الجزائر ترفض قائمة بجزائريين تريد باريس ترحيلهم وتندد بهذه الخطوة    توقعات أحوال الطقس في العديد من مناطق المملكة اليوم الثلاثاء    مختصون يناقشون راهن الشعر الأمازيغي بالريف في طاولة مستديرة بالناظور وهذا موعدها    الإحتلال يستأنف حرب الإبادة على غزة.. 232 شهيدا أغلبهم من الأطفال وعشرات الجرحى جراء القصف الإسرائيلي    المغربية أميمة سملالي تفوز بجائزة أفضل حكمة في بطولة العالم للملاكمة النسوية    حماس تتهم نتنياهو بانتهاك الاتفاق    إسرائيل تشنّ هجوما واسعا على غزة    وفاة الداعية الإسلامي الحويني بعد صراع مع المرض    المكتب الوطني للفضاء المغربي للمهنيين يناقش تحديات التجارة والاستثمار ويدعو لإصلاحات عاجلة    شراكة جديدة بين مؤسسة التمويل الدولية والمركز الجهوي للاستثمار بجهة طنجة-تطوان-الحسيمة لتعزيز التنافسية المستدامة للجهة    "التراث الإسلامي في طنجة: بين ندرة المعطيات وضرورة حفظ الذاكرة"    الأرصاد تتوقع نزول أمطار بالريف وباقي مناطق المملكة غدا الثلاثاء    الاستئناف يؤيد الحكم الابتدائي القاضي بإدانة "ولد الشينوية"    محمد شاكر يكتب : " حول مقولة "عزوف الشباب عن السياسة    "إفطار رمضاني" في العاصمة الرباط يُنوه بتوازن النموذج الحضاري المغربي    مارين لوبان تدعو الحكومة الفرنسية إلى التصعيد ضد الجزائر    الشباب وصناعة القرار: لقاء رمضاني لحزب التجمع الوطني للأحرار بأكادير    شراكة استراتيجية تحول جهة طنجة تطوان الحسيمة إلى مركز استثماري أخضر عالمي    الشيخ أبو إسحاق الحويني يرحل إلى دار البقاء    الكونغرس البيروفي يحث الحكومة على دعم المبادرة المغربية للحكم الذاتي في صحرائه    الملك يهنئ الوزير الأول الكندي    إسرائيل تهاجم أهدافا جنوب سوريا    توقف مؤقت لحركة الملاحة بين مينائي طنجة وطريفة    المفتش العام للقوات المسلحة الملكية المغربية يزور مقر التحالف الإسلامي العسكري لمكافحة الإرهاب    "الأسود" يستعدون للنيجر وتنزانيا    الترجمة و''عُقْدة'' الفرنسية    رئيس زامبيا يبعث رسالة إلى الملك    طرح تذاكر مباراة المغرب والنيجر للبيع عبر منصة إلكترونية    مطارات المملكة تلغي التفتيش المزدوج وتكتفي ببوابات مراقبة أتوماتيكية    سعر الذهب يواصل ارتفاعه مع تزايد المخاوف الاقتصادية    المغاربة يتصدرون الأجانب المساهمين في الضمان الاجتماعي بإسبانيا    موانئ الواجهة المتوسطية : ارتفاع بنسبة 9 بالمائة في كمية مفرغات الصيد البحري في فبراير الماضي    ترامب وبوتين يجريان محادثات حول وقف إطلاق النار في أوكرانيا    هام للتجار.. المديرية العامة للضرائب تدعو الملزمين إلى تقديم التصريح برسم سنة 2024 قبل هذا التاريخ    المتصرفون التربويون يواصلون نضالهم ضد الحيف والإقصاء والتدليس في لوائح الترقيات    بورصة البيضاء تنهي التداول بأداء إيجابي    تنسيق أمني يبحث مسار نفق قرب سبتة    الألكسو تكرم الشاعر محمد بنيس في اليوم العربي للشعر    "الجمعية" تطالب بعقوبات قاسية ضد مغتصبي 14 طفلة في بلدة "كيكو" بإقليم بولمان    "دخلنا التاريخ معًا".. يسار يشكر جمهوره بعد نجاح "لمهيب"    "طنجة تتألق في ليلة روحانية: ملحمة الأذكار والأسرار في مديح المختار"    الاتحاد السعودي يستهدف عبد الصمد الزلزولي    التوتر الأسري في رمضان: بين الضغوط المادية والإجهاد النفسي…أخصائية تقترح عبر "رسالة 24 "حلولا للتخفيف منه    الرياضة في كورنيش مرقالة خلال رمضان: بين النشاط البدني واللقاءات الاجتماعية    الدبلوماسية الناعمة للفنون والحرف التقليدية المغربية.. بقلم // عبده حقي    البطولة الاحترافية "إنوي" للقسم الأول (الدورة ال 25).. شباب المحمدية ينهزم أمام ضيفه حسنية أكادير (4-0)    دراسة جديدة تربط بين الطقس الحار وأمراض القلب في أستراليا    إلغاء مباراة مونبلييه وسانت إيتيان في الدوري الفرنسي بسبب الأعمال النارية    شهر رمضان في أجواء البادية المغربية.. على إيقاع شروق الشمس وغروبها    نتانياهو يعتزم إقالة رئيس جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي    حادثة سير خطيرة قرب طنجة تسفر عن وفاة وإصابات خطيرة    فوز الحسنية و"الجديدي" في البطولة    مدرب الوداد موكوينا يتحدث عن إمكانية الرحيل بعد التعادل مع اتحاد طنجة    لا أيمان لمن لا أمانة له ...    الأدوية الأكثر طلبا خلال رمضان المضادة للحموضة و قرحة المعدة!    ارتباك النوم في رمضان يطلق تحذيرات أطباء مغاربة من "مخاطر جمّة"    أبرز المعارك الإسلامية.. غزوة "بني قينقاع" حين انتصر النبي لشرف سيدة مسلمة    ظاهرة فلكية نادرة مرتقبة فجر يوم غدٍ الجمعة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في وداع الباحث محمد بالوز.. الوفاء أسمى من الرثاء

تحت وطأة الأحداث المتسارعة، رحل تباعا رجال كبار من حاضرة المحيط، آسفي، وكأنهم يتسللون خلسة إلى قبورهم، منهم من ظفر بوداع يليق به، ومنهم من رحل في صمت. رجال ترحل فتبكيهم أسرهم، ورجال ترحل فتبكيهم الأصدقاء، ورجال ترحل فيبكيهم الوطن. ومثل كثيرين غيري فجعت بنبإ وفاة الأستاذ الباجث محمد بالوز، صبيحة يوم الأحد 15 شتنبر 2019 بتمارة، بعد رحلة طويلة من العطاء، تاركا وراءه ذخيرة علمية هامة ستخلد اسمه طويلا ضمن سجل الكتاب والباحثين. هذا الرجل له بصمته في مجال اشتغاله، شاءت الأقدار أن يعمل بصمت وأن ينتقل إلى بارئه بصمت كما يرحل الطيبون، في عمر مازال قادرا على العطاء ، ولا يعرف عنه الناس الشيء الكثير، خاصة أنه عاش وأنجز وأبدع إلى أن وافته المنية. وكما قال لي بعض ممن عرفوا الراحل، إنك ما أن تلتقيه إلا ويشعرك بأنك تعرفه منذ أمد بعيد، فالرجل تغمده الله برحمته، سيفتقده كل محبيه وعارفي مكانته وفضله، ما أن تجلس إليه إلا ويأسرك بثقافته الرفيعة وتواضعه وأدبه الجم.
ومن اللافت للنظر مدى الغموض الحاف بسيرة الأستاذ محمد بالوز وشح المعلومات عنه، وكأن الرجل عاش قبل قرون وليس قبل أيام دانية من يومنا هذا. وتطغى النذرة على مصادر ترجمته أيضا بحيث لا يوجد كتاب جامع مانع لسيرته ومجريات حياته وآثاره ومواقفه، وكذا عدم الإهتبال بالرجل وآثاره في أطروحة جامعية، فإن لم يتحقق ذلك إلى الآن فقد حان الوقت لذلك. ولا نعلم سبب هذا الازورار عن الرجل واطراح مجمل أعماله من دائرة الدراسة والتمحيص. وهذا في ذاته إهمال لأحد رجالات المغرب. فهل يكفي البكاء والرثاء والكلام عن كاتب كبير غادرنا إلى الأبد؟. في اعتقادي أن الوفاء أسمى من الرثاء، والوفاء يملي علي ككاتب، أن أفتح بعضا من سيرته الذاتية والإبداعية غير المعروفة عند الكثيرين.
الأستاذ الباحث محمد بالوز، من مواليد مدينة آسفي، حاصل على دبلوم المدرسة العليا للأساتذة بالرباط، قسم الاجتماعيات. اشتغل، قيد حياته، بالتدريس منذ سنة 1971 ، ثم التحق بالعمل الإداري، ثم حارسا عاما بإعدادية ابن الخطيب بآسفي، كما شغل أيضا منصب مدير إعدادية الخوارزمي بتمارة. والرجل ليس اسما عاديا كغيره من الأسماء المحفوظة في سجلات الحالة المدنية بآسفي، فبعد الإعلان عن خبر وفاته تحولت مواقع التواصل الاجتماعي لساحة عزاء، حيث توالت كلمات الرثاء والعزاء على فقدان الراحل الكبير والابن البار لمدينة آسفي من قبل زملائه ومحبيه بالنظر لمكانة الرجل العلمية وسيرته بين الناس، كباحث ومؤرخ معروف بكتاباته وأبحاثه حول حاضرة المحيط آسفي، وعمله الدؤوب لإغناء الخزانة الوطنية والمسفيوية بالدراسات الجادة، وحضوره المتميز على الساحة الثقافية، كباحث مقتدر و متمكن، ساهم على نطاق واسع في التعريف بحاضرة آسفي، وهو يذكرنا بالمؤرخ الكبير ابراهيم كريدية، الباحث الغزير العطاء، الذي لازالت كتاباته ودراساته تحظى بأهمية بالغة عند الدارسين والباحثين.
الأستاذ محمد بالوز، كان عضوا نشيطا في جمعية البحث والتوثيق والنشر بآسفي، لم يمت، ولن يموت بالمرة، لأنه انتصر إلى حكمة البقاء للأثر، تاركا وراءه أعمالا علمية دالة عليه، حيث باشر، قيد حياته، بكثير من الصبر اهتمامه بالمُغَيّب من تراث وتاريخ المدينة وقيمها الثقافية والدينية والشعبية والسياسية، ذلك أنه حتى أواخر القرن الماضي، لم يعر المؤرخون المغاربة والأكاديميون بالخصوص، للذاكرة الجهوية والمحلية إلا اهتماما عرضيا. وقد زادت في توسيع دائرة هذه المجاهل ذهنية تقدس المركز على حساب «الهامش»، وثقافة ترى النهر ولا ترى روافده. ولأن مقارباتهم لتاريخ المغرب كانت تنحو في مجملها منحى الشمولية والتعميم، فإنها حجبت، عمدا أو دون قصد، ملامح وأحداث وظواهر طبعت جهة دون أخرى. وفي هذا الحيز المُعتم من تاريخ آسفي وجهتها اشتغل الراحل، لأنه كان يعي أن التدوين والتوثيق الصارمين يرسخان الذاكرة الجهوية في المكتوب، يمكنانها من ولوج كتب التاريخ والارتقاء إلى دائرة الضوء، لكونه آسفي المولد والتنشئة، مرتبط بمدينته آسفي حد الوله، ومسكون بقضايا التاريخ الوطني والمحلي، يشهد على ذلك إصداره لعدد من الكتب في التاريخ المحلي والتحقيق والوثيق والترجمة، حيث فرض اسمه كباحث ومؤرخ رصين في قوائم الباحثين المغاربة.
و في إنجازه العلمي، لم يكن الرجل يبحث عن الكم في مؤلفاته بل عن النوعية والتميز. وقد اختط لنفسه مسارا بحثيا خاصا وضع في صلبه توثيق ذاكرة مدينة ضاربة في أعماق التاريخ. وتجسد هذا المشروع في سلسلة من الكتابات أطلقها الكاتب تعنى بتاريخ آسفي. ومن بين أعماله « صفحات من تاريخ آسفي « و « مسار رجل تعليم « و « آسفي من خلال جريدة العلم» في جزأين، و « آسفي في زمن الحماية من خلال مذكرات عبد الرحمن بن الشيخ « و « آسفي بقلم أربعة من الأعلام « و « القائد عيسى بن عمر العبدي «. وله مع المرحوم الدكتور علال ركوك دراسات مشتركة في التحقيق من بينها « آسفي وما إليه قديما وحديثا» و» الجواهر الصفية في تاريخ الديار الآسفية « و « الأستاذ محمد أبوحميد «..
وحتى يعاد الاعتبار للرجل لأنه نسي كما تنسى وثيقة نادرة في إضبارة مهملة، أقترح برمجة احتفالية ثقافية كبرى خاصة بالراحل بمسقط رأسه بآسفي، وأخرى في المعرض الدولي للكتاب المقبل بالدار البيضاء، وتخصيص قاعة تحمل اسمه جريا على عادة وزارة الثقافة مع أعلام مغاربة آخرين في دورات المعارض السابقة، و جمع تراث الراحل و رقمنته، وأدعو مؤسسة الأرشيف الوطني للقيام بهذه المهمة السامية، ثم إنشاء موقع إلكتروني عن الراحل يضم كل ما له صلة به، ويكون مرجعا لكل باحث ومهتم، وفي الأخير إنجاز فيلم وثائقي عن الراحل، يوثق لمجمل مراحل حياته، يعرف الأجيال الحالية بأحد رجال التربية والتعليم الكبار في البلاد.
وما يضاعف من الأسى على رحيل الأستاذ محمد بالوز، هو تزامن رحيله المفاجئ مع رحيل مجموعة أخرى من الهامات الفكرية و الفنية بالمدينة مثل الحاج عبد الكريم الفيلالي، شيخ القصيد، توفي صبيحة يومه الجمعة 26 يناير 2017 بمدينة آسفي بعد صراع مع المرض. هذا الرجل له قدرة فائقة على نظم القوافي والأشعار، إضافة لاهتماماته البالغة بالملحون ودرايته الواسعة بفرجة الحلقة، حيث عمّرت أمداحه وقصصه المُغَنّاة وقصائده الشعبية كل أسواق المغرب، حتى فاقت تسجيلاته 400 تسجيل، نالت إعجاب الناس ومنحته انتشارا غير مسبوق، كما توج كأحد كبار صناع الفرجة بالمغرب وسيد المداحين المغاربة الذين أسالوا لعاب شركات التسجيل الفنية التي وجدت فيه رقما رابحا في سوق المبيعات، و الأستاذ عبد المجيد بنخالي، الشاعر والزجال والمسرحي، الذي رسم الحرف من وهج القمر، غادرنا صبيحة يوم السبت 8 يوليوز 2017 بآسفي، بعد معاناة مع المرض، تاركا وراءه تراثا شعريا وزجليا وفنيا هاما، ممثل ومخرج ومؤلف مسرحي، يمثل الرعيل الأول المؤسس لتجربة مسرح الهواة بآسفي والمغرب. وكذلك رحيل الدكتور علال ركوك، الذي غيّبه القدر يومه الخميس 20/7/2017، اشتغل أستاذا جامعيا بعدد من الجامعات المغربية، كما عمل بالمعهد العالي للإعلام والاتصال بالرباط كأستاذ لمادة التاريخ المعاصر، وأحد الباحثين الكبار في الثقافة الشعبية في المغرب وعلى الخصوص فن العيطة حيث خلف كتابات كثيرة في هذا المجال، كما كان عضوا في المنظمة الدولية للثقافة الشعبية، وعضوا في اللجنة العلمية الاستشارية للمندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير، وكذلك رحيل العلامة الدكتور محمد بنشريفة، الذي وافته المنية مساء يوم الخميس 22 نونبر 2018 عن سن تناهز التسعين عاما، بعد مسيرة حافلة بالعلم والعطاء، وهو أستاذ جامعي وعضو أكاديمية المملكة المغربية وعدة مجامع دولية، ومحقق أغنى بعلمه وعمله الخزانة المغربية الأندلسية.
إن رحيل هؤلاء المبدعين و المثقفين المسفيويين الكبار، جعل من فراقهم خسارة كبرى، لا يمكن أن تكون عابرة في مدينة آسفي التي هي في أشد الحاجة إلى أمثالهم لينفضوا عنها غبار النسيان. صحيح أن مصيرنا جميعا الرحيل إلى دار الفناء، لكن رحيل كل واحد منا يختلف عن رحيل الآخرين. فإن كان إكرام الميت دفنه، فإكرام الفنان و المفكر والباحث هو إخراج أعماله وتداولها بين الناس، وبث الحياة في جسده المعنوي الذي لا يموت أبدا. وإذا فاتنا وداعهم بما يليق وقاماتهم و دورهم، نرجو ألا يفوتنا أيضا الاحتفاء بهم من خلال إعادة نشر مؤلفاتهم وإبداعاتهم. فتكريم المبدع لا يتوقف عند طقوس وداع موسمية، بل يتخطى ذلك إلى إحياء تراثه ونشره على نطاق واسع تكريسا لثقافة الاعتراف بالعطاء.
* كاتب وباحث


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.