صفعة جديدة للجزائر.. بنما تقرر سحب الاعتراف بالبوليساريو    استئنافية طنجة توزع 12 سنة على القاصرين المتهمين في قضية "فتاة الكورنيش"    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    لقجع يؤكد "واقعية" الفرضيات التي يرتكز عليها مشروع قانون المالية الجديد    تجدد الغارات الإسرائيلية على ضاحية بيروت الجنوبية عقب إنذارات للسكان بالإخلاء        تنسيق أمني مغربي إسباني يطيح بخلية إرهابية موالية ل"داعش"    كيوسك الجمعة | إيطاليا تبسط إجراءات استقدام العمالة من المغرب        البحرين تشيد بالدور الرئيسي للمغرب في تعزيز حقوق الإنسان    أنفوغرافيك | صناعة محلية أو مستوردة.. المغرب جنة الأسعار الباهضة للأدوية    السلطات الجزائرية توقف الكاتب بوعلام صنصال إثر تصريحات تمس بالوحدة الترابية لبلده    توقعات أحوال الطقس لليوم الجمعة    بنما تعلق الاعتراف ب "الجمهورية الوهمية"    ولي العهد الأمير مولاي الحسن يستقبل الرئيس الصيني بالدار البيضاء    تفكيك خلية إرهابية لتنظيم "داعش" بالساحل في عملية مشتركة بين المغرب وإسبانيا    الولايات المتحدة.. ترامب يعين بام بوندي وزيرة للعدل بعد انسحاب مات غيتز    ولي العهد الأمير مولاي الحسن يستقبل الرئيس الصيني    جامعة عبد الملك السعدي تبرم اتفاقية تعاون مع جامعة جيانغشي للعلوم والتكنولوجيا    وفاة شخصين وأضرار مادية جسيمة إثر مرور عاصفة شمال غرب الولايات المتحدة    سفير ألمانيا في الرباط يبسُط أمام طلبة مغاربة فرصا واعدة للاندماج المهني    متابعة موظفين وسماسرة ومسيري شركات في حالة سراح في قضية التلاعب في تعشير السيارات    تحطم طائرة تدريب يودي بحياة ضابطين بالقوات الجوية الملكية    عشر سنوات سجنا وغرامة 20 مليون سنتيما... عقوبات قصوى ضد كل من مس بتراث المغرب    هل يؤثر قرار اعتقال نتنياهو في مسار المفاوضات؟        رسميا: الشروع في اعتماد 'بطاقة الملاعب'    المغرب التطواني يقاطع الإجتماعات التنظيمية مستنكرا حرمانه من مساندة جماهيره    الصحراء: الممكن من المستحيل في فتح قنصلية الصين..        أول دبلوم في طب القلب الرياضي بالمغرب.. خطوة استراتيجية لكرة القدم والرياضات ذات الأداء العالي    مجلس الحكومة يصادق على مشروع مرسوم بوقف استيفاء رسم الاستيراد المفروض على الأبقار والأغنام الأليفة    "بتكوين" تقترب من 100 ألف دولار مواصلة قفزاتها بعد فوز ترامب    الرباط : ندوة حول « المرأة المغربية الصحراوية» و» الكتابة النسائية بالمغرب»    المنتدى الوطني للتراث الحساني ينظم الدورة الثالثة لمهرجان خيمة الثقافة الحسانية بالرباط    بعد غياب طويل.. سعاد صابر تعلن اعتزالها احترامًا لكرامتها ومسيرتها الفنية    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    مؤشر الحوافز.. المغرب يواصل جذب الإنتاجات السينمائية العالمية بفضل نظام استرداد 30% من النفقات    المغربيات حاضرات بقوة في جوائز الكاف 2024    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    المركز السينمائي المغربي يقصي الناظور مجدداً .. الفشل يلاحق ممثلي الإقليم    زكية الدريوش: قطاع الصيد البحري يحقق نموًا قياسيًا ويواجه تحديات مناخية تتطلب تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص    وزارة الإقتصاد والمالية…زيادة في مداخيل الضريبة    ارتفاع أسعار الذهب مع تصاعد الطلب على أصول الملاذ الآمن    بعد تأهلهم ل"الكان" على حساب الجزائر.. مدرب الشبان يشيد بالمستوى الجيد للاعبين    رودري: ميسي هو الأفضل في التاريخ    انطلاق الدورة الثانية للمعرض الدولي "رحلات تصويرية" بالدار البيضاء    مدرب ريال سوسيداد يقرر إراحة أكرد    8.5 ملايين من المغاربة لا يستفيدون من التأمين الإجباري الأساسي عن المرض    من شنغهاي إلى الدار البيضاء.. إنجاز طبي مغربي تاريخي    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    جائزة "صُنع في قطر" تشعل تنافس 5 أفلام بمهرجان "أجيال السينمائي"    تفاصيل قضية تلوث معلبات التونة بالزئبق..    دراسة: المواظبة على استهلاك الفستق تحافظ على البصر    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تأملات في التجربة الشعرية للشاعر المغربي عبدالله راجع
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 19 - 02 - 2016


عود على بدء:
لا غرو ،في كون القصيدة المغربية ،عرفت انعطافات تجديدية سواء على مستوى بنية النص الشعري، أوعلى المستوى المضموني؛وذلك تماشيا مع التحولات التي مسَّت جميع البنى بشتى مسمياتها؛وإبدالات الشعرية العربية التي تميزت بالتجاوز للذائقة الشعرية النمطية ؛عبر فتوحات إبداعية تمثلت في نص حداثي دَيْدَنُهُ المغايرة ،والجدة ميزة المباني والمعاني،مما كان له تأثيرعلى اختلاف الرؤى والتصورات المسهمة في تشكيل شعرية عربية ؛حيث لم يعد الشعر تجسيدا محاكاتيا،وذي بنية سيمترية ؛وإنما أصبح النص الشعري خطابا تخطى بنية النص المنمط ؛إلى خلق نص هويته كامنة في كيانه الشعري، مستجيبا لما يجري من انتكاسات،وتراجعات مخيفة في العالم العربي؛ كان لها التأثير السلبي على تحقيق رهانات الشعوب الحالمة بالوحدة من الماء إلى الماء،والإحساس بضياع حلم استعادة الأراضي العربية المحتلة من لدن الصهاينة، إضافة إلى عامل المثاقفة الذي أسهم بشكل واضح وجلي في تجاوز ما هو ثابت في الثقافة العربية باختياربنية متحولة كخصيصة جمالية لنص شعري؛ مفتوح على ارتياد أفق كتابي متحول . هذه العوامل المتداخلة والمندغمة كان لها دور أساس في هذا التبدل الذي مس الشعرية العربية، وأثرعلى بنية النص الشعري المغربي ،الذي خاض غمار التجديد والخلق، فبرزت تجارب شعرية رائدة ؛كان لها سبق التأسيس كأحمد المجاطي،عبد الكريم الطبال،محمد السرغيني،أحمد الجوماري و...و...و...،هؤلاء أرسوا معالم شعرية مغربية تنماز بخصائصها الإبداعية؛وقيمتها الجمالية،ثم بعد هذه الكوكبة ظهرت أصوات شعرية مختلفة عما سبقها ،لأن مشروعها الشعري والإبداعي يختلف عنها نظرا لاختلاف المنطلقات،والرؤى للعملية الإبداعية،فجاء صوتها صوتا ينصت إلى الداخل مع تحاور فيه نوع من التماهي مع الخارج/الواقع؛ نشيرإلى بعضهم، على سبيل التمثيل لا الحصر، كمحمد بنيس؛حسن الأمراني؛محمد بن عمارة،محمد بودويك،علال الحجام وغيرهم.ويعتبر عبد لله راجع عقد هذه التجربة الشعرية،إذ استطاع أن يخلق صوته الشعري بعيدا عن هذه الكوكبة،قريبا من الهاجس الشعري الذي يشغله وينشغل به.
(1) تخوم العزلة الوجودية:
إن الشاعر عبد لله راجع شاعر ظل مخلصا لرؤيته الشعرية، وتصوره للعملية الإبداعية، فهو لم يسقط في كتابة شعرية ذات هاجس واقعي ،وإنما سعى إلى خلق تجربة شعرية منطلقها الوعي بالذات ومنتهاها الاندغام والانغماس في الهموم المجتمعية،والانشغالات الكونية،ومن تم وسم القصيدة الشعرية بنكهتها المغربية في بعدها المحلي،والممتدة في التربة العربية؛وجعلها ترتاد آفاقا إبداعية تروم الاحتفاء بالذات؛ احتفاء جماليا متشحا ببعده الإنساني،راسمة ملامح صوت شعري يغوص في كوامن الأعماق؛ لتأثيث التجربة الشعرية بصبغة التجديد والإبداع النابع من صلب المعاناة والمجاهدة؛ التي خاضتها الذات في عوالم واقع يتسم بالأوجاع والجروح المنغرزة في جسد معطوب بالانهيارات والهزائم،وهذا يدل على أن الشاعر عبد لله راجع شاعر من سلالة الشعراء التروبادوريين المشائين الذين اختاروا الإقامة في تخوم العزلة الوجودية،ومكمن هذا العمق الإبداعي وأصالة الرؤية الشعرية التي تتصف بإعطاء مسافة للتأمل والإمعان في عالم منذور للأعطاب؛بل استطاع أن يؤسس تجربة شعرية تمتاح من معين الحرقة والاغتراب؛مما أسهم في إغناء التجربة وإثرائها،وتشكل بنية التجاوز ملمحا من ملامح شعرية النص الراجعي(نسبة إلى راجع)،وهي بنية مفتوحة على دلالات ممتدة في التعدد التأويلي،إذ لا يمكن القبض على المعاني النصية إلا بعد جهد جهيد؛ ذلك أن النص الشعري متشرب من روافد معرفية وفلسفية؛شعرية وفكرية مما يتطلب الغوص عميقا في ثنايا النص؛ للوقوف على أبعاده الجمالية والفنية.
(2) التجربة والامتداد الإبداعي:
إن المتأمل ،في التجربة الشعرية للشاعر عبد لله راجع ،لابد أن يقف بشكل عميق عند السمات الإبداعية التي تنماز بها هذه التجربة الثرية،حيث نجد الشاعر منشغلا بجمالية شعرية تستضيف أصوات إبداعية شعرية لها امتدادات في الموروث الشعري العربي؛ و الموروث الفكري ،المعرفي والإبداعي الغربي،إذ تمكن الشاعر من امتصاص التراث العربي؛والثقافة الغربية مما أسهم في إعطاء التجربة الشعرية لديه صوتها الشعري المتفرد والمنفرد هذا من جانب؛ ومن جانب آخر نعتقد كذلك أنها تجربة منخرطة في حداثة شعرية منشغلة بحرقة الإبداع وأسئلته؛ ومتفاعلة مع سؤال الواقع؛ مما يشي بأن عبد لله راجع من الشعراء الذين ظلوا مخلصين لمشروعهم الشعري المتميز بطروحاته الإبداعية التي اختارت التجديد والإيغال في عوالم الذات الملتبسة؛ والتأمل في كون ملغوم بمفارقاته وأسئلته الوجودية، ذلك أن النص الشعري لدى راجع نص مترع بالتاريخ، والرموز الثقافية والسياسية والشعرية؛ التي لعبت دورا هاما في الثقافة والإبداع العربيين، والأساطيرالتي تزيد التجربة الشعرية حياة إبداعية أبدية، مع الإشارة إلى الاحتفاء بالشخصيات والثقافة المحلية؛ فقد استطاع أن يؤسطرشخصياته الشعرية التي تحولت إلى أيقونات ذات أبعاد دلالية؛ تضفي على المتن الشعري شحنات إبداعية ؛وايحاءات جمالية وفنية. و يتضح هذا، من خلال، ما تزخر به التجربة الشعرية للشاعر ذلك أن متنه الشعري،يكشف عن هذا الغنى الدلالي والتركيبي زالإيقاعي ،والتجربة معجونة بالألم والحرقة،بدم هوية مغربية ذات انتماء عربي موغل في المآسي،ومطوق بالهزائم،ولعل هذا الاغتراب الذي تكابده الذات الشاعرة؛ يعري حقيقة المعاناة الذاتية والوجودية؛وتسيجها رؤية مأساوية لا تقبض إلا على سراب الأحلام،واستحواذ الألم على الأمل.
(3) كارثية الجنون المعقلن:
الشاعر عبد راجع لايبدع بقلمه؛وإنما يكتب تجربته الشعرية بدم الدواخل المشتعلة بقلق وجودي وإبداعي مرماه التعبير عن الاحتراق الأبدي بجنون معقلن يحاول أن يعيد العالم إلى رشده؛بعد أن زاغ عن طريق الحق الإنساني في الحياة؛ولعل وقفة عميقة للمتن الشعري لدى الشاعر سوف يؤصل حقيقة إبداعه الشعري المعجون بدم الألم الرابض في حشاشة الأنفاس اللاهثة نحو اقتناص اللحظة الشعرية وهي في مقام البوح الباطني ؛والمقصود به ليس دلالته الصوفية؛بل معناه الإبداعي ،حيث تعترف الذات بالامحاق الذي يلاحقها في أمكنة القهروالقتل، السفك والدمار؛لكن الشاعر يحيا حياة الحلم والقراءة،حلم يقود الذات إلى عوالم مضيئة،مزهرة،مبتلة بماء الانبعاث،وقراءة تحول الرؤية إلى رؤيا قوامها الفرح أو الانعتاق من أغلال الموت الذي يقض المضاجع ،ويصب الأحلام في مقتل يقول عبد لله راجع:
«ها أنذا أحلم يا دار القهر الصفراء
بعيونك تُشرق بعد النكسة والإعياء
بالطرق المبتلة تزهر في حضرة ميراث الأموات
أحلم بالمطر الدافئ يغسل أرصفة الأعين
(لوَّنها غبش الحزن) وكل الجدران المطلية بالقار
(..............)
ها أنذأ أقرأ في كَفِّك باب الفرح الآتي...أُبْصر
ظلك.. يمتد «ص13
بين الحلم والواقع تنوجد الذات أسيرة الحزن، رهينة مدن مرضوضة وزمن مغتم كمتواليات معجمية تبرز الرؤية الكارثية للعالم المتحكمة في كتابة المعاناة وحالات الاغتراب بإبداعية شعرية تقول الخيبة والنكسة بلغة ممزوجة بالأرق والقلق بعدما بقيت الذات وحيدة تجتر ذكريات الأحبة التائهين في صحراء الغربة والضياع يقول:
«أضعتك حين لاحت خيل أبريل الرمادية
تدك الصحو في نهم سنابكها التفسخ جبهة الأفق
على خطو الرياح،أضعت جسمك فانحدرت إلى السفوح
(.......)
غريبا كنتُ..لا زادولامأوى..سوى شبقي
يخوض إليَّ أحراش المتاهة كلما عصفت بي الأنواء
هو التيه»ص15
إن الذات الشاعرة تكشف عن مكابدات الشتات والضياع؛ بفعل ما لحقها من انكسارات رهيبة؛ ومن تم دخلت متاهات لامتناهية من العذابات و الخيبات بعد خيانة الأحبة مواسم السفر، لتعثر الذات عن كينونتها رهينة التشظي الوجودي والواقعي؛ مما زاد من حدة التمزق؛ الذي يعبر عن حيرة الذات أمام المتاهات، التي تزيد التوتراحتداما وشراسة ،خصوصا في ظل التيه؛ كتيمة موضوعية تعري اغتراب الشاعر في عالم موسوم بالانعطافات التاريخية الموشومة بالخيبات المتتالية لواقع يرزح نحت سلطة القهر والاستبداد. ولعل ما يسري في الواقع له تجلياته على التجربة الشعرية لعبد لله راجع ، فهذا الاخير ظل ملتصقا بالهم الجمعي ومنغمسا فيه ،غير أن التعبير عنه شعريا لم يكن بأسلوب محاكاتي؛ بل بصيغ شعرية عميقة أُسُّهَا مقومات البلاغة العربية ،ومِلْحُهَا الانفتاح على البلاغة الغربية مما زاد من بهاء التجربة ؛ وأصالتها الشعرية، يقول الشاعر معتمدا على مرجعيات تاريخية و تراثية ،حضارية وأدبية،أسطورية ومحلية الشيء الذي أسهم في جعل التجربة محتضنة هذا الزخم المتفاعل والمتماهي مع هذه المرجعيات التي بدونها لن تستقيم أية تجربة كيف ما كانت،يقول الشاعر:
«رياح الحزن أشعلتِ الموانئ لحظة اشتاقت
عيون الصحب للإبحار
تمدّد في سرير الموج لون حديثهم، ضحكاتهم(إذ
تعبر الأحزانَ والأسوار
فراشاتٍ تدق نوافذ الرؤيا) وئيدا يشرب الميناءُ
بَسمتَهم «ص18
إلى أن يقول:
«أنا فرِحٌ ..سيول البدو تغرس أعيني بالزنبق البري تأخذني
إلى الواحات:أعلن صرخة المصلوب ترفعني
مناجل الأحراش للمدن»ص21
من هنا يمكن القول إن الذات تزداد تشظيا؛ والتجربة تتعمق في النزيف الوجودي؛ مستلهمة التوتر الحاصل بين الجواني الشعوري والبراني الواقعي؛ للتعبير عن فداحة الحزن الذي يطارد الفرح؛ دلالة على الضياع المفضي إلى متاهات الغربة والاغتراب جراء رحيل الصحب، الذين لم يتركوا في دواخل الذات الشاعرة غير ذكريات مضمخة بعطر الأحاديث الذي نام على موج البحر، والبسمة التي شربها الميناء، إن الذات تكشف عن هذا الإحساس بالخيبة والفقدان. واتخاذ الشاعر الإسباني قناعا فنيا وشعريا؛ يشكل الصوت الخفي والحفي للذات الشاعرة؛ التي تشرع النص الشعري على احتمالات جمالية تصوغ رؤياها الشعرية من هذا التثاقف الشعري، فالشاعر لوركا ماهو إلا مرآة للذات الشاعرة ، من خلاله ،تفصح عن تراجيدية واقع أكثر عجزا وذات متلفعة برياح الحزن والشجن . و تقنية الأقنعة هذه قد تم توظيفها من لدن الشعراء العرب لتمرير المواقف والتعبير عن الرؤى الإبداعية التي تشكل خلفية شعرية للعملية الشعرية لديهم؛ تستقي مقوماتها الجمالية من هذا الموروث الشعري الإنساني؛ ولقد برع الشاعر عبد لله راجع في استثمار وسيلة القناع بشكل أضاف للنص الشعري أبعادا دلالية قابلة لتآويل وقراءات متعددة ، هكذا نجده يتماهى مع الشاعر الصعلوك عروة بن الورد كَسِيرَةٍ وجودية تمثل مرجعا أساسا في خلق تجربة شعرية لها امتدادات في الذاكرة الشعرية يقول :
« بين عيني ومن خلفوني ألوك انكساري
يد الحزن ترسم فوق جبيني حروف التعطش للمطر ارتعشت
لغتي حين اخبرتهم أن رائحة الموت قد عسكرت
والطريق التي يعرفون ملامحها امتلأت حرسا
(..........)
أراقب وجهي تغرِّبُه البيد في وطن
ليس فيه سوى القيظ ، فارتفعت راية.قلت
هل أزف الوعد ؟
(.......)
لغة اليتم وجهي..ينكس رايته القيظ في وطن
حين تنضج فيه الثمار يموت الرجال
أسقطتني يد عن جوادي .. يد
أحدثت في الدواخل شرخا..تمنيت لو أسقطتني الرمال انتهيت»ص28
إن المحمول الشعري؛ يفصح عما تتكبده ذات الشاعر عروة؛ من مكابدات حيث الانكسار والحزن والموت سمات موضوعاتية تؤثث فضاء النص الشعري؛وتسم الرؤية الشعرية ، وعليه فهذه المكابدات ما هي إلا تعبير عن مكابدات الشاعر عبد لله راجع ، وبالتالي يكون مصير النفي والتشرد والضياع الذي يعيشه الشاعر عروة هو مصير الشاعر؛ لأنهما وجهان لعملة المكابدات . فالمصير هو مصير الانكسار والشروخ . داخل النسق النصي يتخلله الاتكاء على الموروث الديني ، فحضور النص القرآني ،عبر قصة مريم وهي سليلة المعاناة كما هو حال الشاعر يقول،
« قلت لكم: هزوا النخلة ،تسَّاقط ثمرا
قلت: انتشروا
في الأرض فلا يعرف أوجهكم إلا الرمل- الصبار انتشروا
غيما او مطرا»ص30
هذا التوظيف الإبداعي لقصة مريم زاد من وهج التجربة الشعرية، وعمق من رؤيتها المؤسسة لقصيدة تحتفي بالألم الإنساني حيث الوطن يرسمه القهر؛ ومع ذلك؛ فالذات الشاعرة متشبثة بالوطن؛ ومتماهية معه حد الفناء يقول:
« من أجلك يا وطنا يرسمه القهر على جدران القلب
ها أنذا أترك ظل حبيبي وعيون حبيبي
كي أتبع ظلك
ها أنذا اتحول فيك حقيبة عشق يا وطني أرسم لك
خارطة فوق الجدران.. وأكتب في منطقة فيها
باللون الأحمر:هذا بيت حبيبي» ص47
أليس الشاعر هنا في حال صوفية حيث الذات تحل في الوطن والوطن يحل فيها؛ ليشكلا معا وطنا واحدا الحب سِمَتُه ؛ لذلك يسعى إلى التضحية من أجله حتى يظل الوطن حيا وأبديا. فذاكرة الشاعر طافحة بهذا النزيف الإنساني منذ الوجود الأول للإنسان ؛ والشاعر سليل هذه العذابات الوجودية يقول:
« أحمل في جمجمتي تاريخا يبدأ من جسد الحلاج
من أعصاب البصرة قص ظفائرها الحجاج
وأنا ..سفر عبر متاهات الكرة الأرضية
قارورة أسرار تتقاذفها الأمواج
أتعفن في ذاكرتي أو أرشق بالدم والملح أصير
محتقنا بالكلمات الملغومة
كالديوان الممنوع» ص62
فالذات الشاعرة؛ تحمل جرح الأبدية التي ورثها من ميراث الإنسانية الضاربة في العذاب والمعاناة ، فهو ينتسب إلى سلالة المارقين عن المألوف والثابت ليؤسس لتجربة ذاتية تمتح من نسغ الألم والمكابدة، خالقة نصية شعرية تحتفي بعوالم الغربة والاغتراب بإيقاعية الدواخل المرتجة بعواصف الشجن؛ وحرقة التجربة النابعة من خفق نازف بالتيه والسؤال عن كوامن الكينونة . لكن الشاعر وللتخفيف من حدة هذا التمزق الداخلي؛ والخراب الخارجي في القيم النبيلة؛ يلوذ بالتاريخ ليستلهم منه ما يغذي الروح بالأمل المحجب بليل مدلهم في سماء الواقع، هكذا نجد الذات تلبس قناع محمد عبد الكريم الخطابي ، في احتفالية شعرية ذات أبعاد جمالية وفنية، ليخلق خطابا شعريا؛ قوامه التماهي مع التراث تاريخيا، من خلال أعلام ، لهم مكانتهم في المقاومة وأدبيا عبر استلهام شعراء وأدباء وحضاريا توظيف ماهو مشترك بين البشرية ؛ مما ميز التجربة الشعرية بالدهشة الإبداعية،والثراء الموضوعاتي، يقول :
« لجبال الريف عيون ترصد أمواج البحر المتوسط
كيف افتضت حين افتضت سفن الغزو شواطئ سبته
وامتلأت برذاذ الدهشة والحزن عيون الأطفال
لم تصهل في منعرجات الريف خيول الخطابي
أو تتحرك راياتك يا أنوال؟»ص72
تستحضرالذات الشاعرة هذه الوقائع الحافلة بالنصر؛انطلاقا من الحاضر المعبر عن الشلل والعجز؛والممتد شروخا؛ الشيء الذي أدى بها إلى الشعور بالغربة داخل سبتة السليبة التي لم تعد خيول الخطابي تصهل فيها وتصول، فقناع الخطابي ما هو إلا وسيلة لرفض واقع الاحتلال، وقد عبر عن ذلك بجمالية شعرية تؤرخ لمكابدة الاغتراب . وما يمكن قوله هو إن بنية الانكساروالخيبة تجلل الخطاب الشعري عند عبد لله راجع،وهي بنية تنسجم مع الرؤية الشعرية التي تشكل منطلق العملية الإبداعية .
(4) التجربة الشعرية البصرية:
لقد شهدت التجربة الشعرية لدى عبد لله راجع تحولات؛ كان لها الدور الفعال في تطعيم النص الشعري بالتجديد و الخلق؛ ولعل التجربة الكاليغرافية خير معبر عن هذا التحول ؛ حيث تم الانتقال من النص ذي الصوت إلى النص البصري؛ فالمتلقي يحقق متعتين؛ متعة القراءة للقصيدة كمكتوب ومتعة القراءة البصرية، هذا التوجه في كتابة النص تدخل في سياق الاحتفاء بالخط المغربي الضارب في عمق الحضارة المغربية والعربية ، ويتساوق أيضا مع الهاجس الإبداعي المتمثل في خلق قصيدة عربية ذات ملامح مغربية، أي تتمتع بالتكهة المغربية . ويتجلى هذا الملمح في ديوان «سلاما وليشربوا البحار» الذي يشكل انعطافة في التجربة الشعرية ذلك أن العين تعثر عنها أسيرة كتابة غير مألوفة ، وهي كتابة مكتوبة بالجمر لم تتخلص من جرحها الشعري؛ المتجلي في التعبير عن جراحات الذات؛ وأسئلة المرحلة التاريخية الحارقة مما فرض على الذات أن تحيا في غربة قاسية يقول:
« هو الحزن الثقيل يعود
هي السحب استمدت شكلها من فرقة الأحباب
من لوني
هي الغربة
وفي الوطن الذي يمتد من أقصى الخليج إلى المحيط
نعانق الغربة «ص 149
ويقول أيصا :
«أنا التيه والقيظ ، لو أستطيع أشرت إليك
بسبابتي ثم أعلنت للناس أنك ما ملكته يدي
من تراب الوطن»ص185
فالملمح الاغترابي هو ما يميز الخطاب الشعري؛ فالشاعر أمام هذه الغربة، لايمتلك سوى التيه لمداواة الحزن العائد من جديد، دلالة على المكابدة الذاتية في وجود عربي، لا تسوده غير الغربة، وأقسى غربة هي غربة الوطن، أليس هذا حجة على أن الشاعرعبد لله راجع؛ من الشعراء الذين يكتبون تجربتهم الشعرية، من نزيف الذات وفظاعة العالم؛ الذي يسرق الأحلام من المضاجع يقول:
« الليلة أرفع نخب الزمن الرائع يا روبرت
الليلة بالوطن القاتل في مشيته أحلم
بالبسطاء يزيلون االعرق اليومي
ويأتون صفوفا كي يهبوا الشاعر وردا،أحلم
بالعشق الأنقى ،بالخبز الأنقى، أحلم» ص227
فالتجربة الشعرية تؤسس خطابها الحلمي من الاندغام مع الهم الجمعي حيث البسطاء يمنحون الشاعر الورد دليل على الحياة،أي يشكلون سندا في خلق الرؤيا الشعرية التي تستشرف الآتي المحمل بالمحبة والحياة.
على سبيل الختم:
أعتقد أن التجربة الشعرية، للشاعر المغربي عبد لله راجع، قمينة بالإنصات والتأمل، نظرا للثراء التيماتي ،والعمق الجمالي الحامل لرؤيا شعرية تؤثث الشعرية العربية ،وتخلق نصية شعرية باذخة بالأصالة الإبداعية التي تتماهى مع الخارج النصي في علاقة تواشجية تضفي على التجربة امتدادها في تاريخ الإبداع الإنساني .
*عبد لله راجع، الأعمال الكاملة، منشورات وزارة الثقافة،2013.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.