قد يتساءل قراء الشاعرة والكاتبة فاتحة مرشيد وهم يقرأونها: هل هي حقا ما تكتبه أو ما لا تكتبه؟ ماذا يخفي هذا الإيغال في الجرح والحزن الشفيف الذي ينضح من كل كتاباتها؟ في هذه الأوراق من شجرة الكاتبة فاتحة مرشيد، ستسقط الأوراق تباعا ولو أننا لسنا بخريف.. سنتبادل الأدوار لننصت نحن القراء لبعض من وجعها الخفي، حبوِها الأول، لطفولتها الصعبة، للخبايا التي تنزوي خلف الابتسامة العريضة التي لا تغيب عن محياها، للبراكين التي اعتملت داخل هذا الهدوء الذي يشي به الخارج. لننصت إذن ونحن نقرأ فصول حكايتها الحقيقية، إلى الأصوات التي تنبعث من غرفها المظلمة والمضيئة، فربما يرسم كل منا صورة مغايرة لما كوّنه عنها من قبل، أو يتعرف على جانب خفي من شخصيتها.
لا تنتصر فاتحة مرشيد في جل أعمالها الشعرية والروائية، لجنس بعينه يحصرها في إطار أو نسق معين للكتابة، وهي بذلك تنأى بكتاباتها عن كل تصنيف جنساني يطرح قضايا من وجهة نظر أحادية للعالم ولفئاته. فالمرأة لا تحضر في أعمالها إلا ضمن السياق السردي العام، وبما يخدم الجوهر الإنساني الذي يبتغي العمل الإبداعي ملامسته. أنا أكتب أدبا إنسانيا لا نسائيا تجيب فاتحة عن حضور المرأة في كتاباتها أنها لم تحس يوما بأنها تكتب للمرأة أو عن المرأة فحسب. «لا أكتب بصفتي امرأة ضحية لها ثأر وعليها أن تأخذ ثأرها من الرجال. الرجال الذين عشت معهم (والدي وإخوتي) والذين عرفتهم في ما بعد ومنهم زوجي، هم رجال احترموني وقدروني. ووالدي لم يحسسني بأن طموحاتي يجب أن تكون أقل من إخوتي الذكور، على العكس فقد كان فخورا بي ويحثني على أن أرفع رأسي وأن أقول كلمتي وأن أحترم نفسي وأن أفرض احترامي على الآخرين.» كتبت فاتحة عن الإنسان بما هو كائن في علاقته مع نفسه ومع العالم. والسارد في أعمالها يكون امرأة أحيانا، وأحيانا أخرى رجلا، وهو ما يلمسه القارئ مثلا في روايات «الملهمات»، «مخالب المتعة»، «انعتاق الرغبة». تقول إن ما يهمها هو المعاناة الإنسانية بغض النظر عن الجنس، وتضيف أن كتاباتها تنتصر للإنسان بهشاشته ومعاناته وفي كل حالاته. «تعجبني الكتابة عن الشخصية التي كانت في سبات وفتحت عينيها لتتحرر وتحقق أحلامها. وعندما أكتب لا أفكر في كوني أكتب بصفتي امرأة. أتلبس شخصية البطل أو البطلة كليا بغض النظر عن الزاوية الجنسانية. ولهذا يزعجني تصنيف الأدب إلى أدب نسائي أو رجالي، هناك إبداع إنساني بحساسيات مختلفة وقراءات متعددة وبأنماط متعددة من التلقي. أنا أكتب أدبا إنسانيا لا نسائيا.» في «ورق عاشق» كتبت فاتحة بحس ذكوري يوميات رجل عاشق. وتقول إنها أعطت للجانب الذكوري فيها حقه في أن يعبر عن نفسه باعتبار أن كل إنسان فيه جانب من الذكورة والأنوثة. وفي روايتها الأخيرة «انعتاق الرغبة»، ذهبت أبعد من ثنائية الجندر (رجل وامرأة) لتتحدث عن نوع آخر بينهما، فالإنسان مثل قوس قزح فيه جميع الألوان على حد قولها. أما في «الحق في الرحيل» فقد عالجت فكرة الموت الرحيم من وجهة نظر إنسانية: وتقول: «أمام المعاناة يتشابه الرجال والنساء. ليس هناك ألم خاص بكل جنس، لذا أذهب في كتاباتي إلى ما يمس جوهر الإنسان». الجسد: عري إنساني غير مقدس لا تنظر فاتحة مرشيد للجسد من نافذة إيروتيكية خالصة. وعندما تكتب اليوم عن الجسد، فلأن علاقتها به كانت دوما مباشرة بحكم تخصصها المهني. لقد عايشت الجسد في كل حالاته، في نزيفه، في ألمه، في عريه بما هو عري إنساني. وهذه المعايشة اللصيقة جعلتها تنزع عنه هالة المقدس. «الجسد هو ما يربطنا بالطبيعة، والكتابة هي كتابة الجسد ولا يوجد إبداع خارج دائرة الجسد من وجهة نظر علم النفس، والإنسان كل متكامل جسدا وفكرا، ولهذا «كل فكرة هي بوح جسد.. سيرته الذاتية» على حد قول نيتشه. بحكم مهنتي تعلمت النظر إلى الجسد كعضو يبحث عن علاج أي أنني أضع مسافة بيني وبينه مما يجعلني ككاتبة أتناوله بكل تجرد، وأنفذ إلى عمقه باحثة عما وراءه.» تقول فاتحة إنها لا تفهم لماذا يعود دائما نفس السؤال عن الجسد وكأنه شيء خارج عن كينونة الإنسان، وتربط ذلك بكون المتخيل الثقافي يحيله على الجنس. وتضيف: «الجنس نفسه لم يعد مقدسا منذ فصل عن مهمة الإنجاب (وهو مفهوم كرسته بعض الديانات) وأصبح يوجد لغرض المتعة أساسا. لم يعد الجنس يلعب دورا اجتماعيا منذ أصبحت لنا بنوك للحيوانات المنوية وبنوك للبويضات. ثم، لا يجب أن ننسى بأن العضو الجنسي الأساس هو الدماغ.» وعن سبرها لهذا الكائن المعقد والمتعدد الأبعاد، الذي يسمى إنسانا تقول: «كطبيبة كان همي التعرف على الإنسان كجسد من الناحية الفزيولوجية والبيولوجية، ككاتبة أصبح همي التعرف عليه كذات بقلقه الوجودي ومعاناته النفسية وعلاقاته مع الآخرين، والآن أنا في مرحلة جديدة من حياتي تسعى إلى سبر علاقته بالكون من جانب فلسفي وروحاني.» عن جائزة المغرب للكتاب من البديهي أن الجوائز لا تصنع المبدع، وحده الإبداع يصنع المبدع، لكن قيمتها الرمزية قد تشكل إضافة نوعية لمساره. تقر فاتحة مرشيد بأن من أفضال جائزة المغرب للشعر عليها، كقادمة من مجال الطب، أن حررتها من هذا الإحساس بالدخيلة الذي صاحبها لسنوات، وجعلتها تشعر بالانتماء الكامل لقبيلة الأدباء. وتقول فاتحة عن جائزة المغرب تحديدا: «رمزية جائزة المغرب للكتاب تكمن في كلمة الاعتراف، وكما تقول سيمون دي بوفوار «نحن نلمس البعد الإنساني لذواتنا من خلال اعتراف الآخرين بنا»، وقيمة هذا الاعتراف تكون أكبر إذا كان اعترافا من داخل الوطن. لأنه صعب المنال على اعتبار أن «عازف الحي لا يطرب» من جهة ومن جهة أخرى لأن هناك داخل كل مبدع طفل يحتاج لكي يكبر، بالمعنى الشامل والعميق للكلمة، إلى تشجيع وإلى اعتراف من الأب أو ما يرمز له، والوطن أب للجميع. ولهذا فجائزة المغرب للكتاب تكتسي أهمية كبرى عند المبدعين المغاربة «. وتضيف أنه علينا أن نضع الجوائز في سياقها ولا نحملها أكثر مما تستحق لأنها نتيجة تقييم لجنة معينة، واللجنة هي مجموعة أعضاء لهم أذواقهم الفنية الخاصة.