قد يتساءل قراء الشاعرة والكاتبة فاتحة مرشيد وهم يقرأونها: هل هي حقا ما تكتبه أو ما لا تكتبه؟ ماذا يخفي هذا الإيغال في الجرح والحزن الشفيف الذي ينضح من كل كتاباتها؟ في هذه الأوراق من شجرة الكاتبة فاتحة مرشيد، ستسقط الأوراق تباعا ولو أننا لسنا بخريف.. سنتبادل الأدوار لننصت نحن القراء لبعض من وجعها الخفي، حبوِها الأول، لطفولتها الصعبة، للخبايا التي تنزوي خلف الابتسامة العريضة التي لا تغيب عن محياها، للبراكين التي اعتملت داخل هذا الهدوء الذي يشي به الخارج. لننصت إذن ونحن نقرأ فصول حكايتها الحقيقية، إلى الأصوات التي تنبعث من غرفها المظلمة والمضيئة، فربما يرسم كل منا صورة مغايرة لما كوّنه عنها من قبل، أو يتعرف على جانب خفي من شخصيتها.
ترى فاتحة أن علاقة الحرية بالكتابة، تنطلق من كونها إحساسا داخليا قبل كل شيء، ومرتبطة بمرجعيات الكاتب الثقافية والفكرية وبقناعاته في الحياة. تقول فاتحة «شخصيا أرفض أن أوضع في قالب معين أسجن فيه إبداعي وحريتي. لأنه في نهاية المطاف يبقى المهم لدى الكاتب هو عملية الكتابة في حد ذاتها. هي هذه التجربة الانفعالية الحادة التي تمنحها له الكتابة خلال بلورتها وهو يبني عالما جديدا وفريدا. انتهاؤه من نص يحس فيه بأنه استطاع أن يعبر بدقة عما يخالجه، ورضاه عنه هو الذي يمنحه الرضا عن نفسه إلى حين». لا تضع فاتحة خططا لما ستكتبه في أي عمل جديد لأن الحياة هي ما يفرض على الكاتب مواضيع الكتابة، بل تتعامل مع كل فكرة تفرض نفسها وتلح عليها. تقول فاتحة: «الإبداع مرتبط بالحدس والانفعالات أكثر مما هو وليد التفكير العقلاني وهو مدثر بالغموض لهذا لا يمكن أن نتحدث عن مشاريع مبرمجة ومفكر فيها. أتقدم دائما في منطقة الشك وليس في منطقة اليقين أو الثقة الكاملة. لا أعلم بشكل كامل ما أنا قادمة عليه، أبدأ بخطوة تتلوها خطى في شبه عتمة.. أتقدم من المعلوم نحو المجهول.» في كل ما كتبته في الشعر والرواية والقصة، تعيش فاتحة منفتحة على كل الاحتمالات ولا تكبل نفسها باختيار معين، مؤمنة بأن الكتابة مجال للحرية وعليها أن تتعامل معها بحرية. تعتقد فاتحة أن هامش الحرية الكبير في كتاباتها خاصة الروائية، تأتى لها بفضل تحررها من الانتماء لأي مدرسة معينة أو ارتهانها لقواعد مكبلة، لأن الكاتب الذي يسجن نفسه بالقواعد يحد من تجربته. تقول فاتحة:» ليست لدي قوالب جاهزة أو مناهج للكتابة، أنا لا أكتب وفق قواعد كتابة الرواية لذا لا أخاف من الخروج عنها أو تكسيرها.. هذا يعطيني حرية أكبر. الإبداع خلق وابتكار، وكل تجربة إبداعية هي تجربة استثنائية لا يجب أن تتشابه مع تجارب الآخرين أو تخضع للنسقية الخانقة. لا أعتبر تجارب الآخرين منافسة لي. المنافسة الوحيدة التي أقوم بها هي مع نفسي. كل عمل صدر لي هو ملك للقارئ وليست لي سلطة عليه بعد ذلك. فأنا لست مسؤولة عن تأويلات القارئ لأنني أومن بالإختلاف وأحترمه كما أحترم رأي الناقد الذي اعتبره رأيا شخصيا. لأن المبدع يستمد الجمال من الفوضى والناقد يبحث عن نظام.. النظام الوحيد هو الذي يصنعه الكاتب من هذه الفوضى وهو نظامه الخاص الذي قد لا يتوصل إليه الناقد.» لاتخاف فاتحة من ردة فعل القارئ، لذا تصر في كل عمل جديد على سلك دروب أكثر التباسا وإثارة للجدل، لأنها تكره صورة الكاتب النمطي. تقول «أنا أكتب لأفاجئ القارئ بأشياء لم يكن ينتظرها مني لأن المفاجأة هي العامل الحاسم في تطور التجربة الإبداعية من عدمها، وعندما ندخل اعتبارات القارئ أو الناقد أثناء الكتابة لا يمكن الحديث لحظتها عن الحرية. أعرف أن قرائي ينتظرون مني الجديد الذي يفتح زوايا أخرى للنظر ، زوايا تجعلهم يغيرون نظرتهم للأشياء ولأنني أحترم ذكاء القارئ أشرع له نافذة جديدة في كل عمل». وعن سؤال لمن تكتب فاتحة مرشيد؟ تجيب: «أكتب للقارئ الذكي الذي يقاسمني حرقة الأسئلة. القارئ الذي سينفخ من روحه في الكتاب ويمنحه حياة أخرى. القارئ الذي لن يقتصر على قراءة رواياتي بل سيعيش كل قصة كما لو كانت قصته الخاصة.. فيبكي في المقاطع التي كتبتها بدمي وبكيت أثناء تدوينها، ويضحك ملء الصوت في التي كتبتها بخفة وشغب. أكتب للقارئ الإنسان الذي سيجد في مرآة حروفي صورة لوجعه الوجودي ويقر على أن الوجع واحد عندما يتعلق الأمر بالإنسان.» ترى فاتحة مرشيد أن الروائي ليس منظرا أو قاضيا ولا مقدم دروس، عليه فقط أن يكتب ليستفز القارئ ويحثه على طرح الأسئلة للبحث عن إجابات لها دون أن يسقط في فخ الطرح الأخلاقوي أو يهمل الشق الجمالي في الكتابة، لأن الإبداع الحقيقي لا يقف عند خطوط حمراء، هو أبعد من ثنائية الخير والشر ..الفاضل والفاجر. فالقارئ عندما يجد إبداعا حقيقيا، فإنه يتجاوز كل نظرة أخلاقية للعمل الإبداعي. من الأشياء التي تعتبر فاتحة مرشيد أنها حررتها من كل رقابة شخصية، عدا التكوين المنهجي الذي لم تخضع له بحكم تخصصها المهني، أنها جاءت إلى عالم النشر بعد حياة بأكملها في عالم الطب الذي تعتبره تجربة إنسانية عميقة. وربما هذا الخروج المتأخر جعلها ناضجة ومتصالحة مع نفسها ومع الآخرين وحررها بعض الشيء من نظرة الآخر. تقول في هذا الصدد « لوكنت كتبت في سن العشرين، ربما ما كنت لأكتب بنفس الحرية. ليس لدي أساتذة في الآداب. أساتذتي طيلة مساري هي الكتب. حتى أصدقائي من الشعراء والكتاب تعرفت عليهم بعد أن ولجت عالم النشر واللقاءات الادبية. أقرأ الكتب التي تضيف إلي وتحيلني بدورها على قراءات أخرى وأحس أنني كبرت ونضجت بعد قراءتها. أقرأ كثيرا بالفرنسية والانجليزية أحيانا، لأن الأدب العالمي يستهويني، لكنني أكتب بالعربية لعشقي الشديد لهذه اللغة، كما لا أقتصر على قراءة الأدب بل ألتهم كتب الفلسفة وعلم النفس والاجتماع والعلوم الطبيعية وغيرها.» عن مصادرة كتبها في بعض الدول العربية تقول فاتحة: «مصادرة كتبي تحفزني أكثر على الكتابة لأنها تأكيد على أننا بحاجة أكثر إلى تعرية النفاق الذي نتخبط فيه والسكيزوفرينيا التي نعاني منها. ثم من يصادر الكتب؟ بالتأكيد ليس القراء بل الرقابة كسلطة تخاف الكتب وتشهر السيوف في وجهها. وأنا لا يهمني سوى القراء. نحن في عصر العولمة والقارئ عندما يريد قراءة كتاب فهو يبحث عنه بكل الوسائل ويتوصل إليه. والكتب التي تصادر علانية تقرأ في السر.. تعجبني فكرة أن أُقرأ في السر. لأن من بين الكتب التي ساهمت في رفع مستوى وعيي وجعلتني أكبر فكريا وحسيا وإبداعيا،توجد كتب قرأتها في السر.» تقول فاتحة مرشيد بأن شرط الإبداع الحرية، ولا توجد حرية دون استقلال مادي، والكاتب يحتاج أن يكون مستقلا حتى لا يجبر على مد يده لأحد أو بيع روحه لأحد وحتى يظل صوته حرا وصادقا وشجاعا. وتضيف «إن كانت فيرجينيا وولف تقول بأن المرأة لكي تكتب لا بد لها من غرفة خاصة وبعض المال بمعنى استقلالية مادية، فهذا يسري على الرجل المبدع كذلك. لكن مع الأسف، الكتاب الذين يعيشون من كتاباتهم في الدول العربية يشكلون استثناء.»