قبل البدء في أولى مشاهده، يقول صُناع الفيلم، الذي أخرجه بيتر فاريلي، إن الفيلم مقتبس عن قصة واقعية. وبالفعل، فأحد بطلي الفيلم هو الدكتور دون شيرلي، الذي جسّد شخصيته الممثل ماهرشالا علي. ودون شيرلي هو موسيقار أمريكي من أصول أفريقية. كان نابغة في الموسيقى الكلاسيكية، وعزف موسيقى الجاز أيضًا. وكان طبيبًا نفسيًا، عاد للموسيقى من خلال أداء تجربة نفسية على جمهوره دون أن يعلموا بها. ولشيرلي أيضًا نصيب من النضال ضد نظام الفصل العنصري في الولاياتالمتحدة، تجسّد دوره هذا أكثر في الستينات، وهو حكاية الفيلم. وكان من أوائل السود المرحب بهم على مضض للعزف في الأوركسترا الأمريكية الوطنية. كما عزف في البيت الأبيض، قبل أن يسبقه أي أسود لذلك. والبطل الثاني وهو توني ليب فاليلونغا، الذي سيصبح بعد ذلك ممثلًا ومؤلفًا، حيث شارك في سلسلة The Godfather، وغيرها من الأفلام. وتخصص في لعب أدوار تتعلق بعصابات المافيا في الولاياتالمتحدة. وفي مطلع الستينات، وكان ليب حينها يبحث عن عمل لشهرين للاسترزاق، حتى يتم الانتهاء من التجديدات في الملهى الليلي الذي كان يعمل به؛ تقابل مع دكتور شيرلي، كسائق ومرافق وحارس شخصي له خلال جولته الموسيقية في ولايات الجنوب الأمريكية، في أوج العنصرية ضد السود. تصادق شيرلي وليب بعد هذه الرحلة العصيبة والمسلية، والكاشفة. وماتا سويًا في نفس العام 2013. وفي حين كان أحدهما ذا بشرة سوداء، وهو شيرلي، إلا أنه كان أبيض أكثر من ليب صاحب البشرة البيضاء، وذي الأصول الإيطالية. يبدأ فيلم «الكتاب الأخضر» أوGreen Book، بمشهد من الملهى الليلي الذي يعمل فيه ليب الذي جسّد دوره الممثل فيغو مورتينسين. وهو المشهد الذي تبرز فيه أولى ملامح شخصية ليب. ولعب مورتينسين في شخصية توني ليب دورًا يختلف عمّا اشتهر به، بل وما رُشّح للأوسكار من خلاله، والذي يتصادف أنه الترشيح في مواجهة ماهرشالا علي الذي حازها في 2017 عن فيلمه «Moonlight»، في حين كان مورتينسين مرشحًا عن دوره في فيلمCaptain Fantastic. لكن مورتينسين استطاع أن يكون ليب جدًا، أي الشخص المراوغ، ابن الحارة وربيب الكازينوهات والنوادي الليلية. ومع ذلك، كان رب أسرة جيّدًا. راوغ ليب في المشهد الأول، مراوغة غير مؤذية، لكنها تسببت في حرق الملهى الذي كان يعمل به، أو هكذا شاءت الأقدار، ليكون سبيله للقاء المفصلي بالدكتور شيرلي. راوغ توني، ويراوغ، مراوغات ذكية ولئيمة للحصول على القدر اليسير من المال، دون أذية، لكن أيضًا دون توخٍ كامل للحذر من العواقب. يعيش ليب حياة الرجل الأسود في تلك الحقبة، بانتمائه الطبقي. وقالها مرّة لدكتور شيرلي: «أنا أسود أكثر منك»، غير أنه، وكابن صالحٍ لبيئته وظروف مجتمعه، كان يشمئز من السود. هنا صوّر الفيلم، كيف أن عمالًا سودًا كانوا يجرون بعض التصليحات في منزله، لمّا قدمت لهم زوجته المتعاطفة مع الجميع، كأسين من العصير. وعندما غادرا، ألقى ليب بالكأسين في القمامة، من اشمئزازه. لكن زوجته أعادتهما. جمعت شخصية توني ليب تناقضات المحافظة والثورة؛ ثورة النفس والطبقة. عمل ليب سائقًا لشاحنة قمامة، ثم عمل كل شيء في الملهى الليلي الذي كان يعمل به: ما بين أنه سائق لصاحب الملهى، وما بين أنه حارس شخصي له، وعامٌ للمكان؛ يفض النزاعات، ويضرب المتطفلين أو غير المرغوب فيهم. لا يُخلف اتفاقًا. يراوغ بدهاء وهكذا يأكل عيشه. محب ومخلص لزوجته وأبنائه، وسيفعل من أجلهم أي شيء، وإن اشتغل لدى رجلٍ أسود. ينتقل الفيلم إلى مشهد اللقاء بين ليب وشيرلي الذي يسكن شقة فارهة أعلى قاعة مسرح بنيويورك. كان شيرلي بحاجة إلى مرافق له كسائق وحارس شخصي في جولته الموسيقية بولايات الجنوب الأمريكية؛ معقل أكثر العنصريين تعصبًا في عنصريتهم، وقد رُشّح له ليب من قبل عدة أشخاص. لكن الأخير تفاجأ بالرجل الأسود الذي يجلس على كرسي كالعرش، ويُجلس ضيوفه أمامه صاغرين. رفض ليب عرض شيرلي، وأملى عليه بدوره عرضه: أن يعمل سائقًا وحارسًا شخصيًا، مقابل 125 دولارًا في الأسبوع، ولمدة شهرين. رفض شيرلي في البداية، ثم وافق. وكان ليب في أمس الحاجة للمال، لأنه لا يستطيع تناول 26 شطيرة سجق يوميًا. وهي منافسة اعتاد أن يخوضها، بثقة شخصٍ شره، مقابل عشرات الدولارات يقضي بها حاجات أسرته. بدأت الرحلة: يركب الرجل المتأنق -وهو هنا الأسود- في الخلف، كمالكٍ أرستقراطي. ويقود به الرجل المهرجل -وهو هنا الأبيض- كفاعل باليومية، أو الأجرة الأسبوعية، متبسط وضحوك، وصاحب نكتة، وله رأي في الحياة، ولا يحُب السود، قبل أن تتغير تلك الأخيرة من الرحلة مع شيرلي. أنا أسود أكثر منك لا تتوافق شخصية ليب وشيرلي. وعلى العكس من المتوقع، فإن عدم التوافق نابع من اختلافٍ في أداء الأدوار: كان شيرلي، ربيب البيت المتدين، عالم النفس، والموسيقار الأشهر، الذي تعلم العزف على أنغام أعرق السيمفونيات الكلاسيكية، وصديق الرئيس الأمريكي جون كينيدي؛ رجلًا أرستقراطيًا، أبيض في سلوكه، أو هكذا كان يدعي. في حين كان ليب رجل شارع، يأكل بعرق الجبين، ويصارع من أجل لقمة العيش. كانت نظرة كل منهما للحياة مختلفة، وعلى النقيض في تبادلٍ للأدوار التقليدية. وهنا كان مكمن الصراع في الفيلم. لكن جليد عدم التوافق، أذابته بالتدريج، الرفقة وتجربة الرحلة أو الجولة الموسيقية التي لم تكن سهلةً أبدًا. كان لدى شيرلي أملٌ في أن يحدث فارقًا بموسيقاه لدى ذوي البشرة البيضاء. لكن على ما يبدو، أنه أراد أن يحدث الفارق في نفسه ولنفسه عند ذوي البشرة البيضاء. كان شيرلي يبحث عن الاعتراف به، بعد أن استغرق فيما يبدو في احتقار ذاته السوداء، وأنكر على زملائه من فطاحلة موسيقيي الجاز، سلوكهم في الأداء الموسيقي. لذلك فهو يلعب السيمفونيات الكلاسيكية. ويفخر بتميزه، ويشدد على الأناقة والإتيكيت. أما ليب فكان يرى أنه ليس هكذا تورد الإبل. كان ليب أكثر اتساقًا مع كينونته، ومع فروض الضروريات المعيشية. بأخلاق أبناء الشارع الكادحين، من غير استعلاءٍ أبيض -وهو أبيض- ينافي واقع معيشته، وبدون انسحاقٍ يتعارض مع كونه رجلًا يأكل من عمل يده. يطوفان -ومعهما شخصان آخران هما تتمة الفرقة الموسيقية الخاصة بشيرلي- ولايات الجنوب. يرَحب بهم على المسارح وفي الحفلات الخاصة، لكن النظام نظام! فيمنع شيرلي من استخدام حمامات البيض، ويمنع من تجربة ملابسهم في متاجر الملابس، وأخيرًا سيمنع من تناول الطعام معهم في مطعمٍ استدعاه لأداء عرضٍ موسيقي. وهنا، في هذا الجزء من الفيلم يتجسد الانقلاب. لكن قبل هذا، مع الطواف والترحال، تكاشف ليب وشارلي، بدفعٍ حقيقي من ليب الأريب. كان ليب، وكأي شخصٍ سيسعد برفقةٍ طيبة في الغربة، ورحلة هادئة؛ يسعى لإرضاء رب عمله على قدر ما يفهم ويُفضّل، فكانت موسيقى الرحلة التي يُشغلها ليب، هي موسيقى الجاز، لكن المفارقة أن شيرلي، وإن كان يعرف اسمًا موسيقيي الجاز، والذين هم من أبناء جلدته، إلا أنه كان يجهل أعمالهم، بما فيها أعظمها. في حين كان ليب يحفظها عن ظهر قلب، وكان يتعجب بأداءٍ مسرحي من جهل شيرلي لأبناء جلدته. أوضح شيرلي أنه لا يحب أن يكون مثل هؤلاء الموسيقيين السود، الذين تموضعوا واتخذوا أدوارهم داخل النظام العام العنصري. وأدوا أدوار الضحايا بمشهدية كؤوس الويسكي على تخت البيانو، والسيجارة بين أصابعهم، وأجسادهم تتمايل كما الذين صُلبت أجسادهم، وقد صُلبت أرواحهم. يرفض شيرلي أن يكون إلا كمثل الذين يُصفقون له بعد انتهاء عروضه الموسيقية «البيضاء». لكن ما كان يضمره شيرلي في أعمق نقطة في نفسه، ويطمر عليه، هو أنه على العكس تمامًا، لم يكن إلّا ابنًا بارًا للنظام الذي استدعى خطابه في نفسه، وابتلعه تمامًا، حتى انمحت هويته وانسحقت تحت وطأة التطلع لكينونة الرجل الأبيض، أو بالأحرى ألقه السلطوي. انفعل ليب بظُرفٍ، وقال لشيرلي، وهما تائهان على طريقٍ جانبية موحشة تحت زخات المطر: «يا رجل، أنا أسود أكثر منك»! المكاشفة.. الآخر مرآة الأنا لا بأس إذا وجدت حجرًا ملونًا على الأرض أن تلتقطه وتحفتظ به لنفسك. لا بأس حتى لو كان الحجر ساقطًا من كومة أحجار مماثلة تُباع لجلب الحظ، وأنت تعلم ذلك. لا بأس، ففي النهاية التقطتَ الحجر من على أرض مليئة بالحجارة. ولا بأس خاصةً لو كنتَ توني ليب الباحث عن بعض الحظ في رحلته مجهولة المصير لكسب الرزق من أجل زوجته وعياله؛ مع سيده الأسود! لكن لدى شيرلي المتأنق رأيٌ آخر، ينسحب على سلوكه العام، كرجل يبحث عن القبول بين من يرفضونه، فيتطبع بطباعهم، ويتخلق بأخلاقهم. يعلم أنه غير مقبول تمامًا، لكن يحدوه الأمل بأن يحدث فارقًا في النظام، بأدوات أصحاب النظام والقائمين على ديمومته. لذا فإنه سيطلب بشدة من ليب أن يُرجع الحجر لمكانه، وبالفعل سيعود ليب مضطرًا، ضجرًا، لإعادة الحجر لمكانه، لكنه لن يُرجعه في الحقيقة. وفي إحدى الحفلات، وبعد أن أدى شيرلي عرضًا أولًا، اتجه لدخول دورة المياه في الاستراحة، لكن مقيم العرض، الذي استضاف شيرلي وأطعمه الدجاج المقلي كوجبةٍ «على شرف ضيف من كبار الزوار»؛ سيرفض إلا أن يدخل دورةَ مياه مهملة في حديقة البيت، أو على شيرلي أن يعود لفندقه لاستعمال دورة المياه هناك. تأنف نفس شيرلي، ويرفض في نفس الوقت أن يخوض معركة كرامة، فيقرر العودة للفندق لاستخدام تواليت غرفته. وفي الطريق لهناك، يقول له ليب إنه كان بإمكانه أن يفعلها في أي مكان في الخلاء. بالطبع بعد أن أبدى استياءً من قبول شيرلي لهذه الهزيمة النفسية. وكأن ليب أشار إلى تناقضات تعاطي شيرلي مع النظام، وكأنه أراد أن يقول له: إذا أردت أن تنصاع للنظام، فأكمل ذلك للنهاية، ولا داعي لأن تناقض نفسك. في نفس الوقت، فإن ليب وهو يقول لشيرلي أنه كان بإمكانه أن يفعلها في أي مكان، إنما أراد أن يتماشى مع طريقة رب عمله الذي انبهر بأدائه الموسيقي لدرجة أنه قال لزوجته في إحدى الرسائل التي حرص على كتابتها لها أثناء رحلته؛ إنه «عبقري. يلعب على البيانو بعبقرية، وكأنه ليس برجل أسود». وقبل أن يقترح ليب على شيرلي أن يفعلها في أي مكان، قال له إنه لو تعرض لنفس الموقف، لفعلها في صالون المنزل! لا يُحب ليب السود، لأنه نشأ في حي، ومدينة، وبلدٍ لا تحب السود. لكنه لا يفهم كيف يقبل أي شخصٍ، وإن كان أسود، أن يعامل بإهانة. لكن شيرلي كان يعتقد أنه ليفرض نفسه على الذين يرفضونه، عليه أن يفعل ذلك دون إزعاج، وبطريقةٍ فيها احترامٌ للنظام. تعرض شيرلي في الرحلة للمضايقات العنصرية، لكن أوجها تمثل في مرتين: الأولى حين تعرض للضرب في إحدى البارات المحلية بإحدى ولايات الجنوب، لأنه رجل أسود، قبل أن ينقذه ليب بالحيلة. والثانية عندما قبض عليه عاريًا مع رجل كان يمارس معه الجنس، وأنقذه ليب بالحيلة أيضًا. كانت لدى دون شيرلي ميولٌ جنسية مثلية. لكن لا يعلم على وجه الدقة إذا ما كان مثليًا فقط، أم ثنائي الميول الجنسية. في هذه المرة التي اعتقل فيها شيرلي عاريًا، أخرجه ليب برشوة ضابطي البوليس اللذين اعتقلاه. وقد أبدى شيرلي امتعاضه من ذلك، وقال مغاضبًا: «لقد أهاناني، وأنت تكافئهما؟!»، ليرد عليه ليب: «هذا بدلًا من أن تشكرني لأنني أنقذتك»، فيصرخ فيه شيرلي: «أنقذتني لأنك ترغب في إكمال الجولة للحصول على مالك». تمثّل شيرلي هنا دور الضحية، وقد سيطر عليه حس المظلومية الذي يرمي به زملاءه موسيقيي الجاز السكارى، غير أنه على عكس موسيقيي الجاز الذين يدقون أوتار البيانو في بارات الهامش الصغيرة، متمثلين أدوارهم الحقيقية في رفض خطاب النظام بتراقصهم مع أنغام ما يلعبونه بمرح وشجون، وقبل ذلك بتنغيم الموسيقى التي تنتمي إليهم وينتمون إليها.. على العكس من ذلك، كان شيرلي قد تمثل دور الضحية بقناع حارس قيم النظام الذي يلفظه مرة، ثم يُعيد استخدامه مرة أخرى؛ للتسلية والترفيه، وللطمأنينة الثقافوية الكاذبة بأنهم، أي البيض العنصريين، قادرون على التسامح مع فكرة أنه رجلٌ أسود، لكنه يلعب موسيقاهم بمهارة، لأنهم مثقفون مترفعون في ذوقهم! إنها إعادة إنتاج لمقولة ليب لزوجته في الرسالة: «يلعب على البيانو بعبقرية وكأنه ليس برجل أسود»، مع فارق أنهم يرونه رجلًا أسود يلعب البيانو بعبقرية. بدأ حرث ليب يأتي بأكله، وهو حرث السجيّة وخبرة الرجل بالشارع والناس، وليس حرثًا بعلوم الكتب والمدارس وأناقة صالونات العروض الفنية ولا قاعات الموسيقى الكلاسيكية. وما كان حرثه إلا دفعًا متبادلًا للمكاشفة بينه وبين الآخر المعكوس المتمثل في شيرلي. وكان شيرلي يكتب لليب رسائله لزوجته، بعبارات منمقة فائقة الرومانسية، أو كما قال عنها ليب: «هنا توجد الكثير من الرومانسية». وبدورها، كانت زوجته تفخر بهذه الرسائل أمام عائلته، حتى لقبوه بشكسبير. قبل أن يتقن ليب لعبة الرسائل المنمقة، ويعرف طريقها. أضاف شيرلي إذًا لليب أداة معرفة أبناء الذوات وما يتحصلون عليه في الصالونات، وهي طريقة التعبير، ووسيلة البوح الأنسب عما يختلج في الصدور. لكن يبقى ما يختلج في الصدر مختلجًا أصلًا لدى ليب. كل العواطف والمحبة الصادقة قائمة في قلبه لزوجته التي فارقها أسابيع لحاجة لا في نفس يعقوب، وإنما لعين عياله قضاها. وأضاف له أمرًا آخر، وهو مسامحة الحمقى، وتقبّل الآخر، فأمّا الثانية فقد بدا أنها مستقرة لدى ليب، وإن طمستها ظروف بيئته والمجتمع، ولا ننس أنه قال لشيرلي بعد حادثة القبض عليه عاريًا بيوم: «أنا أعمل في الكباريهات والنوادي الليلية، وأرى مثل ذلك وأكثر»، يقصد مثليته التي كان يرفضها كما يرفض بشرته السوداء، لأنه نشأ على ما وجد عليه آباءه والمجتمع، وشغله الاسترزاق وأكل العيش عن أن يتفكر في حق الجميع في الوجود والممارسة. لكن لمّا جرّب، قبله بسهولة. في المقابل أضاف ليب لشيرلي سبر أغوار نفسه بالبوح والمكاشفة، من خلال أسلوبه التهكمي اللاذع والناقد والشوارعي أحيانًا كثيرة. وتجلى ذلك في مشهد الذروة، وهو نفسه المشهد الذي قال فيه ليب لشيرلي: «أنا أسود أكثر منك». فبعد ضغوط ليب، انفجر شيرلي في نفسه قبل أن ينفجر في ليب. تعرّى شيرلي أمام نفسه، وأخرج ما يُخبِئه في أعماقها: شتاته واحتقاره لذاته وضياع هويته، في مقابل أنه ليس إلا أداة ترفيه للرجل الأبيض الذي يسعى لأن يحظى بقبوله ولو بالانسحاق لشروطه. انفجر الغضب المتراكم في شيرلي، وكانت سجية ليب الشعلة، أو بالأحرى أن ليب لم يكن إلا معكوس الأنا المشوهة لشيرلي، أو حقيقة ذاته وكينونته التي يرفضها بالتقنّع، فما في جبّة شيرلي إلا ليب متقنّع بأقنية البيض وأخلاق نظامهم، فهو هو، لكنه لم يقبل ذاته، حتى انكشفت له في صورة ليب، الأبيض! أنا هو أنا في العرض الموسيقي التالي سيرفض المطعم الذي يستضيف العرض، أن يتناول شيرلي الطعام على المائدة مع رفقته، بين البيض: «إما أن تأكل في حجرة تغيير الملابس»، ولم تكن سوى خزنة ضيقة، «أو تذهب للمطعم الشهير للسود في آخر الشارع». تتمثل ذروة الانقلاب هنا، أو أثر المكاشفة التي دُفع لها شيرلي من قبل ليب، ليستعيد ذاته المسلوبة تحت وطأة التطلع للقبول؛ فيرفض شيرلي، ويحكم مصير العرض الموسيقي بتناول الطعام على الطاولة بين الناس، البيض، لكن القائمين على المطعم يصرون في رفضهم، مع تمسكهم بإقامة العرض الذي «جاء كل هؤلاء من أجله». في العادة كان شيرلي سيقبل، من أجل أن يحظى بتصفيق البيض على موسيقاه الماهرة. لكنه هذه المرة لن يقبل، وسيُلغي العرض، ويخرج من المطعم متوجهًا رفقة ليب إلى مطعم السود الشهير في آخر الشارع، وهناك سيعزف مع فرقة الجاز على البيانو، في البار الصغير، وعلى تخت البيانو كأس ويسكي، سينزلها شيرلي على الأرض، ويضحك ليب، ويندمج شيرلي في العزف متراقصًا على أنغام ما يلعبه في مرحٍ، وتحقق. أمّا الكتاب الأخضر، فكان دليل الإرشادات الذي أعطته الشركة التي وظفت ليب لدى شيرلي. وفي كل ورطة، كان ليب يُخرجه ليطلع على ما يتقرحه الكتاب. وفي كل مرة كان ليب يُخالف الإرشادات، ويعمل بتجربته وعلى سجيته.