الجو الحار، يذيب بعض الحماس، كعرق تفرزه مسام الجسد، تسيل برأسي المتصدع بعض الافتراضات العقيمة.. « علاش أنا..» « علاش حنا..» « علاش ماشي..» « ماذا لو نبت بساحة جامع لفنا بحر، نعم، الحلقة فيه على متن المراكب تُعرض، المطاعم بشاطئه تُقام، أيضا مسجد الكتبية لتحليق النوارس يستجيب، فيحط برحاله في ظلها، وصومعته على ظهره، أتذكر حلما رآني فيه عبد الله فوق رأسها، أودع الحياة، وأنا بعرض الموت ألقي بثقلي وأثقالي..دون تردد لو حصل ذلك، سأذهب إلى مقبرة « يوسف بن تاشفين»، أستأذن حارسها في إيقاظ « ريم « لنقوم معا بجولة على شاطئ ذلك البحر، نصعد المراكب، نتناول حساء الحلزون، وأقترح عليها اختيار هدية أقتنيها لها من درب السمارين، وأخرى لصديقتها التي رافقتها بعد فراقنا مدة خمس عشرة سنة ..رحبت بالفكرة وابتسامة فرح تلمع بعينيها السوداوين.. لنسرع إذن ..قبل الغروب عليك أن تعودي ، هذا ما وعدت به حارس المقبرة.. أفتح النوافذ معلمتي؟ صوت سقراط يعيدني إلي وإلى حرارة جو جاف خال من نسائم البحر وصوت الأمواج، وتحليق النوارس، وهمس « ريم «.. بنصف جسدي، أستدير نحوه، أهز رأسي بتثاقل، أشير إليه أن يفعل، وأن يترك باب القسم مفتوحا.. أرتدي الوزرة، ضجيج التلاميذ يتصاعد ومعه غبار صخب بي يتطاير..بعيون صارمة أنظر إليهم، وتيرة أصواتهم المرتفعة تبدأ في الانخفاض، أستدير إلى السبورة وقد أنهيت ارتداء وزرتي، على ما أمامي من سواد أكتب: «خلق الله لنا أذنين ولسانا واحدا، لنسمع أكثر مما نقول « …سقراط وأنا أكتب العبارة، من خلفي تصلني أصوات خافتة، تردد بنبرة التساؤل والاندهاش مما أخط، عند انتهائي، نظرت إليهم بهدوء وبابتسامة تصب البنزين على نار فضول يراودهم، وأحداق عيونهم تتسع..وهم ينظرون إلى صديقهم سقراط، لسان حالهم يتساءل: أأنت يا سقراط صاحب ذلك القول ..؟ ! سقراط خلفه وحوله ينظر مندهشا، كمظلي خانته الرياح، وضاعت منه الاتجاهات، يقرر في الأخير، الاستئذان مني في التحدث.. -أنا لم أقل هذا الكلام يا معلمتي.. ضحكة دافئة تغمر صدري، حاولت كتمها بوضع يدي على فمي، الفائضُ منها إلى عيني يصعد، وكأني أمسح بقايا أكل من حول فمي، أفعل بتلك الضحكة الملحة، أبتلعها، أستقيم في وقفتي، على كتف سقراط الصغير أضع يدي اليمنى، أحضنه، ثم أقول : أنت سقراط القرن الواحد والعشرين، لكن صاحب هذه القولة، هو سقراط ما قبل الميلاد بقرون، فيلسوف سعى إلى تعليم الناس وإغناء معارفهم بالتساؤل عن الحقيقة، بالاستدلال، للتقرب من الذات والتغلب على الجهل.. لم أجد أبسط من هذا الكلام أُعَرِّفُ به سقراط لأطفال لا يتجاوزون سن العاشرة من عمرهم، بعيون يختلط فيها الاندهاش والحيرة، يطالبونني بصمت صاخب، أن أشرح أكثر قول الفيلسوف، وكلهم آذان صاغية.. أتعلمون أنكم تعملون بقول سقراط الآن؟ مرة أخرى إلى بعضهم ينظرون، فيهب أغلبهم إلى الاستئذان في الإجابة عن السؤال، أشير إلى وديع بأخذ الكلمة، يقف أمام السبورة، بجرأة تختلط بالاعتزاز والفرح، يقول: نعمل بقول سقراط الآن، لأننا توقفنا عن الكلام، ومنحنا لآذاننا فرصة الاستماع والتقاط المعرفة بهدوء .. بحماس يصفق سقراط لوديع، عدوى التصفيق تملأ أجواء الفصل. عادة ما أنادي تلاميذي باسمهم العائلي، لكن عندما أتوقف عند سعيد، وأناديه باسمه العائلي سقراط، رغبة جامحة في الابتسام تجتاحني، وحنين إلى مرحلة دراستي الثانوية تهب بي، لتذكرني بأستاذي في مادة الفلسفة وهو يغرس في نفسي شعورالإعجاب القوي بأقطاب الفلسفة اليونانية.. جادة، أتفادى الابتسام، لكن أجدني أقع في مطب الضحك حين أناديه أرسطو بدل سقراط، حتى أن أحد تلاميذي النجباء «أيمن يستغرب من ذلك الخلط المتكرر الذي أقع فيه عند مناداتي لسقراط بصفة خاصة» أرسطو»و يراوده حب الاستطلاع على سر العلاقة بين الاسمين، ذات صباح جميل يفاجئني وهو يقدم لي مبتسما نبذة مقتضبة عن سيرة الفيلسوفين ..