جمالياته . هذه الجماليات التي تنبثق من سؤال الذات التي تشكل موطن الانفعالات الباطنية والمعبّرة عن قلق وتوتر الساعية إلى التخلص من كل ما يحد من طاقاته وقدراتها في الخلق والإبداع، لذلك فالسؤال هنا بحث عن الصيرورة الوجودية لها يقول الشاعر: « آن لي أن أسل نفسي من ليل أليف، ومن صباح معاد آن لي أن أكون نفسي، أن أحيا وجودي، وأمشي وبلادي وأرد التاريخ شهقة جوع تتغذى من قبضتي وفؤاد» فالشاعر يشرع الأبواب لحضور الذات كمعطى أساس في نسيج النص/التجربة حتى تستطيع التجرد من الزمن الفيزيائي إلى زمن وجودي عبْره تتشكل كينونة الذات المتعطشة للكشف عن أسرار الباطن والظاهر عبر متواليات شعرية نابعة من تصور يعتبر العملية الإبداعية/الشعرية خصوصا نشدانا للآتي والغامض، ومعانقة لأسئلة منبعها عمق فكري فلسفي يعصف بالثوابت والتوابيت؛ ويخلق كيانا شعرية أكثر ثراء وجمالا، وأكثر قدرة على تحفيز الذائقة الشعرية على ركوب مغامرة التجديد والابتداع؛ وإضاءة المعتم والسري في الأشياء والكينونة التي تبحث عن هويتها شعريا يقول: «في عتمة الأشياء ، في سرّها أحب أن أبقى أحب أن أستبطن الخلقا أحب أن أشرد كالظن كغربة الفن كالمبهم الغفل وغير الأكيد أولد في كل غد من جديد» هكذا هي سيرة الإبداع إماطة اللثام عن الغامض والملتبس؛ لأن رغبة الذات كامنة في البقاء/ الخلود لاستغوار المناطق المنسية من الذات والأشياء/ العالم، ففي هذا مكمن الفن المجدد الذي يعيش غربة، وكل جديد يثير الاستغراب، لذلك تبقى الذات والمستقبل رهان تجربة لا ترى إلا الأفق مدججا بالحلم ومحتاجا للكشف، مَحْتِدُهَا الشك كمقوم فكري وجمالي بوساطته يتأسس الخطاب الشعري الأدونيسي، هذا الأخير الذي يقوم على ركائز الحلم والعودة إلى الذات للقبض على أسئلة تضج بالاحتراق الوجودي والاغتراب القسري في عالم يسوده الموت كعلامة شعرية دالة للبحث عن المستحيل أي المتفلّت يقول: «يا يد الموت أطيلي حبْل دربي خطف المجهول قلبي يا يد الموت أطيلي علّني أكشف كُنْهَ المستحيل وأرى العالم قربي» هذه الاستغاثة الشعرية التي تعلن عنها الذات؛ ماهي إلا تعبير عن الرغبة في امتلاك العالم الذي يبقى رهين المجهول، ومن تم يروم الشاعر إلى الإغراق في محبة الأرض، و قد يحمل الموت دلالة اليقظة ، على حد تعبير ابن القيم « الدنيا منام، والعيش فيها حلم، والموت يقظة»، وبالتالي فالموت هنا حابلة بالانتباه وتوظيف كافة الحواس الطاهرة والباطنة لتغدو الرؤية ملح متن شعري يزخر بالتجديد والإبداع يقول: « ولي الأرض ، لي زهوها، ولي كبرها تجرّحني راحتاها ويعبدني صدرها إذا شوكها عافني تخطفني زهرها» وليس غريبا أن تجد الذات نفسها محاصرة بين المحبة الحميمة للأرض كانتماء حضاري ووجودي تاريخي والطفولة كملاذ تحتمي به من صقيع وسواد وظلمة عالم يكتب تاريخ البشرية بالسيف والنزيف، بالموت وسيادة الجور؛ ولعل هذا ما يكشف القلق والتوتر الذي تحياه ذات همُّها الأساس هو تشييد عوالم شعرية متجددة بتجدد سؤال الهدم والبناء كثنائية تتحكم في سيرورة التجربة الشعرية للشاعر أدونيس، وكقيمة شعرية تنهض من بنية النص، وتجعله قابلا لتعددية قراءاتية تضفي عليه سمات تأويلية تزرع الحياة في شرايين الخطاب الشعري. يقول الشاعر مستحضرا عالم الطفولة الموحي بالنقاء الأصيل والطهر العميق: «في السرير القلق الدافئ حب يستفيق هو للناس تراتيل، وللشمس طريق، للطفولة تشرق الشمس خجولة، في خطاها يصغر الكون الكبير ويضيق الأبد فلها الأرض غطاء ولها الدنيا سرير» بين السرير القلق وسرير الدنيا رحلة الذات عبر الذاكرة للحب والغناء والضياء، وبها تغدو الأرض غطاء في كون صغير وأبد ضيق، وهذا إلا دليل على أن الذات تحتفي بالطفولة كرمز للحياة يقول: «يا طفولة يا ربيع الشيخ وأذار الحياة وهوى ماض وآت في غد، أنت صراع لا يحد وطموح لا يرد» هكذا يمكننا القول إن الشاعر أدونيس وهو يلوذ إلى الطفولة ماهي احتماء من صقيع عالم متوحش وموحش، عالم لا وجود فيه للحياة ، ولعل احتفاءه بذكريات المكان وذكريات الزمان عبر شعائر تعبدية تثبت البحث الدؤوب للذات عن السبل الكفيلة للتخفيف من وطأة الاغتراب الروحي والوجودي يقول: «ضيعتنا في التل شبابة مصدورة اللحن يغفو على أنغامها يغفو بلا جفن أطفالها نوافذ أغلقت في وجهها الأرض» يبرز هذا المقطع مدى التعلق بالأرض رغم الصورة الرثائية التي يقدمها المعجم الشعري له، غير أنها صلاة تعبدية تكشف عما يكتنف الذات من اغتراب وحرقة بلسمها يوجد في العودة إلى ذاكرة الطفولة، مادام الجسد ضائعا يبحث عن كينونته المفتقدة؛ لكون القصيدة تلبس أهداب الطفولة – على حدّ تعبيره- ما يميز الخطاب الشعري عند أدونيس هو هذا الانفتاح على الثقافة العالمية، من خلال النهل من روافد التاريخ (عبد الرحمن الداخل او صقر قريش، علي كرم لله وجهه، الحسين ،مهيارو عمر بن الخطاب...) والأساطير (فينيق، أرفيوس، سيزيف، أوديس، إيكار...) والحضارة(بابل، الفرات، دمشق ،بيروت...) والأدب (الحلاج، أبو نواس، بشار...) هذا التنوع في الينابيع أثرى الخطاب الشعري الذي يتغيى خلق لغة ثانية تحتفي بالحياة ومقاومة الفراغ المستشري في الوجود يقول الشاعر: «للفراغ الذي يتنبأ لكن بأظفاره فأنا مبلغ والبلاغ أنني أكتب الفراغ أخاطب هذا الفراغ» هذا الفراغ المؤدي إلى الامتلاء بشعر ينبض بالحياة والأسئلة الحارقة، ويحتفي بشعرية غايتها الخلق والإبداع تمجيدا للطفولة ولكتابة لعبية معقلنة، الخسارة فيها للتوابيت، والانتصار للسماء والعصافير المحلقة بعيدا عن قيود الأقفاص، محلقا في سماوات الإبداع الحق؛ والضارب في العمق الإنساني، وليس هذا بصعب على شاعر قوّض أركان ذهنية شعرية منمّطة ومتكلِّسة مما جعله تحت رحمة سهام ذائقة مترهّلة ؛ ومؤمنة بالثابت وتأبى إلا الوقوف سدا منيعا أمام المتحوّل. فكتابة الفراغ ماهي إلا صيحة في وجه هذا العبث المستشري في الأرواح والعقول المتجمّدة، والغرقة في جهالة كل ماهو جمالي وإبداعي، وبيانٌ على الشعور بمدى الاغتراب الذي تحياه كل ذات مبدعة خلّاقة. من نافلة القول يمكننا أن نخلص إلى كون التجربة الشعرية للشاعر أدونيس تحتاج إلى أكثر من وقفة تأمل؛ وإبحار في لجج شعره الباذخ برؤى ضاربة في تأسيس بلاغة جديدة، التي تكمن في بلاغة الإدهاش والمفاجئ نظرا لما تزخر به من تجديد وخلق وإبداعية نادرة؛ لها صوتها الشعري المتميّز والمفارق.