سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
الكاتب الاول للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية في في الجمع العام للمؤسسة الاشتراكية للدراسات والأبحاث : إعادة الاعتبار للسياسة لا يمكن أن تتم إلا بناء على ربط العمل السياسي بالعقل وبالإنتاج المعرفي
الإخوة والأخوات الأعزاء، ضيوفنا الكرام، أود في البداية أن أتقدم إليكم جميعا بخالص الشكر والامتنان على تلبيتكم لدعوتنا وتشريفنا بحضوركم معنا في هذا الاجتماع الهام الذي يشكل محطة أساسية في تنفيذ أحد التزاماتنا الأساسية بخصوص استعادة المبادرة في المجال الفكري وفي مجال ربط السياسة بالمعرفة، لأنه كما لا يخفى عليكم فإن إعادة الاعتبار للسياسة لا يمكن أن يتم إلا بناء على ربط العمل السياسي بالعقل وبالإنتاج المعرفي، وعلى ربط الفعل السياسي بالمجهود الفكري وبمستجدات البحث العلمي. إننا في المدرسة الاتحادية بقدر ما نعتبر أن المعرفة بدون سياسة قد تكون مجرد خبرة جوفاء، فإننا في نفس الآن نعي تمام الوعي أن السياسة بدون معرفة هي مجرد ممارسة عمياء، وبالتالي فإن الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية لا يمكن أن يجدد مشروعه وأن يستنهض قوته، وأن يكون في مستوى انتظارات الوطن والمواطنين، بدون أن يستند إلى اجتهادات فكرية في مرجعيته الاشتراكية الديمقراطية، وبدون أن يتشبع بثقافة سياسية جديدة مبنية على النظر العقلي وعلى البحث العلمي، ومنتجة للبدائل الممكنة، المدعمة بالخبرات المتخصصة وبالأبحاث التشخيصية والدراسات التقويمية. وإذا كنا اليوم نسعد بإتاحة هذه الفرصة لتبادل الرأي وتعميق النقاش حول هذا الترابط الجدلي بين المعرفة العلمية والممارسة السياسية، فإننا في نفس الآن نتوخى أن يكون هذا الاجتماع مناسبة طيبة لإعطاء الانطلاقة نحو خلق فضاء مستقل للتفكير والإنتاج المعرفي، فضاء قائم بذاته متكامل في أركانه، فضاء تستطيعون من خلاله المساهمة الناجعة في الترشيد الفكري لبرامجنا السياسية الاتحادية، والمساهمة الوازنة في إنتاج الأفكار الخلاقة وإعداد المشاريع التنموية، التي ما أحوجنا اليوم إليها في زمن التحولات المتسارعة، وفي زمن التغيرات العميقة التي تجعل السياسة مجالا للاجتهاد والابتكار بامتياز. وإذا كنا اليوم نوطد عزمنا بوضوح ودون تردد أو التباس من أجل إنشاء مؤسسة للأبحاث والدارسات مستقلة الكيان تقدمية التوجه، فإن ما يضاعف من عزمنا هو أن تكون هذه الخطوة الثابتة التي نخطوها اليوم، مندرجة في صميم الدينامية العامة التي يشهدها الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية منذ مؤتمره الوطني التاسع، وفي صميم أجواء الانبعاث الشامل الذي يعيشه حزبنا بعد سنوات من الإنهاك الذي أصابه جراء تحمله الشجاع لكلفة الانتقال السياسي العسير ببلادنا. لقد قطعنا حقيقة أشواطا هائلة وحاسمة في استعادة المبادرة، وتمكنا فعلا من استرجاع زمام المبادرة على مستوى امتداداتنا الاجتماعية وعلى مستوى مسؤولياتنا التمثيلية وعلى مستوى التزاماتنا الوطنية، وها نحن اليوم نجتمع من أجل تنفيذ قرار أساسي من قرارات مؤتمرنا الوطني التاسع، وهو القرار المتعلق بإنشاء مؤسسة بحثية مستقلة تضطلع بإنتاج البرامج والأفكار التي تمكن الحزب من تجديد مشروعه المجتمعي في ضوء التطورات التي تحفل بها الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية داخل وخارج بلادنا، مؤسسة رائدة ذات شخصية معنوية تنكب كذلك على إعداد وإنجاز برامج للتكوين والتأهيل لفائدة الأطر الاتحادية، بغاية تعزيز قدراتها والرفع من كفاءاتها، لتستطيع تحمل مسؤولياتها الحزبية والانتدابية على أحسن وجه. ولعل بعضكم يتساءل في هذه اللحظة لماذا لم نكتف بتفعيل وإعادة هيكلة المؤسسة الاشتراكية للأبحاث والدراسات التي أنشأناها في أعقاب المؤتمر الوطني السابع والتي حملنا مسؤولية رئاستها لأخينا الدكتور محمد جسوس رحمة الله عليه، انه تساؤل مشروع ومطروح في صميم هذه اللحظة التأسيسية، ونحن من جهتنا لابد أن نوضح أن هذه المؤسسة جاءت في صيغتها وطرق اشتغالها استجابة لسياق خاص في حياتنا الحزبية والوطنية ، وأنها أدت مهمتها المنوطة بها قدر المستطاع، سواء فيما يخص تنشيط الحوار الداخلي حول البرامج الاقتصادية والاجتماعية للاتحاد الاشتراكي، أو فيما يخص إشراك المثقفين والباحثين في فتح بعض الملفات الكبرى التي تستأثر باهتمام الرأي العام الوطني. لكننا أدركنا في غمار هذه التجربة، ومن خلال اطلاعنا على تجارب أحزاب اشتراكية ديمقراطية صديقة، وكذلك بفضل المشاورات الناضجة التي أجرينا مع عدد من أطرنا وكفاءاتنا الاتحادية، أدركنا أن طبيعة العمل الحزبي وخصوصية البحث العلمي ونوعية التحديات المطروحة أمامنا، كل ذلك أصبح يفرض علينا إعادة النظر ليس فقط في صيغة المؤسسة العائلية، ولكن أيضا في صيغة المؤسسة الحزبية. وفي سياق هذه المراجعة كان واضحا أن «المؤسسة الاشتراكية للأبحاث والدراسات» لم تكن في الحقيقة مؤسسة بمعنى الكلمة لا في وضعها النظامي ولا في منهجية عملها، وإنما كانت مجرد هيئة حزبية ضمن هيئات وهياكل الحزب المتعددة، لا تتوفر على إدارة مستقلة ومسؤولة، ولا على ميزانية خاصة ومضبوطة، ولا على برامج تعاقدية ومنتجة. لذلك فان قناعتنا اليوم هي أن الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية في حاجة اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى مؤسسة بحثية مستقلة، تربطه بها علاقة تعاقدية قوامها الشراكة والدعم والمصاحبة، علاقة تقوم على أساس احترام المسافة الضرورية بين الممارسة الحزبية والعمل الفكري، وتنطلق من المرجعية الفكرية والقيمية المشتركة والمتمثلة في مبادئ الديمقراطية والنزعة الإنسانية والتوجه الحداثي العقلاني، إضافة إلى الرصيد الاشتراكي الديمقراطي في مجال الحكامة والتنمية والعدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان. أخواتي إخواني الأعزاء، لا شك أنكم تلاحظون كيف يتزايد الاهتمام بمراكز الأبحاث والدراسات على الصعيد العالمي وبشكل واضح وملحوظ في العقود الأخيرة من نهاية القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين،. فقد أصبحت هذه المراكز تمثِّل أحد الدلائل الهامّة على تطور الدولة وتقييمها للبحث العلمي واستشرافها آفاق المستقبل؛ وذلك وفق المنظور المعرفي لتطور المجتمعات الإنسانية عمومًا، وانطلاقا من اعتبار تلك المراكز ركنا أساسيا في المنجزات الحضارية والنهضوية والثقافية، وعنوانا للتقدم وأحد مؤشِّراته الأساسية في التنمية ورسم السياسات العمومية. لقد أصبحت عملية دراسة القضايا والمشكلات التي تواجه المجتمع والدولة وتحليلها، من أهم الأدوار التي تضطلع بها المؤسسات البحثية عموما؛ إذ تهدف من خلالها إلى معرفة أسباب الظواهر الاجتماعية والوقائع السياسية، والى استشراف الآفاق وبلورة الرؤى والمقترحات العلمية المتعلّقة بها، ووضع الحلول المناسبة لها، بل إن هذه المراكز البحثية أصبح لها دور رائد ومتقدم في قيادة السياسات العالمية، وصارت أداة رئيسة لإنتاج العديد من المشاريع الاستراتيجية الفاعلة. وفي العديد من الأقطار الديمقراطية المتقدمة أصبحت مؤسسات الأبحاث ومراكز الدراسات جزءا لا يتجزّأ من المشهد السياسي والتنموي، وقد لا نبالغ إذا قلنا إن لها دورا أساسيا في نهوض الأمم وتَقدُّم الشعوب نحو تحقيق أهدافها، وقد ارتقت تلك المؤسسات المدنية إلى حدّ أصبحت فيه أحد الفاعلين في رسم التوجهات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتربوية وأحد المؤثِّرين فيها، وأحد المشاركين في وضع الحلول لها؛ وذلك من خلال توظيف البحث العلمي في خدمة قضايا المجتمع، بتقديم الرؤى وطرح البدائل والخيارات، بما يدعم عمليات صنع القرارات ورسم السياسات. وإذا استعرضنا بعض التجارب المعاصرة سنجد في هذا السياق تنامي المؤسسات البحثية القريبة من الأحزاب السياسية وخصوصا منها الاشتراكية الديمقراطية، بحيث أنها اكتسبت خبرةً واسعةً ونجاحا باهرا ومكانة عالمية مرموقة، كمؤسسة فريدريك ايبرت القريبة من الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني ومؤسسة جان جوريس القريبة من الحزب الاشتراكي الفرنسي ومؤسسة ايدياس القريبة من الحزب الاشتراكي العمالي الإسباني، ومؤسسة أولف بالم القريبة من الحزب الاشتراكي الديمقراطي السويدي، وكلها مؤسسات أصبحت تؤدّي دورا بارزا في إعداد الدراسات، وتحليل السياسات العامة والقضايا الهامة، وتحديد أولويات القضايا الاستراتيجية، وأضحى لها تأثير مباشر وغير مباشر على صنع القرار السياسي لدى هذه الأحزاب وعلى مدها بما يسعفها من مشاريع وأفكار وبدائل . غير أن الدور الذي اضطلعت به بعض المؤسسات البحثية القليلة في المجتمع المغربي، هو دور مختلفٌ عمّا هو عليه الأمر في المجتمعات الغربية؛ وذلك بسبب المعيقات والمصاعب والتحديات التي تواجهها، مما جعلها لا تتبوّأ مكانها الحقيقي، ولا تمارس دورها الحيوي في المشاركة في صنع القرار أو في تقديم ما يلزم من رأي استشاري ومن دراسات رصينة، ليس بسبب عجزها عن أداء هذا الدور، ولكن أساسا بسبب ابتعادها عن منطق المؤسسة واشتغالها تارة بمنطق العائلة وتارة أخرى بمنطق الحزب. إننا في الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية نسائل اليوم أنفسنا أين نحن من تلك الأطروحات والاجتهادات التي ابتكرتها الحركة الاشتراكية الديمقراطية العالمية التي نحن جزء لا يتجزأ منها، وما موقع السياسات العمومية التي نهجناها في إطار حكومة التناوب التوافقي من مرجعيتنا الاشتراكية الديمقراطية، سواء في مجال البيئة والتربية والثقافة، أوفي مجال الاقتصاد والهجرة والعدالة . إننا نحتاج كذلك إلى تدقيق المشروع الاقتصادي الاجتماعي الذي سيحقق التنمية الضرورية لبلادنا في هذه الظرفية بالذات، المتميزة بغياب أية رؤيا واضحة لدى الحكومة الحالية، كما نحتاج إلى تقديم النموذج البديل لسياسة الارتجال التي تطبع برامج محاربة الفقر والأمية. ولابد أيضا أن نتوفر على مقاربة شاملة وناجعة في مجال التهيئة اللغوية في بلادنا وفي مجال تدبير التوع الثقافي، ولابد انطلاقا من مرجعيتنا التقدمية الحداثية أن نقدم البديل الأنجع للمدرسة العمومية المستجيبة لحاجيات المجتمع ولمتطلبات العصر. كل هذه المواضيع و غيرها تشكل في ضوء الدستور الجديد وما يطرح علينا من مستلزمات تشريعية، قضايا ملحة تستوجب الحلول والبدائل، ولكنها قبل ذلك تستوجب تفعيلا للمعرفة العلمية وللتأطير الفكري والبحث التخصصي، ونحن نعتبر أن مؤسسة الأبحاث والدراسات بالمواصفات العامة التي أشرت إليها، هي المجال الأمثل لإنتاج المعرفة الضرورية، وللربط بين الوقائع الميدانية، والتحليل النظري، والخيار السياسي. لقد قررنا في قيادة الحزب أن نترك لكم المجال واسعا ومفتوحا للتفكير وللاجتهاد والتوافق حول الصيغة المثلى لإخراج هذه المؤسسة إلى الوجود ، وسوف نضع رهن إشارة هذه المؤسسة مقرا لائقا وإدارة مداومة وميزانية مناسبة ، وذلك في نطاق برنامج تعاقدي يدقق الالتزامات ويوضح الأهداف و الوسائل. نحن لا نحتاج اليوم أيتها الأخوات أيها الإخوة إلى هيئة فكرية تابعة للتنظيم الحزبي، و لا نراهن في نفس الوقت على لجان بحثية هاوية ، ولا حتى على دوائر أكاديمية مغلقة، إننا نراهن أشد ما يكون الرهان على تعبئة تقدمية لذكاء جماعي في نطاق مؤسسة مستقلة. وان الكفاءات البارزة والشخصيات المرموقة الحاضرة معنا اليوم لقادرة على ربح هذا الرهان وعلى تحقيق المراد. ولكم جزيل الشكر على انتباهكم