القضاء يقول كلمته: الحكم في قضية "مجموعة الخير"، أكبر عملية نصب في تاريخ طنجة    إمزورن..لقاء تشاركي مع جمعيات المجتمع المدني نحو إعداد برنامج عمل جماعة    "ما قدهم الفيل زيدهوم الفيلة".. هارون الرشيد والسلطان الحسن الأول    ‬برادة يدافع عن نتائج "مدارس الريادة"    مجلس النواب يصادق على مشروع قانون الإضراب    الدورة ال 44 لمجلس وزراء الشؤون الاجتماعية العرب بالمنامة ...المغرب يشارك في فعاليات حدث رفيع المستوى حول الأسر المنتجة وريادة الأعمال    المخرج شعيب مسعودي يؤطر ورشة إعداد الممثل بالناظور    الجيش الملكي يعتمد ملعب مكناس لاستضافة مباريات دوري الأبطال    تبون يهدد الجزائريين بالقمع.. سياسة التصعيد في مواجهة الغضب الشعبي    بركة: أغلب مدن المملكة ستستفيد من المونديال... والطريق السيار القاري الرباط-البيضاء سيفتتح في 2029    حصيلة الأمن الوطني لسنة 2024.. تفكيك 947 عصابة إجرامية واعتقال 1561 شخصاً في جرائم مختلفة    أكرم الروماني مدرب مؤقت ل"الماص"    وزير العدل يقدم الخطوط العريضة لما تحقق في موضوع مراجعة قانون الأسرة    الحصيلة السنوية للمديرية العامة للأمن الوطني: أرقام حول المباريات الوظيفية للالتحاق بسلك الشرطة        الاعلان عن الدورة الثانية لمهرجان AZEMM'ART للفنون التشكيلية والموسيقى    أحمد التوفيق، وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية .. رأي المجلس العلمي جاء مطابقا لأغلب المسائل 17 المحالة على النظر الشرعي        البيضاء: توقيف أربعيني متورط في ترويج المخدرات    آخرها احتياطيات تقدر بمليار طن في عرض البحر قبالة سواحل أكادير .. كثافة التنقيب عن الغاز والنفط بالمغرب مازالت «ضعيفة» والاكتشافات «محدودة نسبيا» لكنها مشجعة    هولندا: إدانة خمسة أشخاص في قضية ضرب مشجعين إسرائيليين في امستردام    المغرب يستورد 900 ألف طن من القمح الروسي في ظل تراجع صادرات فرنسا    جمهور الرجاء ممنوع من التنقل لبركان    وزارة الدفاع تدمج الفصائل السورية    مراجعة مدونة الأسرة.. المجلس العلمي الأعلى يتحفظ على 3 مقترحات لهذا السبب    الصناعة التقليدية تجسد بمختلف تعبيراتها تعددية المملكة (أزولاي)    الدورة العاشرة لمهرجان "بويا" النسائي الدولي للموسيقى في الحسيمة    العلوم الاجتماعية والفن المعاصر في ندوة بمعهد الفنون الجميلة بتطوان    طبيب يبرز عوامل تفشي "بوحمرون" وينبه لمخاطر الإصابة به    اليوم في برنامج "مدارات" بالإذاعة الوطنية : البحاثة محمد الفاسي : مؤرخ الأدب والفنون ومحقق التراث    تفاصيل الاجتماع الأول لفدرالية الصحافة الرياضية بالمغرب    الشبكة الدفاع عن الحق في الصحة تدعو إلى التصدي للإعلانات المضللة        يوسف النصيري يرفض عرض النصر السعودي    إلغاء التعصيب ونسب الولد خارج الزواج.. التوفيق يكشف عن بدائل العلماء في مسائل تخالف الشرع ضمن تعديلات مدونة الأسرة    الملك يشيد بالعلاقات الأخوية مع ليبيا    "أفريقيا" تطلق منصة لحملة المشاريع    مجلس الحكومة يتدارس أربعة مشاريع مراسيم    ما أسباب ارتفاع معدل ضربات القلب في فترات الراحة؟    الإصابة بالسرطان في أنسجة الكلى .. الأسباب والأعراض    نظرية جديدة تفسر آلية تخزين الذكريات في أدمغة البشر    العصبة تكشف عن مواعيد مباريات الجولة ال17 من البطولة الاحترافية    "فيفبرو" يعارض تعديلات "فيفا" المؤقتة في لوائح الانتقالات    الإعلان عن تشكيلة الحكومة الفرنسية الجديدة        عودة نحو 25 ألف سوري إلى بلدهم منذ سقوط نظام الأسد    مستشار الأمن القومي بجمهورية العراق يجدد موقف بلاده الداعم للوحدة الترابية للمغرب        "بيت الشعر" يقدم "أنطولوجيا الزجل"    المغرب يشارك في أشغال الدورة الأولى لمجلس وزراء الأمن السيبراني العرب بالرياض    اختطاف المخيم وشعارات المقاومة    تقديم «أنطولوجيا الزجل المغربي المعاصر» بالرباط    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ما بعد الديمقراطية Après la démocratie

يستهل الكاتب إيمانويل طود Emmanuel Todd مؤلفه بانتقاد لاذع لساركزوي وأسلوبه في الحكم وسلوكه اليومي العادي، مؤكدا على اختلاط اللعبة السياسية بفرنسا وعدم إمكانية التمييز بين اليمين واليسار وهيمنة المصلحة الخاصة، وخاصة المادية منها، على حساب الوفاء للحزب أو لمبادئ أيديولوجية وسياسية بعينها. وإذا كان ساركوزي، على حد تعبير الكاتب، يمثل نموذج السياسي اليميني الذي يعمل جاهدا من أجل انحلال الأيديولوجية السياسية، فإن "سيجولين روايال" تمثل نفس الشيء في القطب الإشتراكي.
ينطلق الكاتب من أطروحة مفادها أن انتخاب ساركوزي كرئيس رغم سوء أخلاقه العامة ودنو مستواه الثقافي يعبر في العمق عن المستوى العام الذي وصلت إليه فرنسا أخلاقيا وثقافيا. و علىالرغم من أن هذا التعميم غير موضوعي ومغالى فيه، فإنه يتضمن الكثير من الصواب، على اعتبار أنه يمثل الوجه الأسود للمجتمع الفرنسي ومستوى اللامعنى واللامبالات الذي وصل إليه توريث شرعي لثورة غيرت جذريا ليس فقط فرنسا، بل أوروبا والعالم معها. والتشخيص الموضوعي الذي ينجح فيه "طود" هو تأكيده على الأزمة العميقة التي وصل إليها المجتمع الفرنسي. وبما أن كل تشخيص ينطلق من ملاحظة مجموعة من الأعراض غير العادية في الشخص أو في مجتمع ما، فإن طود ركز تحليله على خمسة أعراض رئيسية، تشكل على العموم أزمة فرنسا حاليا:
تفكك الفكر الذي يقود إلى الفراغ الأيديولوجي والديني في فرنسا.
الضعف الفكري الناتج عن كساد التربية المؤسساتية بما فيها المدرسة، وهو كساد يعري عن أزمة حقيقة للديمقراطية.
العنف و هوالذي يعبر عن البعد السلبي للديمقراطية.
حب المال كظاهرة سلوكية ونتائجه على مصير الإقتصاد عالميا.
التزعزع الوجداني والعائلي، حيث يكمن انحراف أنثروبولوجي طويل، سبب على المدى الطويل أيضا انحرافا سياسيا واجتماعيا.
تشكل هذه الأعراض في نظره، هناك أعراض أخرى من طبيعة الحال، أزمة النموذج الديمقراطي الفرنسي، وهي أزمة تهدد حسب طود استمرارية هذه الديمقراطية وإمكانية القضاء عليها دون رجعة، إذا لم يعمل المرء على تدارك الموقف وحث السير في طريق إصلاح ما يمكن إصلاحه قبل فوات الأوان.
يعتبر عام 1791 حاسما في تاريخ المسيحية في فرنسا. ففي هذه السنة ظهرت الملامح الأولى للخارطة الدينية المسيحية الفرنسية بشكل ملفت للنظر. وهي خارطة حددت البنية السياسية لهذا البلد وأثرت فيها على امتداد قرنين من الزمن إلى الآن. ومن المعلوم أن الشرخ في الكنيسة الفرنسية قد حدث سنة 1790 عندما طولب رجال الدين بالإلتحاق بالثورة. من طبيعة الحال كان منهم من قبل وآخرون رفضوا، ومثّل الرافضون فيما بعد ثكنات أحزاب اليمين. ففي الوقت الذي تحررت فيه مناطق فرنسية بأكملها من جبروت الكنيسة، ظلت أخرى وفية لها. ولم تفرض الثورة التفريق بين الدين والدولة في فرنسا إلا عام 1905، كرد فعل على "الخطر" الذي مثله لها الدين والمناطق التي حافظت على المسيحية. و منذ ذلك الوقت و فرنسا تعيش على إيقاع الأزمة الكنسية، وهذا شيء عادي إذا استحضرنا إلى الذهن تشجيع الناخب المسيحي الذي كان قد اختار عام 1790 الخضوع للثورة الجمهورية للحزب الإشتراكي، بينما استمر اليمين المسيحي في الإختفاء والضعف إلى أن "احتضر" عام 2002 بعد تأسيس UMP. وظهور الجبة الوطنية FN، وهو ظهور لا يعزى فقط لحضور المهاجرين، بل أيضا إلى نوع من "السؤم" السياسي عند الإنسان الفرنسي العادي من الأحزاب سواء اليمينية أو اليسارية.
ما يميز الحالة الراهنة للسياسة الفرنسية، في اعتقاد طود، هو خيانة الإشتراكيين لكل مبادئهم اليسارية وسقوطهم الفعلي في أحضان ليبرالية رأسمالية أتت على الأخضر واليابس للأيديولوجية الإشتراكية ودجنت شخصيات اشتراكية للأمس القريب كباسكال لامي، الذي "وهبه المرء" منصب مدير المنظمة العالمية للتجارة ودومينيك شتراوس خان الذي أصبح على رأس منظمة النقد الدولي. وخيانة المبادئ لا تقتصر على الإشتراكيين فقط، لكنها تشمل "الدوغوليين" كذلك. فإذا كان الإشتراكيون خانوا الطبقة العاملة، فإن الغوليين خانوا الأمة حسب طود.
أدى اختفاء الكنيسة، التي اقترحت على المستوى النفسي حلا لإشكالية الإشكاليات الوجودية للإنسان، يعني الموت، إلى نوع من الفراغ و اللامعنى الوجودي، لأن الإنسان المتحرر من قيود الدين وبالخصوص الإنسان الملحد في حاجة إلى "عدو" بدونه تصبح الحياة دون مذاق وتٌفتح أبواب العدم والموت في وجه الفرد. و في بحر التسابق لإيجاد معنى جديد للحياة و بموت فكرة الفردوس الذي كان الدين يعد به، يٌعد الفردوس الأرضي الذي وعد به اليمين واليسار على حد سواء مفقود كذلك. لم يبق أمام الإنسان إلا محاولة العثور على معنى جديد للحياة: المال/ الجنس/ العنف، أي ما كان الدين سابقا يراقبه، تماما كما وقع للفكر القديم قبل 2000 عام، عندما أفل نجم الإعتقاد في الآلهة الوثنية وكان من الضروري إيجاد معنى أرضي للحياة.
أكان المرء واعيا بذلك أم لا، فإن هناك أزمة دينية تجتاح مجموع أوروبا حاليا في نظر طود. فالتركيز السلبي للعشر سنوات الأخيرة على الإسلام في الغرب عموما من طرف النخبة السياسية والثقافية لا يمكن فهمه حتى ولو استحضرنا تجربة سابقة عليها في فرنسا بالخصوص ، أي حركات ضد العرب في ثمانينات القرن السابق، حتى ولو كانت هذه الحركات قد قيدت من طرف أحزاب يمينية لاستقطاب الطبقات الشعبية في عز أزمة اقتصادية واستفحال العٌطالة والحضور القوي للعامل العربي. ما يميز الحملات المعادية للإسلام الحالية هي أنها لم تعد حكرا على جزء كبير من الطبقات الشعبية، بل أصبحت نقطة اهتمام مجموعة من المفكرين والصحافيين سواء أكانوا من الصفوة السياسية والإقتصادية أو "النخبة الشعبية". ولم يعد هذا الهجوم محصورا على بلد غربي بعينه، بل تعداه ليشمل كل هذه البلدان تقريبا. والواقع أن أطروحة صدام الحضارات هي تنظير إمبريالي لموازين القوى وتأكيد على تفوق أمريكا والغرب عموما على باقي الأمم وبالخصوص ضد العالم الإسلامي والصين. يتعلق الأمر إذن، حسب طود، بنوع جديد من النرجسية الثقافية الغربية و هيتعبير واضح إلى حدود بعيدة عن الفراغ الروحي للغرب. إضافة إلى هذا فإن هناك نوع من التصعيد النفسي للغرب حاليا، الذي يرفض مواجهة أزماته على اختلاف أنواعها، مشيرا بالأصابع إلى أزمات العالم الإسلامي الناتجة عن مروره بمرحلة انتقالية حيث أصبحت الأمية شبه عامة فيه وحيث غياب أي توجيه أيديولوجي وديني واضح، يُنتج بدوره القلق والبلبلة الإجتماعية، بل وحتى العنف في صفوفه. أكثر من هذا فالإسلام كدين، في رأي طود، يعرف هو بدوره أزمة، لأن الإعتقاد فيه يتدهور رويدا رويدا بطريقة غير عيانية، وما تكثيف الممارسة الدينية في بعض الدول المسلمة إلا عربونا على نجاعة مفعول تأثير الحداثة، التي تبدأ بمثل هذه الدوخة الدينية لتنتهي بتحجيم هذا الأخير إلى حدوده الطبيعية كديكور ثقافي باستطاعته تقديم بعض الخدمات الإجتماعية المعينة والمحدودة. وإذا كان الكثير من المسلمين يهابون العلمانية، بل لم يكونوا يعيرون لها اهتماما يذكر في ربع القرن الماضي، لأنها كانت منشغلة بالمسيحية، فإنهم قد وجدوا أنفسهم، بعدما انتصرت اللائكية، وجها لوجه أمام هذه الأخيرة. من هذا المنطلق، فإن الإسلام كدين هو كبش الفداء الذي تقدمه اللائكية أو كما يقول طود: "في أوروبا بداية الألفية الثالثة، يصبح (أي الإسلام) أضحية لحالتنا الميتافيزيقية المزرية، لصعوبة عيشنا دون إلاه مع تأكيدنا على أن حداثتنا هي الحداثة الوحيدة الممكنة والصالحة". إن العداوة التي يواجهها الإسلام من طرف الغرب، كما يؤكد على ذلك طود، هي تعبير واضح على الكساد الروحي والأيديولوجي للغرب وهي تصعيد لجملة من النقائص التي يعيشها على دين مغاير للدين الذي راج في الغرب لمدة قرون طويلة.
حال الديمقراطية، فيما يرى طود، ليس على ما يرام حاليا في البلدان التي طورت هذا النظام في الحكم منذ قرون كفرنسا وأنجلترا و الولايات المتحدة الأمريكية. ويعتبر حال فرنسا أسوء بكثير، إذا أخذ المرء بعين الإعتبار الجنوح عن التصويت منذ 1995 والحضور القوي لليمين المتطرف. ويمكن للمرء أن يلاحظ منذ 2002 لعبا خطيرا في الحضيرة السياسية الفرنسية بين الناخب والمنتخب دون معرفة من يتحكم في اللعبة بينهما. ومن الأمثلة على النموذج الجديد للديمقراطية الفرنسية هناك إشكالية رفض الدستور الأوروبي في شهر فبراير 2008، وقرار مجلس النواب بغرفتيه بعد ذلك التصويت عليه. فبعد ما طولب الشعب بالإدلاء برأيه في قضية مصيرية تهمه، يأتي الممثلون له ويلغون اختياره. يظهر إذن، حسب الكاتب، بأن هناك تشنج في العلاقة بين الحاكم والمحكوم، بين الديمقراطية وحكم الفرد الواحد. بل أكثر من هذا فإن هناك نوع من فرض الفهم التوكيفيلي Toqueville للديمقراطية التي كان يعتبرها نسقا مغلقا في وعلى ذاته، يمتلك منطقا داخليا أتى من حيث لا ندري. ولهذا السبب لابد من قبوله كما هو، بمساوئه ومحاسنه. ويرجع سبب هذا الإهتمام الجديد بتوكوفيل إلى بعض أطروحاته البسيطة حول الديمقراطية من بينها أطروحة "المساوات" الخطيرة على الحرية. أصبح توكوفيل، بعد الإشهار الرائع الذي قام به له رايمون أرون صورة طوطيمية في الأوساط الأكاديمية الفرنسية، ومنها تلك التي تنتمي للطبقات الشعبية، ولا مجال للمقارنة هنا بين النخبة المثقفة البورجوازية التي دافعت عن الماركسية والنخب الجديدة.
كانت الديمقراطية مقرونة إلى عهود قريبة بالتعلم وكان الدور المناط بالمدرسة "كآلة" لصنع المساواة بين أفراد الشعب جد واضح وغير قابل للمناقشة. نمت الديمقراطية بالفعل عندما حوربت الأمية عن طريق المدرسة وعندما أصبح تعلم القراءة والكتابة غير محصور على طبقة دون غيرها. أصبح الشعور بأن هناك نوع من المساوات الإجتماعية، بغض النظر عن الفروق الإجتماعية، وبهذا يمكن القول بتحفظ كبير بأن تعلم القراءة والكتابة هو ميلاد مبدأ ديمقراطي يتمثل في المساوات. لم تكن الديمقراطية السياسية سببا لتعميم التعليم، بل نتيجة لهذا الأخير. وبفضل التعليم استطاعت الثورات أن تنجح في فرنسا وأنجلترا وروسيا والصين وإيران. وقد كانت "ثورة 68" نتيجة هذا، جزئيا على الأقل
هناك إذن تكسير/انشقاق/شرخ في أهرام الأيديولوجيات التقليدية، ابتداء من الستينات للقرن الماضي، ولم يكن ماي 68 إلا بداية سيرورة هدم الأيديولوجيات، وهي صيرورة يتضح أن بداية نهايتها قد حلت حاليا. ومن المؤشرات الواضحة على هذا هناك تفتت الكثير من المعايير الأخلاقية القديمة، سواء أكانت سياسية أو دينية. فالوظيفة أو العمل المزاول من طرف الشخص هو الذي أصبح يحدد هويته. وظهور "السياسة" كوظيفة هو شيء جديد على الإطلاق و"السياسي" لم يعد يرى أي حرج في اعتبار نفسه موظف ولا يقلقه عدم الإهتمام بالأفكار التي عليه الدفاع عنها بقدر ما يهمه الربح المادي من مهنته. وفي ظل هذه المتاهات الجديدة أطلت علينا صحافة جديدة لم تعد مرتبطة هي الأخرى بأفكار وثقافات وأيديولوجيات، بقدر ما هي مرتبطة بكسب الرزق والإكتساب وأصبح المرور فيها من جريدة يمينية إلى أخرى يسارية أو العكس أو المرور من جريدة حزبية إلى أخرى دون توجه سياسي أو العكس كذلك، أمر لا يشكل أي مشكل لا أخلاقي ولا سياسي ولا مهني.
أصبح "المناضل" في الأحزاب اليسارية مثلا يُقاس بدرجة تعلمه وليس بتضحياته لأفكاره واستماتته للدفاع عنها. هناك إذن انزلاق واضح للعيان في ثقافة الأحزاب اليسارية في علاقتها مع مناضليها. كان المناضل قديما يساهم في عيش الحزب في جماعة وكان يعيش حياة الجماعة في الحزب. أما "المناضل" الحالي، فإنه يأتي للحزب للمشاركة، لكن يأتي قبل كل شيء للتعبير عن نفسه ومحاولة فرضها وتأكيد ذاته وبالخصوص ليفسح عن نرجسيته، ضانا أنه يمتلك فكرا خلاقا وبأن أفكاره ستحرك الأشياء إلى الأمام، بل أكثر من هذا لا يرى أي حرج في طلب تعويض عن خدماته للحزب، وقد ينفر من هذا الأخير ليذهب إلى آخر إذا لم تتحقق له هذه النرجسية المادية والمعنوية. وللإشارة فإن منطق "النرجسية الثقافية" منغمس حتى العظام في الوصف أكثر منه في الشرح، لذا طغى على الكثير من مثقفي هذه الطينة مبدأ الوصف على مبدأ الشرح، لأن الأول لا يتطلب إلا ثقافة عامة مبعثرة والثاني يتطلب معرفة دقيقة بالأشياء المشروحة والتعمق فيها.
الملاحظ هو أن رد فعل الطبقات الشعبية هو اللامبالات ورفض المثقف. لم يعد للمفكر وللجامعي عموما أي اهتمام يذكر عند الطبقات الشعبية التي وجدت مشاكل جديدة وانغمست في حياتها الخاصة وأصبح المرء يلاحظ نوعا من التمييز الإجتماعي الواضح بين فئات المجتمع. والعنصر الوحيد الذي بقي لتلحيم هذه الطبقات فيما بينها بما في ذلك فئة المثقفين هي وسائل الإعلام وبالخصوص المرئية منها. وهو عنصر رهين بمناسبات بعينها كمباريات كأس العالم لكرة القدم إذا قدر للفريق الوطني التأهل وعدم إقصائه في الدور الأول.
إذا التجأ المرء إلى الأنثروبولوجيا لفهم الأسس الواعية و اللاواعية لفهم الفرنسيين للمساوات، فإن ذلك، حسب طود، قد يسمح بفهم الإختلالات الحالية وبالأخص في النظام الأسري. فتنوع الأنسقة البدوية الذي يحكم البنيات الأسرية الفرنسية، المبني على قيم مختلفة وفي بعض الأحيان متقابلة، يمكن أن يفسر تعدد مداخل فهم مبدأ الديمقراطية الفرنسية.
يعتبر المرء مفهوم العرق race بمثابة مفهوم يفرق، لكنه مفهوم يلحم ويجمع كذلك. وإذا كان المرء يعتبر بأن العنصرية هي عيب للديمقراطية، فإن الصحيح هو أن هذه الأخيرة هي أساس الديمقراطية، لأنها تعتبر في هذا النظام مبدء إقصائيا وإدماجيا في نفس الوقت. لا داعي للتذكير بأن العنصرية رافقت ميلاد الديمقراطية الغربية منذ اليونان، التي لم تكن تعترف لأحد بحق المواطنة إلا إذا كان ينحدر من والدين أثينيين قحيين. وحتى وإن اختفت العنصرية في التجارب الديمقراطية الغربية المعاصرة بعد انتهاء الأبرتايد في إفريقيا الجنوبية، فالواقع هو أننا نجدها حية في التجربة الإسرائيلية. فالثقافة اليهودية ليست ثقافة مساوات في أساسها العائلي، ومثال الإرث في التوراث شاهد على ذلك بتفضيله الرجال عن النساء. أما على المستوى السياسي، فإن النظام الإسرائيلي أقرب إلى النظام الأمريكي أو الإنجليزي البدائي، وأكثر منه إلى النظام الأثيني القديم. فقد كان اليونانيون يعيشون بفضل الحرب من أجل الثقافة، تماما كما هو الشأن لإسرائيل مع العرب.
يعاني الإنسان الغربي للأربعين سنة الأخيرة من نقصان في الأنا الأعلى. من الصعب عليه التفكير والفعل على النمط الجماعي. هناك مرور واضع منذ سبعينات القرن الماضي من الفردانية إلى النرجسية، فالأولى كانت عقيدة مشتركة وأيديولوجية قوة، أما الثانية فإنها تعبر عن حالة تشتت ليست لها أية علاقة بأية عقيدة أو مذهب أو أي مشروع اجتماعي ولا أية رغبة للعمل المشترك. ويدعم الشعور النرجسي بنظام التأمين بكل أشكاله وهو نطام يضمن للفرد حدا أدنى من الأمان المادي المضمون من طرف الدولة. ولا يمكن الإعتماد على هذا الركام الهائل من النرجسيات المغلوب على أمرها من أجل بناء معارضة سياسية ضد الأوضاع المزرية القائمة، لأنها مازالت تتمتع بالقليل من "الشحم والدقيق"، المتمثل في المساعدات الإجتماعية للأنظمة الرأسمالية الأوروبية لفيالق المعطلين عن العمل وعن التفكير في الحلول الجماعية.
لا يمكن لأية ديمقراطية حقيقية الإستغناء عن نخبها. ويمكن القول بأن ما يميز الديمقراطية عن الشعبية populisme هو قبول الشعب بضرورة نخب يثيق بها. ويقدم لنا تاريخ الديمقراطيات شواهد على ظهور نخب في الفترات الحرجة، تعبر عن تطلعات مجموع الشعب، وعندما تتخلى النخب عن الشعب وتسمح لنفسها بالتمتع بما حرمته منه، فإن حكم الفرد الواحد والشعبية يظهران. ويقود هذا إلى توسيع الهوة بين الجماهير والنخب، وغياب التواصل بينهما، وهذا ما أدى بالفردانية أن تصبح نرجسية وتأخذ أبعادا لم يسبق أن لوحظت في التاريخ الطويل للبشرية. أصبح العزل استراتيجية سياسية واعية أو غير واعية، فكل مهنة وكل مدينة وكل فرد أصبح كرة معزولة منغمسة في مشاكلها وملذاتها وعذاباتها ولا تعتبر النخبة السياسية والإعلامية إلا مجموعة منعزلين مقوقعة على ذاتها من بين مجموعات أخرى، ليست أصلح ولا أطلح من الأخريات، بل فقط الأكثر حضورا في الساحة العمومية. أصبحت هذه الفئة غير مطاقة، لأنها لم تعد تماما كنبلاء 1789 في فرنسا تبرر امتيازاتها الكثيرة بالخدمات التي تقدمها للشعب.
ظل النَاخِبُ، كما كان منذ القدم في الديمقراطيات، الهم الأساسي للمُنْتَخَبِ، ليس خدمته، بل استغلاله عن طريق ميكانيزمات لا حصر لها و منها بالخصوص الإستحواذ على وسائل الإعلام بكل أنواعها، واستقطاب و استئجار الصحفيين، لتظليل الرأي العام و التعتيم على مصالحه.
بعد هذه الإطلالة المركزة جدا على هذا الكتاب القيم، يبقى السؤال العالق هو: أية نتيجة لمحاولة "استيراد" النموذج الديقراطي الغربي من طرف النخب السياسية العربية عموما و المغربية بالخصوص؟ بأية استراتيجيات أيديولوجية و سياسية دخلت الأحزاب السياسية ذات التوجه الإسلامي أو المتأسلم، المنتخبة من طرف الشعوب العربية في تونس ومصر و المغرب، حلبة اللعبة الديمقراطية؟ أتعتبر النماذج الديمقراطية الغربية الحالية، بكل تلويناتها و خصوصياتها، نموذجا لأصحاب السلطة في العالم العربي، أم هناك إمكانيات لبناء نماذج مغايرة، مادام مثال مبدأ الديمقراطية يحمل في طياته مقوم الإختلاف و التعددية؟ و قد يكون السؤال الجذري الذي يمكن طرحه في نهاية هذه القراءة هو: ألم تصل النماذج الديمقراطية الغربية ذاتها إلى نوع خطير من "الطوطاليرية" الكولونيانية و لم تتعد إلى حد الآن عتبة العقلية الإستعمارية التوسعية، عاملة بذلك ضد مبدأ حقوق الإنسان و حق الكل في العيش في سلام و رفاهية مادية و اجتماعية و نفسية للجميع؟ ألا نلاحظ أعراض ما وصفه الكاتب في مؤلفه هذا في مجتمعاتنا العربية، حيث تقاد "الثورات" دون توجهات أيديولوجية واضحة و دون تخطيط مسبق للأهداف التي تتوخى الوصول إليها، باستثناء المطالبة ب "الديمقراطية" و "المساوات" و "الحق في العمل" إلخ و دون أن تحدد مضمون هذه المطالب و أي نوع من الديمقراطية المتوخات؟ ألم تكن جل "حركات الغضب" العربية الأخيرة تعبيرا صارخا على الشرخ الحاصل بين الشعوب و نخبها؟ و كيف يمكن أن نشرح "احتواء" نخب جديدة عن طريق "انتخابات نزيهة" و تجردها من كل مبادئها الأيديولوجية واستعدادها للغطس في أتون ديموقراطيات مزيفة بتزكية من الغرب، السابح بدوره في ديموقراطية دائخة تدور في حلقة تاريخية مغلقة، دون أن تستطيع تطوير نماذجها الديقراقية المحلية، بل بالضغط على الشعوب الأخرى لتُفَصِّل نماذجها الديموقراطية من نفس الثوب الذي تستعمله في خياطة نماذجها؟


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.