المغرب يستعد لإطلاق خدمة الجيل الخامس من الانترنت    حملة اعتقال نشطاء "مانيش راضي" تؤكد رعب الكابرانات من التغيير    بقيادة جلالة الملك.. تجديد المدونة لحماية الأسرة المغربية وتعزيز تماسك المجتمع    فرنسا تحتفظ بوزيري الخارجية والجيوش    دياز يشيد بوفاء مبابي ب"وعد التمريرة"    العراق يجدد دعم مغربية الصحراء .. وبوريطة: "قمة بغداد" مرحلة مهمة    إدانة رئيس مجلس عمالة طنجة بالحبس    إرجاء محاكمة البرلماني السيمو ومن معه    "بوحمرون" يستنفر المدارس بتطوان    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الثلاثاء            أخبار الساحة    الدار البيضاء.. توقيف المتورط في ارتكاب جريمة الإيذاء العمدي عن طريق الدهس بالسيارة    تقديم «أنطولوجيا الزجل المغربي المعاصر» بالرباط    أجماع يعرض جديد حروفياته بمدينة خنيفرة    الأزمي: لشكر "بغا يدخل للحكومة على ظهرنا" بدعوته لملتمس رقابة في مجلس النواب    في الحاجة إلى تفكيك المفاهيم المؤسسة لأطروحة انفصال الصحراء -الجزء الثاني-    أطباء القطاع العام يخوضون إضرابا وطنيا لثلاثة أيام مع أسبوع غضب    تقديم العروض لصفقات بنك المغرب.. الصيغة الإلكترونية إلزامية ابتداء من فاتح يناير 2025        بمناسبة رأس السنة الأمازيغية.. جمهور العاصمة على موعد مع ليلة إيقاعات الأطلس المتوسط    بووانو: حضور وفد "اسرائيلي" ل"الأممية الاشتراكية" بالمغرب "قلة حياء" واستفزاز غير مقبول    فيديو "مريضة على نعش" يثير الاستياء في مواقع التواصل الاجتماعي    الكرملين يكشف حقيقة طلب أسماء الأسد الطلاق ومغادرة روسيا    بنما تطالب دونالد ترامب بالاحترام    النفط يرتفع مدعوما بآمال تيسير السياسة النقدية الأمريكية    أسعار اللحوم الحمراء تحلق في السماء!    غضب في الجارة الجنوبية بعد توغل الجيش الجزائري داخل الأراضي الموريتانية    محمد صلاح: لا يوجد أي جديد بشأن مُستقبلي    تعيين مدرب نيجيري لتدريب الدفاع الحسني الجديدي لكرة الطائرة    الجزائريون يبحثون عن متنفس في أنحاء الغرب التونسي    نيسان تراهن على توحيد الجهود مع هوندا وميتسوبيشي    "سونيك ذي هيدجهوغ 3" يتصدر ترتيب شباك التذاكر    تواشجات المدرسة.. الكتابة.. الأسرة/ الأب    سوس ماسة… اختيار 35 مشروعًا صغيرًا ومتوسطًا لدعم مشاريع ذكية    تنظيم كأس العالم 2030 رافعة قوية نحو المجد المغربي.. بقلم / / عبده حقي    أبرز توصيات المشاركين في المناظرة الوطنية للجهوية المتقدمة بطنجة    إعلامية فرنسية تتعرض لتنمر الجزائريين بسبب ارتدائها القفطان المغربي    إدريس الروخ يكتب: الممثل والوضع الاعتباري    تصنيف التنافسية المستدامة يضع المغرب على رأس دول المغرب العربي    شركة Apple تضيف المغرب إلى خدمة "Look Around" في تطبيق آبل مابس.. نحو تحسين السياحة والتنقل    السلطات تمنع تنقل جماهير الجيش الملكي إلى تطوان        الموساد يعلق على "خداع حزب الله"    شركات الطيران ليست مستعدة للاستغناء عن "الكيروسين"    حكيم زياش يثير الجدل قبل الميركاتو.. الوجهة بين الخليج وأوروبا    مواجهة نوبات الهلع .. استراتيجية الإلهاء ترافق الاستشفاء    إنقاذ مواطن فرنسي علق بحافة مقلع مهجور نواحي أكادير    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



معالم المنهج في كتاب "الذات المغتربة والبحث عن الخلاص" لعلي العلوي
نشر في طنجة الأدبية يوم 10 - 10 - 2014


مقدمة:
اَلكتابُ الذي بين أيدينا هو ثالثُ الأعمال التي صدرت للكاتب المغربي د. علي العلوي في مجال النقد الأدبي، ولاسيما نقد الشعر في بُعْديه النظري والتحليلي ، إلى جانب ديوانين شعرييْن صدر أولهُما بوجدة، عامَ 2004، بعنوان "أول المنفى"، على حين صدر له الثاني، وعنوانُه "شاهدة على يدي"، عامَ 2008، عن دار شمس للنشر والإعلام بالقاهرة. ويُضاف إلى ذلك عشرات من النصوص الشعرية والمقالات التي نُشرت له في صُحف ودوريات مغربية وعربية. ويظهر ممّا ذُكِر، بجلاء، أن العلويّ ظلّ وفيّا لمجال الشعر، مُسْهِماً فيه إبداعاً ونقداً، دون أن يعنيَ ذلك مطلقاً عدم انفتاح الكاتب على فنون وأجناس أدبية أخرى، وعدم إفادته منها أشكالاً من الإفادة، بل المقصود أنه خصَّ الشعر وَحْدَه بالكتابة، من بين سائر مجالات الأدب الكثيرة، مُخالفاً بذلك النهج الذي ارتضاه كثير من الأدباء الذين تجدُهم يكتبون ويبدعون في أكثر من فنّ.
ويلمس قارئ كتابات علي العلوي مدى تميُّزها وعُمْقها ورصانتها، وليس ذلك بالأمر الغريب على كاتبنا الذي عَوّدنا على إبداعات شعرية تجتمع فيها الأصالة والفَرادَة والألق الفني، وتنمّ عن تمكُّن مُبْدِعها من اللغة والإيقاع والتصوير ونحوها من مقوِّمات الكتابة الشعرية المعروفة... وعلى دراسات نقدية جادّة ورصينة تعكس سَعة اطّلاع الكاتب على تاريخ الشعر العربي ونظريته، واستيعابَه مناهجَ دراسة الظاهرة الأدبية وإوالياتها الإجرائية، وعُمْق فهمه وتفاعله وتذوقه السليم للشعر العربيِّ قديمِه وحديثِه.
ولا شك في أن الوجه الأدبي الأول للكاتب – ونَعْني به علي العلوي الشاعر – قد كان مُعيناً أثّر، إلى حدّ بعيد، في بلورة وجهه الأدبي الثاني، المتمثل في إسهامات العلوي النقدية، وآخرُها كتابُه "الذات المغتربة والبحث عن الخلاص"، الصادر، حديثاً، عن دار الوطن بالرباط، في 295 صفحة من القِطْع المتوسط، وهو – في الأصل – أطروحة الباحث التي تقدَّم بها، عامَ 2011، لنيل درجة الدكتوراه في الأدب العربي، من كلية آداب وجدة، بإشراف الدكتور محمد وراوي، وعنوانُها الأصلي هو "الاغتراب في الشعر المغربي المعاصر".
لا يخفى على النقاد والمهتمّين بالأدب العربي الحديث والمعاصر ما كُتب من أبحاث ودراسات عن موضوع الغربة والاغتراب في هذا الأدب، بقديمه ومُحْدَثه، فضْلاً عن تلك التي تطرقت إلى تناول مفهوم الاغتراب في الحُقول المعرفية الأخرى الكثيرة التي استُعْمِل فيها. إلا أن لدراسة د. العلوي هذه جملةً ممّا يُميّزها فعلاً، أهمّها أنها مخصَّصة، بالكامل، لمعالجة ظاهرة الاغتراب في الشعر المغربي المعاصر، من حيث بيانُ مسبِّباتها ومظاهرها وردود فعل الشعراء تجاهها، وأنها عميقة وغنية، فكرياً ومنهجياً، ومكتوبة بلغة ناصعة مُشْرقة وعلمية في الآن نفسِه. ولَمّا كان تناول الكتاب من هذه الجوانب كلِّها – ومن غيرها ممّا لم نُشِرْ إليه – غيرَ ممكن في مقال مركّز كهذا، فقد ارتأينا الوقوف عند أحدها فحَسْبُ، ويتعلق الأمر بالجانب المنهجي للكتاب، لِمَا له من أهميةٍ خاصة فيه؛ أهميةٍ تنبع من كون القضية المنهاجية هي العامل الحاسم في ضمان قراءة معمّقة ومُسْتوعِبة للمدروس، في حال التوفُّق في اختيار منهج المقاربة بما يتناسبُ مع طبيعة المقروء في حدّ ذاته.
وقبل تفصيل الكلام عن منهج كتاب العلوي، لا بأس من الإشارة، بعُجالة، إلى موضوعه الأساس، الذي عليه مدارُ الحديث كله. فالكتابُ – كما يتضح من عنوانيْه المُومَإ إليهما سابقاً: العنوان الأصلي، والعنوان الذي نُشر به – يتطرق إلى تسليط ضياء كاشفة على موضوعة الاغتراب في الشعر المغربي المعاصر المكتوب باللغة العربية، وقد اختار الاقتصار على بحْث الموضوع في إبداعات اثنين وعشرين من شعرائنا الذين كتبوا القصيدة المغربية المعاصرة، منذ السبعينيات بالأساس؛ وذلك من زوايا ثلاثٍ مهمة تجسّدها الأسئلة الثلاثة الآتية التي طرحَها الناقد نفسُه في مقدمة كتابه:
- ما الذي ساهم في توليد مشاعر الاغتراب لدى الشاعر المغربي المعاصر؟
- ما هي ملامح الاغتراب في الشعر المغربي المعاصر؟
- ما هو ردّ فعل الشاعر المغربي المعاصر المُغترِب تُجاه مشاعر الاغتراب لديه؟
وهذه الأسئلة فرعية اشتقّها الكاتب من سؤال محوري أدار مِنْ حوله فصولَ الكتاب ومباحثه كلَّها، وجاء قبلها، ونصُّه: "هل هناك شعراء مغاربة معاصرون مُغْتربون؟" .
وسنتناول منهج كتاب "الذات المغتربة والبحث ع الخلاص" من نواحٍ ثلاثٍ تعكس معانيَ ثلاثةً لمفهوم المنهج نفسِه، وتقوم العلاقة بينها على التكامل والتضافر؛ ممّا مكّن الباحثَ من معالجة قضية عمله الرئيسة، ومن بناء هيكله العام، بطريقة مُحْكَمة ومتماسكة وناجعة. ونقصد بتلك النواحي ما يأتي:
أ- المنهج بمعنى كيفية بناء صرح الكتاب، وترتيب عناصره:
يتألف كتاب العلوي من مقدمة مركزة، ومدخل نظري، وأربعة فصول، وخاتمة تركيبية جمعت أهم خلاصات الدراسة. بحيث ضمّن مقدمة بحثه جملة من المقوِّمات والأمور الأساسية؛ من مثل موضوع الكتاب، وأهميته، ودواعي الاحتفال به، ومُحتواه، وأهم ملامح منهجه. وخصّ المدخل بالحديث، بإفاضةٍ، عن مفهوم الاغتراب في اللغة والاصطلاح العلمي والفكري، مؤكداً أنه أضحى أحد مَيَاسِم عصرنا الحالي، وأنه ما يزال محفوفاً بغشاوة من الغموض؛ إذ إنه – رغم كثرة ما كُتب عنه غرباً وشرقاً – لم يُسْتطَعْ تدقيقُ مفهومه، والخروج بتعريف جامع مانع له؛ كما يقول المَناطِقة، وذلك – في واقع الأمر – شأنُ المفاهيم الأساسية في كل حقول المعرفة؛ كما سبق أن أكّد المرحوم محمد عابد الجابري. إن هذه الصعوبة الفعلية لم تكن لِتمنع الباحث العلويَّ من بذل قصارى جهده في محاولةِ ضبط مفهوم "الاغتراب"، في الثقافتين العربية والغربية، قديماً وحديثاً، وبحْث أصوله وتطوره الدلالي عبر تاريخه، وإثارة جملة من قضاياه ومسائله المُلِحّة.
وعقد الباحث أولَ فصول كتابه، بمباحثه الأربعة، للحديث عن الواقع المغربي، سياسياً واجتماعيا واقتصاديا، خلال فترتي الحماية والاستقلال، مُحاولاً رصدَ اختلالاته ومظاهر تأزُّمه، وكذا الجهود الإصلاحية المبذولة لتجاوزه في اتجاه تحقيق التنمية والرفاه والرقي في مدارج التحضر والتمدُّن. لقد قصد الناقد، من عقْده هذا الفصل، بيانَ السياق العام الذي ولّد مشاعر الاغتراب والاستياء والانكسار لدى كثير من شعرائنا المعاصرين الذين تأثروا بواقع بلدهم الذي خَيَّب آمالهم في عدة مجالات، فانبروا للكتابة عنه ناقلين ما يسوده من أزمات واختلالات وانتكاسات، بكثير من الألم والحرقة، ومعبِّرين عن مواقفهم منه تصريحاً أو تلميحاً.
وبعد تبيانه أسبابَ الاغتراب لدى الشاعر المغربي المعاصر، انتقل – في الفصلين المُوالييْن – إلى توضيح تجليات هذا الاغتراب وملامحه وأشكاله، وهي كثيرة ومتنوعة، ولكنه آثَرَ – بعد محاولة استقصائها – تجميعها واختزالها والوقوف عند أهمّها، وقد خَلَصَ إلى أن أبرز هذه المظاهر الاغترابية هو الاغتراب الذاتي الذي تتفرّع عنه باقي الأنواع، وتتصل به بشكل من الأشكال. وهو اغترابٌ يتمحْوَر حول الذات نفسِها، بوصفها منبعَ هذا الإحساس القاسي وموضوعَه في الآن عَيْنِه. وليُسلّط الكاتب الضوء أكثر على علاقة الشاعر المغترب بالمكان، ممثَّلاً على الخصوص بفضاءَي المدينة والسجن، أفرَدَ حيّزا مهما من كتابه للحديث عن الاغتراب المكاني الذي لا تخفى صلته، هو الآخر، باغتراب الذات. ودرَسَ النوعيْن الاغترابييْن معاً من خلال جملة تيمات معنوية أفصحت عنها نصوصُ الشعراء المغاربة المدروسة نفسُها. فقد تبدّى للباحث، على سبيل المثال، أن الاغتراب الذاتي في هذه النصوص تجسّده ثلاث موضوعات بارزة، من غير ادّعاء الإحاطة الكاملة بها كلها، أوْضَحَها – بتفصيل – في مباحث الفصل الثاني الثلاثة (الصمت أو البكاء غير الدامع؛ على حدّ عبارة العلوي – البكاء؛ أي البكاء على مآل الذات والوطن والأمة – التيه والضياع). يقول في مقدمة الكتاب مؤكِّداً ما ذكر: "قسمتُ بنية الاغتراب إلى حقلين دلاليين هما: الاغتراب الذاتي والاغتراب المكاني، اللذان سيتمّ النظر إليهما انطلاقاً من تيمات محددة أفصحت عنها النصوص الشعرية المقروءة. ولقد اخترتُ أن أنحُوَ في هذا التقسيم منحىً مغايراً، بعيداً عمّا هو اعتيادي قائم على تجزيء الاغتراب إلى أنواع من قبيل: الاغتراب الاجتماعي، والاغتراب الاقتصادي، والاغتراب الثقافي، والاغتراب الصوفي، والاغتراب العاطفي، ونحْوها. ويعود هذا الاختيار إلى اقتناعٍ مفادُه أن جميع أنواع الاغتراب المذكورة إنما يمكن صهْرُها في بُوتَقة واحدةٍ هي الاغتراب الذاتي؛ إذ إن الذات الإنسانية هي الأصل في توليد الاغتراب، وهي أيضاً ما سيكون، في آخر المطاف، وعاءً له وموضوعَه" . ويضيف قائلاً: "وأما فيما يتعلق بالاغتراب المكاني، فقد ارتأيتُ فصْلَه عن الاغتراب الذاتي، حتى وإنْ كان هو الآخر لا يختلف عن الأنواع الأخرى على مستوى حُضور الذات؛ لأتيحَ لنفسي فرصة الحديث عن علاقة الشاعر المغربي المعاصر بالمدينة، ومواقفه تجاهها، وكذا عن تجربة السجن، سواء أكانت حقيقية أم متخيَّلة، مع ما تعْكسه هذه التجربة من معاناة مريرة، واغتراب شديد، داخل الزنازين المُظْلِمة" .
ولم يكن مُسْتساغاً أن يظلّ الشاعر المغربي المعاصر مكتوفَ اليدين تجاه الواقع الماثل أمامه، الباعث على التغرُّب والتبرُّم، وتجاه مظاهر الاغتراب المتنامية بحِدّة. لذا، ألْفَيْناه يجنّد إبداعه الشعري للتعبير عن رفضه وتمرده على واقع الاغتراب ومسبِّباته، وسعْيه إلى قهره والتملص من سطوته. ولهذا، نجد حضور هذا الرفض والاغتراب بصورة تلازمية في أكثر قصائد شعرائنا المعاصرين. وهي الفكرة نفسها التي سبق للراحل عِزّ الدين إسماعيل تأكيدها منذ عقود بقوله: "يظل هذان النموذجان: نموذج الغريب ونموذج الثائر، يعيشان معاً جنباً إلى جنب، ويعْكسان في الوقت نفسِه الوجهين السلوكييْن لمعنى واحد، هو معنى التمرُّد" . وإلى جانب موقفه هذا، ظل شاعرنا المعاصر مسكوناً بهاجس التغيير، وحريصاً على زرع الأمل والتفاؤل في النفوس، مبشِّراً بغدٍ أفضل ترتفع فيه مظاهر القتامة، وتتسلل البسْمة إلى وجوه المغتربين الحَيارى، وينعم المجتمع بالسعادة والوئام والهناء. وكان لا مناص – للحديث عن واقع يتجاذبه إيقاعا اليأس والأمل، وثنائيتا الاغتراب ورغبة التغيير – من توظيف الآليات الفنية القمينة بتجسيد هذا الموضوع وتقريبه، ولاسيما الرموز اللغوية وغيرها، والنماذج الأسطورية المساعِدَة على التعبير عن واقع يجمع بين مظاهر الموت والحياة؛ مما يجعله أقدر على الإقناع بإمكان البعث والتجدد وانبثاق الأمل من رَحِم المآسي والظلام، علاوة على الانفتاح على نصوص وثقافات أخرى والتناصِّ معها. ولهذا الأمر، كان الاحتفال بالجانب الفني والجمالي في الأشعار المدروسة واضحاً في آخر فصول الكتاب مقارنة بباقي فصوله.
إن بحْث د. علي العلوي، إذاً، مَبْني بطريقة مُحْكمة ومنسجمة ومتماسكة، وجامع بين النظري والتحليلي على نحو بارع وموفق ومتداخل كذلك في جملة من الأحايين. وقد أسْعفه هذا البناء المعماري على معالجة ظاهرة الاغتراب في المتن الشعري المُختار من أبرز جوانبها؛ إذ انطلق من رصد مسبّباتها وبواعثها الموضوعية والذاتية معاً، ثم فصّل القولَ عن تمظهُراتها وأشكالها الطاغية، قبل أن يختم دراسته ببيان ردّ فعل الشاعر المغربي المعاصر وموقفه منها.
ب- منهج الناقد في تناول ظاهرة الاغتراب:
لعل المنهج الأساس الذي توسّل به العلوي في تناول الموضوع المذكور هو البنيوية التكوينية؛ كما نظّر لها لوسيان غولدمان (Lucien Goldmann) في كتابه الشهير "Le Dieu caché". ويظهر ذلك من توظيفه، بصورة أو بأخرى، عدداً من مفاهيمها المركزية، وفي مقدمتها "البنية الدالة" (Structure signifiante)؛ كما يتضح، بجلاء، من قوله في مقدمة كتابه: "سيتم التعاطي مع الاغتراب، الذي يعد مفهوماً محوريا في هذه الدراسة، باعتباره بنية دالةً تنتظم حولها مجموعة من النصوص الشعرية، وتعد البنية الدالة من المفاهيم الرئيسة في البنيوية التكوينية" . وكما يتضح من قوله قبلَ ذلك: "في سياق المواكبة النقدية للشعر المغربي المعاصر، والكشْف عن بنياته الثابتة والمُتحوِّلة، يحقّ لي أنْ أسأل سؤالاً كما يلي: هل هناك شعراء مغاربة معاصرون مغتربون؟ إنه سؤال أراه محورياً في هذا الكتاب، وهو ما سأسعى إلى الإجابة عنه من خلال الوقوف عند نماذج من الشعراء المغاربة المعاصرين الذين ساهموا، بشكل أو بآخر، في تحقيق التراكم الشعري الحالي" .
والواقع أن هذه المقارَبَة تذكّرنا، مباشرة، بصَنيع محمد بنيس في كتابه "ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب – مقاربة بنيوية تكوينية" 1979، وعبد الله راجع رحمه الله في كتابه "القصيدة المغربية المعاصرة: بنية الشهادة والاستشهاد" (جزآن) 1987 – 1988. بحيث استخدم الأول منهما المنهج البنيوي التكويني في دراسة الشعر المغربي خلال الستينيات والسبعينيات، وكشَف أن بنية السقوط والانتظار هي المتحكِّمة في أكثر نصوصه. على حين وظّف الثاني المنهج نفسَه في تناول الشعر المغربي المعاصر خلال السبعينيات فتوصّل، في المآل، إلى أن هذا الشعر تسوده بنية دالة أخرى، هي بنية الشهادة والاستشهاد. وقد حرَصَا معاً على مقاربة القصيدة المغربية المعاصرة في ارتباطها الوَثيق بواقعها اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا وثقافياً. وبرْهَن ناقدنا، في دراسته هذه، على أن البنية الفاعلة والمتحكمة في هذه القصيدة نفسها، منذ الاستقلال، إنما هي بنية الاغتراب وما يتمحَّض لها من معاني الحزن والضياع والتمزق والانكسار واليأس. ولا يخفى ما لهذه البنية من صِلاَتٍ تربطها بالبنيتين اللتين رأيناهما عند بنيس وراجع، وتجعلها متقاطعة معهما في أكثر من جانب!
إن اعتماد العلوي البنيوية التكوينية منهجاً أساسيا في كتابه الذي نحن بصدد دراسته، لم يمنعه من استثمار مناهجَ نقديةٍ أخرى وتوظيفها في تناول موضوع الاغتراب في الشعر المغربي المعاصر .. مناهجَ لَمَسَ الناقد فعّاليتها في الدراسة، وقدرتها على تشريح الظاهرة المعالَجَة وكشْف جوانبها المختلفة. وقد اطمأنّ إلى هذا التخصيب المنهاجي ما دام يتيح له الجمع بين مناهج غير متناقضة، بل متكاملة ومُنْشَدَّة إلى الكائن النصّي أساساً؛ تحلله من خلال رصد ارتباطاته بجملة من المؤثرات الخارج نصية، التي تُسْهم، بصورة حاسمة، في تشكيل صَرْح النص الأدبي. يقول الكاتب: "لقد دفعتني طبيعة بعض المقاطع والنصوص الشعرية إلى الإفادة من مناهج أخرى، مثل: المنهج النفسي، والمنهج التاريخي، والمنهج الأسطوري، وغيرها، طالما أن الهدف في آخر المطاف هو توضيح علاقة النص بموضوع البحث، وطالما أن ما يجمع جميع المناهج النقدية هو النص الأدبي باعتباره موضوعاً لها" . وفيما يأتي بيانٌ لأهمّ المناهج التي استعان بها الناقد في سبيل تناول الاغتراب في إبداعات الشعراء المغاربة المعاصرين، إلى جانب المقاربة البنيوية التكوينية بأبرز مفهوماتها وميكانيزماتها؛ مِنْ مثل البنية الدالة، والوعي بنوعيه الكائن والممكن، والفهم، والتفسير:
1- المنهج النفسي: ويمكن تلمُّس حضوره في كتاب العلوي من خلال حرصه على كشف أحاسيس الشاعر وآلامه وآماله ونحو ذلك مما يعكس بُعْده النفسي. ومن النصوص الشاهدة على هذا الحضور قوله معلقاً على مقطع شعري لأحمد المجاطي أورده في سياق الحديث عن الصمت بوصفه مصدراً للأرق والأحلام الحزينة، وتجلّياً للاغتراب الذاتي: "يُنادي الشاعر، وهو في حالة أرق، كرمة العنب ليبث إليها شكواه، وليُطْلعها على حالة الجفاء والجفاف التي تحيط به من كل جانب. إنه في عزلة ووحْشة وحزن، ولم يجد أمامه سوى تلك الكرمة المنزوية في زاوية من زوايا الدار، أو في أحد الحقول البعيدة، عَساها تخفّف عنه آلامه، وتروي عطشه الشديد. يناديها ويناجيها لتشاركه في البحث عن الدفء والسكينة بعدما أرْهقه القرّ والصمت" .
2- المنهج التاريخي: ويقتضي ربط العمل الإبداعي بسياقه التاريخي، والبحث عن العوامل المؤثرة فيه، والنظر إليه بوصْفه أشبهَ بوثيقة تعكس جوانبَ من اللحظة الحضارية التي أُنتِج فيها، علاوة على محاولة تحقيب الأدب، وتتبُّع تطوره عبر التاريخ. ويتضح لِمَنْ يتصفح الكتاب أن صاحبه كان حريصاً على ربط بعض الأشعار بمرجعيتها التاريخية، وعلى بيان مظاهر ارتباطها بسياقها الخارجي. ونستدلّ على ذلك، مثلا، بقوله معلقاً على مقطعٍ للشاعر عبد الكريم الطبال يُحيل على بعض السلوكات غير الديمقراطية التي ميّزت مرحلة من تاريخنا المعاصر: "يصور الشاعر الطّبّال حالة القمع وتكميم الأفواه التي كانت عُملة سائدة في الفترة السابقة، وإنْ عرف الوضع بعض الانفراج خلال العقد الأخير. ولعل الذي كان يجرؤ على الكلام، وانتقاد السياسات المتّبعة في البلاد آنئذٍ، كان مصيره الاختطاف، فأقبية الزنازين، فالتعذيب الشديد، إلى درجةٍ قد يلقى فيها حتْفه المحقق" .
3- المنهج الواقعي الاجتماعي: وهو منهج نقدي، يقترب - من بعض الوجوه - من سابقه. ولا يجد القارئ صعوبة تُذكَر في تلمُّس حضوره داخل كتاب العلوي؛ ذلك بأن شواهده فيه من الوفرة بمكان، ولاسيما في الفصل الذي عقده الناقد للحديث عن الاغتراب المكاني وتيماته البارزة في المتن الشعري المدروس. ويقوم هذا المنهج – كما هو معروف – على ربط الظاهرة الأدبية بالبِيئة والواقع الاجتماعي والسياسي الذي أنتِجَت فيه، مِنْ مُنْطَلَق تأثر الأديب بهذا الواقع تأثرا يدفعه إلى التعبير عنه، بأي صورة من الصور. ونكتفي، للتدليل على توظيف الكتاب هذه المقاربة السوسيولوجية، بقول العلوي محلِّلاً مقطعاً للشاعر الحسين القمري يصوّر فيه مدينته بوصفها بؤرة للبؤس والشقاء: "يصور القمري حالة البؤس التي يعيش فيها عددٌ كبير من الناس بمدينة الناظور، إلى درجة أن الرجال اختلطوا بالقطط الشريدة، فصاروا مشرّدين مثلها؛ فمنهم مَنْ يبحث عن لقمة العيش من خلال التهريب، ومنهم مَنْ يتسوّل الناس لسدّ رمقه وإرواء عطشه، ومنهم من يبحث عنها في أكياس القمامة يتسابق في ذلك مع القطط والكلاب الضالّة" .
4- المنهج الفني: ونقصد به تلك المقاربة التي تُعْنى بدراسة النص شكليا وجماليا؛ فتتناول معجمَه اللغوي وصورَه الفنية، سواء المبنية وَفق تقنيات البلاغة الكلاسيكية أو المَصُوغة باعتماد آليات حديثة، وكذا أساليبَه وتراكيبَه وموسيقاه ونحو ذلك. وقد استند الكاتب إلى هذا المنهج في كثير من الأحيان، ولاسيما في الفصل الأخير من عمله النقدي هذا. إلا أنّ حُضوره لم يَرْقَ إلى درجة حضور المناهج السياقية التي وقفنا عندها آنفاً، كما أنه لم يغفل استحضار المعطيات الخارجية الفاعلة في النصوص لدى تطرُّقه إلى كثير من المظاهر الفنية والصِّياغية والبنائية للشعر المغربي المعاصر. ويدلّ على توسُّل ناقدنا بالمنهج الفني، على سبيل المثال، استفاضتُه في الحديث عن أبرز الرموز الدالة على الثورة والغضب في المتن الذي دَرَسَه، وهي النار والريح والدم، وفي حديثه عن أهمّ النماذج الأسطورية التي انفتح عليها شعراؤنا المعاصرون، واستلهموها في نظْم قصائدهم، وذلك بالنظر إلى ما تتيحه من إمكانات دلالية مهمة، وإلى ما لها من أبعاد جمالية وفنية واضحة. وقد وجد الشاعر المغربي المعاصر في أساطير مِنْ قبيل بروميثيوس، وعشتار، والفينيق، والسندباد دعاماتٍ ثقافيةً ومقوّمات فنية غنيّة لتجسيد مشاعر الرفض والتمرد على الواقع المَوْبوء من وجْهة، وللتحفيز على التغيير، ولزرع الأمل في الأنفس اليائسة بما يجعلها مؤمنة بإمكانية الحياة والبعث بعد الموت والانكسار من وجهة ثانية.
ج- معالم منهج الكاتب في قراءة النصوص الشعرية:
لقد اعتمد العلوي، كذلك، في تناول ظاهرة الاغتراب في شعرنا المعاصر منهجاً ينطلق، في الأغلب، من استنطاق المقاطع والنصوص الشعرية، جاعلاً إياها مصدره الأساسَ في تبيان ملامح ذلك الاغتراب وتجلياته، وفي كشْف موقف مُبْدِعي تلك النصوص من واقع الاغتراب والضياع والهزيمة. ويتضح من قراءة الكتاب، بإمعان، أن طريقة الناقد في قراءة نصوص الشعراء المُسْتشْهَد بها لم تكن واحدة، بل نستطيع أن نرصد، ها هنا، جملة من صور تعامل العلوي مع هذه المتون الإبداعية، ولعل أهمّها ما يأتي:
1- الوصف والتحليل: وقد يمكننا التعبير عن هذا الشكل من أشكال التعامل مع النصوص باصطلاح "الفهْم"؛ كما هو متعارَف عليه في البنيوية التكوينية. وفي هذا الإطار، يُكتفى بتقديم توصيفٍ للنص يطغى عليه طابَعُ الموضوعية، وبنقل معانيه وترجمتها إلى لغة نثرية. والدلائل على هذا التحليل في الكتاب كثيرة جدّا في الفصول الثلاثة ما بعد الأول، ومثالُها قول العلوي عن مقطع لعبد الله راجع واصفاً ومحللا بما يعكس استيعابه مضمونَه: "يخاطب الشاعر عبد الله راجع النساء ليؤكد لهن أن "سناء" قد جسّدت أروع لوحة في التضحية، وكذا في الجمال؛ فجمالُ المرأة لا ينحصر فقط في الوقوف أمام المرآة لطلاء الوجه بمسْتحضرات التجميل، ولبْس أبهى الثياب وأغلاها، وإنما يتجاوز ذلك إلى النضال من أجل إحقاق الحق، وبسْط قِيَم العدل والصدق، حتى وإنْ كان ثمن ذلك هو الموت الذي لا مفرّ منه في سبيل الحياة" .
ولا يقتصر الناقد، في دراسته، على تحليل المضمون فحَسْبُ، بل نُلْفيه، أحياناً، يلتفت إلى تحليل النص المقروء فنيا، مركِّزاً على تحليل صوره البلاغية وآليات بنائها وتشكيلها (الرمز والأسطورة والانزياح الدلالي...). ومن أبرز الأمثلة على ذلك قوله محلِّلا صورة استعارية وردت في مقطعٍ للطّبّال: "يوظف الشاعر انزياحاً لغويا في قوله: "تزأر الرياح"؛ حيث يجعل الزئير صوتاً للرياح، والأصلُ أنه صوت الأسُود، وذلك من أجل تصوير حالة التشرد التي تعتريه في المدينة؛ تلك المدينة الشاسعة الواسعة بمبانيها، والآهلة بالسكان، التي ستغدو طفلة صغيرة حينما تسمع صوت الرياح، لكأنما الخوف اختزلها، فابتلعها؛ فالتجأت إلى جسم الشاعر لتنام فيه، وتحلم كيفما تشاء" .
2- التفسير: إن الناقد لا يقف، في مواضع عدة من كتابه، لدى قراءته النصوصَ الشعرية، عند حدود تحليلها، يل يتجاوز ذلك إلى محاولة تفسير معانيها، وبيان الأسباب المولِّدة لظاهرة أو لإحساس ما أو لغيرهما. ونمثل لهذا التفسير بقوله عن مقطع للشاعر الحسين القمري، حاول أن يُجليَ، في إطار تحليله وشرحه، أسبابَ عدم ارتياحه في عالم المدينة الذي تغيرت أكثر ملامحه في الوقت الراهن، وتعددت اختلالاته وتشوُّهاته: "إن التحولات، التي تعرفها المدينة، ليست، في نظر القمري، سوى تشوهات متتالية يمتد تأثيرها إلى الذات، لتصير هي الأخرى مشوّهة بفعل الاحتكاك المستمرّ والدائم بها، لذلك لم يعد أمامه إلا القول إن المدينة ليست مستقرّه ومقامه، طالما أنها مصدرُ اغترابه وتشرده، وأصلُ الرعب والخوف الجاثمين على قلبه. يقول الشاعر حسين القمري [...]. واضح أنه لن يجد مسْكنه، ومنبع سكينته، في مدينةٍ بمواصفات غير إنسانية تسلّط الرعب والكآبة على الداخل إليها، والخارج منها" .
3- التعليق: إن هذا الأمر يعكس مدى حضور ذاتية الباحث في عمله الأكاديمي الجادّ هذا، ويظهر ذلك من خلال جملة من الآراء والأحكام التي كان يُدْلي بها الكاتبُ بين الحِين والآخَر، وهي أحكامٌ وتعليقات عميقة ومنطقية ووَجيهة جدّا، تنمّ عن تفاعل الناقد وفهمه وسبْره أغوار المقروء محتوىً وشكلاً معاً. ومن نصوص الكتاب الكثيرة الشاهدة على هذا الأسلوب قول العلوي معلِّقاً على مقطعٍ قصير للطبال وظّف فيه إحدى الأساطير العريقة المعروفة: "لقد استطاع الشاعر عبد الكريم الطبال أن يستدْعيَ أسطورة الفينيق بشكل فني يعتمد الإيحاء لا الإملاء، فصهر فحْواها في ثنايا القصيدة دونما تعسُّفٍ أو ابتذال. وبذلك أسْعفته هذه الأسطورة على دمج تجربته الذاتية في التجربة الجماعية والاجتماعية، سعْياً إلى استنبات قيم التمرد في الأفراد والجماعات. ولعله بدون هذه القيم لن يتأتى للمواطن العربي قهْرَ اغترابه والتخلص منه" .
4- التأويل: وهنا يعْمِد الكاتب إلى تقديم قراءته للنص المدروس، أو لجزء منه، أو لبعض مقوّماته المعجمية والبلاغية وغيرها. ومثالُ التأويل في كتابنا قولُ صاحبِه عن مقطعٍ لحسن الأمراني، ورد في أوله لفظ "الطفل" موصوفاً بصفات محددة تجعل النصّ كلَّه مفتوحاً على قراءات أخرى تنأى عن تلك السطحية التي تكتفي بالوقوف عند دلالة الألفاظ المباشرة: "يُضْفي الشاعر الأمراني على هذا الطفل بعض ملامح شخصية النبي موسى، عليه السلام، التي تتعلق بشقّ الأرض بالعصا بحْثاً عن الدفء والنور اللذين يختزلهما لفظ "الشمس"؛ وذلك من أجل تحقيق الرجاء الذي تنتظره الشعوب المغلوبة على أمرها، وتوطيد الكبرياء في النفوس المكلومة؛ شأنُه في ذلك شأن النبي موسى، عليه السلام، الذي اسْتسقى لقومه بعدما كاد يهْلكُهم العطَش، فتبلّلت حناجرهم، ودبّت الحياة في عروقهم من جديد" .
5- المقارَنَة: وتظهر في مواضعَ عديدةٍ من الكتاب؛ حيث كان العلوي يلتفت، خلال تحليله النصوصَ ومعالجتِها، إلى مقارنتها، أحياناً، بنصوص أخرى للوقوف على ما بينها من تقاطعات وتشابُهات أو تمايُزات واختلافات أو هما معاً. وكان يرصد، في أحيان أخرى، ما بينها من تأثير وتأثر على سببيل الموازنة لإبراز تأثر عدد من شعرائنا المعاصرين بآخَرين ممّن سبقوهم أو جايَلُوهم، سواء عن وعيٍ منهم بذلك أو لا، ويتخذ ذلك، في الغالب، شكلَ تناصٍّ مع كتاباتهم بكيفية جلية أو خفية. والأمثلة على ذلك كثيرة جدّا؛ منها قولُ الناقد، في سياق دراسته مقطعاً للأمراني يتقاطع مع نص آخر للسّيّاب فيما يخص النظرة إلى النضال والتضحية بالدماء لتجاوُز الوضع القاتم، واستشراف غدٍ أفضل وأهْنأ: "يتقاطع هذا القول الشعري للشاعر حسن الأمراني مع نظرة الشاعر العراقي بدر شاكر السياب إلى الدماء انطلاقاً من كون التضحية بها تعدّ مدْخلاً من مَداخِل التغيير، وإرجاع البسمة إلى الجِياع والمظلومين الذين استُعْبدوا قسْراً، وسُلبت منهم حقوقهم، وأجهضت تطلعاتهم إلى العيش الكريم، واغتيلت أحلامُهم بغدٍ يسوده العدل، وينعم فيه جميع المواطنين بالحرية والأمن دونما تمييز بينهم أو تفضيل هذا على ذاك..." . ومنها قوله معلقا على مقطع لمليكة العاصمي يجسّد جانباً من غربتها الذاتية، مقارِناً إياه بمقطع آخر للطبال في الموضوع نفسِه، مع التركيز على نقطة اختلافهما في طبيعة البكاء وما حفّ به: "إن الشاعرة مليكة العاصمي، من فرْط اكتئابها، لم تعُد تملك سوى البكاء وحدها في عزلة عن الناس، وفي لحظة مُثقلة بالهَمّ والسؤال. في حين أن شاعراً آخرَ هو عبد الكريم الطبال نجده يبكي مع الأقربين، ويمشي إلى القبر مع الغرباء..." .
وإذا كان النّصان متجهيْن إلى رصد بعض أوْجُه التقاطع والتلاقي بين الشعراء أو بعض نقاط الاختلاف والتباين بينهم، إلا أننا ألْفَيْنا العلوي، أحياناً، يكشف، في الوقت نفسِه، الجانبين معاً لدى قراءته بعضَ الأشعار؛ كما في قوله مقارناً بين مقطعين للملياني والطوبي؛ يشتركان في بكاء الذات ورثائها، ولكنْ يختلفان في تحديد زمن ذلك: "هكذا، يرثي الشاعر إدريس الملياني نفسَه كما لو أنه يعلن موته، مثلما أعلنه الشاعر مصطفى الطوبي قبله. ولقد أتْبَعَ كلاهما ذلك بالبكاء؛ وإذا كان الطوبي لم يحدّدْ زمناً لبكائه، فإن الملياني يصرّح بأن دموعه تهْمي اليوم كله بليله ونهاره، كأنني به في حداد لا ينتهي! ولو قدر له أنْ غمره الفرح في لحظةٍ مَا، فإن الحزن سيُداهمه من جديد" .
ونمثل لاستجْلاء الناقد بعض مَكامِن تأثر شعراء مَتْنه المدروس بآخَرين بقوله معقبا على مقطع للمرحوم محمد منيب البوريمي تصدّرتْه عبارة "آهٍ عشرون تمرّ وخَطْوي..": "واضحٌ أن الشاعر منيب قد تأثر أيضاً بالشاعر الفِلَسْطيني محمود درويش في مطلع هذا المقطع الشعري، شأنه في ذلك شأن الشاعر إسماعيل زويريق، وإنْ كانا يختلفان في الإشارة والدلالة؛ حيث إن الشاعر زويريق انْساقَ وراء توظيف المُفْرَدَة نفسها (عشرون) دونما تدقيق وتمحيص، ممّا أرْبَك المعنى كما رأينا سابقاً. وأمّا الشاعر منيب فقد جاء توظيفه ذاك منسجِماً مع ما يطْرحه" .
خلاصة:
نستخلص ممّا تقدَّم أن كتاب "الذات المغتربة والبحث عن الخلاص" دراسة نقدية مُمَنْهَجَة، سارت على خطة متدرجة مُحْكمة متماسكة في بناء فصولها ومباحثها وباقي مكوّناتها، وتوسّلت بجملة من مناهج الدرس الأدبي لمعالجة ظاهرة الغربة والاغتراب في شعرنا المعاصر من زوايا عديدة، ووظّفت كثيراً من الأساليب والآليات القِرائية في تناول نصوص هذا الشعر المستدَلّ بها على امتداد الدراسة كلها. وقد قاد هذا الغِنى المنهجيُّ ناقدَنا د. العلوي، بخُطى ثابتة، إلى نتائج عميقة مؤسّسة على معطيات ومنطلقات متينة، وإلى الخروج بعملٍ رصين ومتميز على أكثر من صعيد؛ مما يجعلنا نشهد له مُطْمَئِنّين بأنه إضافة مهمة إلى المكتبة النقدية العربية المعاصرة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.