بعودتها ثانية في ظرف أسبوع عن الهجوم الإرهابي الدامي، الذي تعرضت له صباح يوم الأربعاء: 7 يناير 2015، الصحيفة الأسبوعية الفرنسية الساخرة «شارلي إيبدو»، وذهب ضحيته 12 شخصا من بينهم ثمانية صحافيين، بسبب رسومها المسيئة إلى النبي الكريم سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، إلى إصدار عدد جديد من ثلاثة ملايين نسخة ب16 لغة وزعت على 25 بلدا، يتصدر صفحته الأولى رسم كاريكاتوري آخر مسيء إلى سيد الخلق، تكون بذلك قد أعلنت للعالم أجمع أنها ماضية في استفزازاتها، متحدية بذلك مشاعر قرابة مليار وسبعمائة مليون مسلما، دون أن يجعلها الحادث المأساوي تكف عن إهاناتها المتكررة منذ سنة 2006... وبالنظر إلى تمسك الصحيفة بأسلوبها الفج والمزعج، الذي تعلم حجم آثاره النفسية على المسلمين، فإنها لا تضر فقط بالمفهوم الصحيح لحرية الرأي والتعبير حين تتجاوز حدودها، وإنما تساهم بشكل وافر في تغذية التطرف، وتعبد طريق الإرهاب وبث الكراهية في أعماق المتشددين. وإذ نستحضر موقف اللاعب الدولي: عبد الحميد الكوتري المحترف في فرنسا مع فريق «مونبولييه»، الذي رفض قبل إجراء مقابلته مع فريق «أولمبيك مرسيليا»، ارتداء قميص يحمل عبارة: «JE SUIS CHARLIE»، ليس من باب التشفي، وهو يدرك أنه -لا قدر الله- قد يأتي عليه يوم يلقى نفس المصير، ولكنه رفض مهاجمتها لنبيه، سيما وأنها اختارت هذه المرة أن تتزامن إساءتها مع أجواء الاحتفاء بذكرى المولد النبوي الشريف، فإننا لا ننسى أيضا الموقف الشهم للوفد المغربي، عندما اكتفى وزير الخارجية والتعاون السيد: صلاح الدين مزوار بتقديم واجب العزاء إلى الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند في قصر الأليزي، ممتنعا عن السير تحت يافطات تحمل رسوما تسيء إلى رسول الله، ومقاطعا مسيرة التضامن المنظمة بالعاصمة باريس يوم الأحد: 11 يناير 2015، تلك التي ضمت من بين الحاضرين في صفوفها أكبر مجرمي الحروب، الملطخة أيديهم بدماء الشهداء الفلسطينيين الأبرياء، رئيس الوزراء الإسرائيلي السفاح بنيامين نتنياهو... لا نعتقد أن مسلما عاقلا يبارك مثل هذا الهجوم الوحشي، ولا أي عمل إرهابي آخر مهما كانت المسوغات والظروف، لا لشيء سوى أن الإسلام دين التسامح ونبذ العنف، ولإيمان المسلمين الشديد بأن من بين عناصر التسامح الاحترام المتبادل، التساوي في الحقوق، التسليم المطلق بحرية التدين، الحفاظ على الخصوصيات الثقافية وعدم السماح بانتهاكها. فالإسلام لم ولن يكون يوما دين ترهيب أو ترويع، بل هو دين محبة ووئام، ينطلق من قوة وصفح وليس من ضعف وانتقام، وقد نهى الله في كتابه العزيز عن الاستهزاء بالآخرين لما في ذلك من ضرر، بقوله تعالى: « يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم...». صحيح أن أولئك الرسامين لا يؤمنون بالله وبرسله، لكن هذا لا يشفع لهم بإشعال نار الفتنة وإثارة الحروب. ولعل ما يجسد قيمة التسامح لدى الرسول الأكرم، أنه رغم ما لقيه من ظلم واضطهاد من قبل مشركي قريش، ورغم ما توفر له من قوة عند عودته لفتح مكة، لم يسع إلى رد الصاع صاعين والانتقام، بل عفا عن المسيئين إليه وأمر بإطلاق سراحهم بالقول: «اذهبوا فأنتم الطلقاء». وهذا لا يعني أن كل المسلمين بهذا القدر من الثبات والحلم للعفو عن المذنبين في حقهم، والصبر على أذيتهم، كما قال جل جلاله: « والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس، والله يحب المحسنين»، فهناك فئة من الناس تدعي انتماءها الإسلامي، لكنها لجهالتها العمياء باتت تشكل خطرا داهما على المسلمين وغيرهم.. فالإرهاب وإن تعددت مفاهيمه، سيظل عملا بربريا وهمجيا، يلازم الإنسان في حله وترحاله، ما لم تسارع سائر الدول المتقدمة إلى إعادة النظر في مقارباتها، للحد من شيوعه بيننا والتقليص من ضحاياه. إنه وحش بلا ملامح، لا يستطيع أحد التكهن بأوقات ظهوره، ومن شأنه ترويع النفوس الآمنة في كل مكان واغتصاب أرواح الأبرياء... إنه فعل إجرامي مخالف لكل القيم الإنسانية، وقد ينجم عن شخص متهور أو عن عصابة مدربة أو عن دولة... وحتى من قبل حكام على شعوبهم عبر القهر والتجويع وكبت الحريات... والإرهاب عامة من أخطر ظواهر تدمير الحضارات وسفك الدماء، تنميه الحملات الداعمة لقوى الظلم واستعباد الشعوب المستضعفة، والمعادية بوجه خاص للمسلمين الذين ما فتئوا يتعرضون إلى الاضطهاد، بجريرة جماعات متشددة وخارجة عن القانون. وليس من العدالة ولا الحكمة في شيء، أن يستمر الغرب متماديا في سياسة الكيل بمكيالين، فالمواطن اليهودي مثلا عندما يقدم على ارتكاب مجزرة ما تنسب إليه الإصابة بخلل عقلي أو ما شابه ذلك، بينما ينعت المسلم بالتطرف والإرهاب، في حين أنهما متساويان معا في بشاعة الجرم. إن المسلمين ضاقوا ذرعا بتوالي انتهاك حرمات دينهم والمساس برمزه العظيم، عبر نشر كتابات ورسوم وإنتاج أفلام بدعوى حرية التعبير، والحرية براء لأنها ليست تحريضا على الكراهية والميز والانتقام. والأخطر من ذلك، أنه بمجرد وقوع تلك المذبحة الشنعاء، التي اهتزت لها قلوب المسلمين قبل غيرهم، أصبحت الجالية المسلمة مستهدفة من طرف المتعصبين في الحركات اليمينية المتطرفة، وتعرضت مساجد العبادة ومحلاتهم التجارية للاعتداء في فرنسا وألمانيا بوجه خاص، وصار كل مسلم في بلاد المهجر يشعر بالذنب تجاه جريمة نكراء، ارتكبت ضدا عن إرادته باسم الدفاع عن الدين... فالغرب مطالب بتغيير نظرته للإسلام والإقرار بالمساواة بين الديانات، ومساعدة الدول الإسلامية على تجاوز معيقات التنمية البشرية، إذ لا يعقل أن تسن قوانين لتجريم معاداة السامية في العالم، ويصبح لإسرائيل يد طولى في بسط هيمنتها الاستعمارية، والتمادي في غطرستها ونهجها الإجرامي ضد الشعب الفلسطيني الأعزل لأزيد من ستين سنة، فيما يظل الإسلام عرضة للازدراء، الاتهام بالإرهاب والتطرف والتهكم... ألا يعد ما يتعرض إليه شعب فلسطين في قطاع غزة من إبادة جماعية، أفظع كل أنواع الإرهاب؟ وما معنى أن يشنق زعيم عربي مهما كانت ديكتاتورياته، صباح يوم عيد الأضحى المبارك أمام أنظار العالم الإسلامي؟ وهل ما يعيشه الشعب السوري من تقتيل جماعي، بواسطة براميل متفجرة وسلاح غربي فتاك، لا يدخل في دائرة التطرف والإرهاب؟ نحن ننبذ كافة مظاهر العنف وخطاب الحقد والكراهية، نشجب كل أشكال التطرف والإرهاب، نؤمن بحماية حقوق الإنسان كاملة، لكننا نرفض الاستمرار في استفزاز شعوبنا بالإساءة إلى نبينا الأعظم. وليعلم الجميع أننا الأكثر تضررا من ردات الفعل الإرهابية، التي يحولها اليمين المتطرف إلى ذريعة لمهاجمة المسلمين، المطالبة بطردهم وإفقادهم الكثير من التعاطف الدولي في كسب قضاياهم المصيرية..