في فرصة قليلة الحدوث أن يجتمع مثقف وأديب وحكواتي وفيلسوف بعقلية تاجر في نفس الوقت وفي نفس الإنسان دون أن يغادر أحد هؤلاء الأربعة ذاك الإنسان ، متآنسون في ما بينهم، يشربون القهوة مرة ويتناولون المحرمات مرة أخرى دون أن تحس بأن هناك تنافرا بين الأشخاص المجتمعة فيه، بل تحس أن ثمة تأثيرا لكل منها على الآخر بشكل من الأشكال، عندما يسكت المثقف يعرف متى يسكت، ومتى وجد الأديب القابع فيه باستمرار مناسبة للتدخل تدخل بشجاعة وحنكة رجل متمرس يعرف خريطة أين تتجه الخطابات، ويعرف أين تشير منحنيات الكلام، ليس هناك خبط وإرسال للكلمات على عواهنها، أو عبارات تلقائية تخرج صدفة، قد تحدث الصدف لكن ليس دائما، ولو حدثت لشخص مرارا وتكرارا فهذا يدل على أنه إنسان ينطلق من خزان ثقافي محترم يستطيع أن يمنحه حديثا ثقافيا مختلفا، يمنحه روح الكلمات، يمنحه وقت صلاحيتها وتاريخ انتهاء تداولها. في أحيان أخرى يتحول الأديب إلى فيلسوف يتأمل الوجود، يخاطب بعقله الأشياء ويخزن قوانينها، يحتفظ بها إلى فرصة مناسبة للإلقاء والتدخل السريع والمناسب دون تلعثم ارتجالي بطيء. عندما يحكي الحكواتي يعرف متى يتدخل لبعث النكتة في وقت جفاف المشاعر أو توقف الوجوه عن الضحك أو عبوس وجه التاجر في وجه الزبائن. هذا ماحدث لي مع الأديب المخضرم شكيب عبد الحميد، أعرفه كاتبا يجيد القصة والمسرح والسخرية والجلوس على الرصيف، لكنه كان بستانيا فاشلا، لايعرف حرفا واحدا في البستنة، حدائق الليمون لايفهم فيها سوى قشور البرتقال الصفراء، بل ولايعرف كيف تصنع مقامات الموسيقى، كان إذا فات النقر على الدف يدوخ، بل ولاعلاقة له بفن الرسم وأين ومتى تستعمل الظلال والأضواء والألوان والقرب والبعد والحبر والماء، وهذه الأشياء داخل إطار اللوحة، قد يبدي إعجابا حامضا بإحدى لوحات سلفادور دالي السوريالية مجاملة لابنته الرسامة الصغيرة لينة حتى لايقع أمامها في الحرج وهي تضبطه لايفرق بين خطوط الرسم بالقلم الرصاص وبين الرسم بأحجار الفحم. في ذلك المساء كنا معا على الرصيف، أنا مع بساطة (فراشة) ملابس داخلية للبيع والشراء والتقليب وتحت جثتي كراسي بلاستيكية متداخلة بعضها في بعض، كراسي قصيرة متنقلة بدون سنادات ظهر، صلبة حتى لاتطيل الجلوس عليها لأنها ستشعرك بالتعب والتوتر، كأنها تريد أن تتخلص من ثقلك بسرعة، عكس الكراسي المريحة التي تمنحك فرصة الاستلقاء على الظهر ووضع الرجل فوق الرجل وأنت تلوك علكة المانت البيضاء بين لسانك وأضراسك، يمر بائع المكسرات المقرمشة فنمتطي شهوة الرجوع لسنوات الشيبس وتقشير بذور الزريعة السوداء في قاعات عرض الأفلام، أنادي عليه، يكوغد لنا حبات كاوكاو محمص لشخصين لفحهما جوع المساء، وكاغد ثالث من بذور الذرة، مقلية مملحة ولاذعة، لملوحتها لم يذق منها كثيرا، يخاف من داء الملح، ستحوجه إلى شرب المزيد من الماء لغسل ترسباتها في كليتيه مما سيملأ مثانته بولا، وربما لن يجد فرصة للتبول في مكان غاص كهذا. كان شكيب يحمل ملف أوراق إدارية يتأبطه تحت ذراعه مايوحي بأنه خارج للتو من مكتب عمله، وعلى مايبدو كان الرجل جائعا، لأنني وأنا أروي له ورطتي في يوم من الأيام مع هامبرغر من ماكدونالد باهظ الثمن، يأكله الألفبائيون المقدسون فقط (أولاد الألِبَّه) ليكتفوا من الأكل بينما أكلته ليفتح شهيتي على الشراهة، هامبرغر جائع لن تشعر معه بالشبع، بل تحس بأنك ارتكبت جريمة بحق معدتك بتحريك أجهزتها دون أن تحقق لها الإشباع وبخمسة وخمسين درهما دفعتها بكارت ماراثون مازغان ومكثت جائعا أشعر بالنقص، لم يحرك السيد ساكنا، بدا متأثرا بالقصة، ليس لأنني مت جوعا، لا، ولكن لأنه مر بنفس التجربة الفاشلة عندما خنقته ابنته لينة يوما في نفس المطعم، هي تأكل السندويش وتشرب الكوكا وهو يفكر في الخمسة وخمسين درهما لتذكرة الأداء، لايمكن أن يسحب طبقين، واحدا للينة والآخر له لأن الأداء سيتضاعف، مائة وعشرة دراهم، وسيكون مجبرا على طبق ثالث لزوجته، غير مقبول أن يتلذذ هو وابنته بشطيرة لحم مفروم بين شريحتي خبز أمريكي مع الجبنة البيضاء وأوراق الخس بينما الزوجة تنظر إليهما وتتألم وتنتظر. ليس هناك عنف أقسي علي المرأة من إقصائها من طبق الماكدو. لايتصور أن يتهرب إنسان مثقف أديب حكواتي فيلسوف تاجر، مؤمن بالمرأة ، من تخليص طبق لشريكة عمره، وليتحول في ضربة واحدة من ذاك الإنسان المتعدد إلى زنديق شحيح، اللياقة وعدالة البيت هكذا، لاتترك لك مجالا للمجازفة، لأن المَدام ستسقطك من عينيها مباشرة بين أظافرها. لم تفتني فرصة تعويض نقص الغذاء عند بائعة الشطائر السميكة حينها، وعندما جلس شكيب رويت له القصة ليموت، أحسست بالرجل يتقلَّب على الكرسي، كنت أريد أن أنتقم منه ومن حُرقة الهامبرغر التي خلَّفها الثمن الباهظ في جوفي وأنا راجع بكيس كرطوني ضخم تاركا الماكدو خلفي عند الواجهة الزجاجية لمدينة الجديدة من جهة الشمال، مستقبلا صاحبة السندويتش الشعبي الكبير في قُنَّة الدرب. طلبت منها واحدا سيفتح حديثي عن لذته شهيةَ شكيب وسيأكل شفتيه وهو يتخيل شراهتي مع الخبز المحشو بالحوت والفلفل والباذنجان الساخن والبسطية والبطاطا المقلية والصلصة والبصل المفروم وبخمسة دراهم فقط، تحركت شهوته ولم يعد يركز على التفاصيل الأخرى في قصتي، لا على الثمن الذي قدمته لمطعم الماكدو، ولا إلى الكارت الجائزة التي منحت لنا بعد سباق مازغان كتأشيرة دخول للمطعم، فقط كان يضحك وهو يلتقم ماتبقى في كاغطه من حبات الفول السوداني وبذور الذرة مركِّزا عيونه في جثته على عشاء الليلة فقط، عشاءات الأدب القديمة كبقايا فطائر الأمس لم تعد تغريه، سيقضم من عشاء الليلة في البداية قضمات خفيفة وبطيئة، بعدها سيفتح عينيه قليلا على قدر معرفته بالأماكن المأهولة والمُشبَّعة في الطبق أمامه، سيحددها بدقة نظام تحديد المواقع GPS ثم يغمض عينيه ثانية، بمعنى أنه سيقطع الاتصال بالعالم الخارجي نهائيا ليسقط أخيرا مغمضا في الوجبة سقوط الأعمى في الظلمة. أجزم أنه سينتقم، سيأكل ويأكل حتى يتجشَّأ من اللّور (الوراء) ومن القُدَّام.