من ترتيب وتنظيف مقر حزب الاستقلال بفاس الى موت الزعيم علال الفاسي بمكتب تشاوسيسكو برومانيا »رحم لله سي علال، ولله يْجعلْ البرَكة فْسّي بوستّة«.. بهذه العبارات تحدث الملك الراحل الحسن الثاني لوفد من حزب الاستقلال جاء لتقديم التعازي في وفاة الزعيم الاستقلالي الراحل علال الفاسي.. ولعل خطابا من هذا النوع يؤكد بالفعل العلاقة الوطيدة بين علال الفاسي وامحمد بوستة، وهي علاقة فاقت مجرد الانتماء لإطار سياسي او مشاركة في فعل نضالي إلى بعد هو اعمق وأكثر تأصلا، وحول هذه العلاقة يقول امحمد بوستة في حوارات سابقة للصحافة: "علال الفاسي رافقته وتتلمذت على يديه، كان شخصا خارقا للعادة، يمتلك بُعد نظر قوي، ويفكر بشكل بعيد في الأمور الظرفية نفسها، كان يملك القدرة على التأمل وحدس المستقبل، وله فراسة لا تخطئ في النظر إلى عمق الأشياء، كان يرى بنور لله.." وأضاف السي امحمد بوستة : "وقعت لي مع السي علال الكثير من الإشراقات تُبين أنه لم يكن إنساناً عاديا.. فحتى عندما كان التشنج قويا مع الاخوان الاتحاديين كان هو وحدويا، فقد قال لي ومجموعة من الاخوان: " لا بد من مخاطبة إخواننا لكي ندخل الانتخابات بمرشح مشترك سنة 1963" وهو الامر الذي تم بالفعل ما يؤكد أن له القدر على أن يذيب الخلافات." ويضيف الأمين العام السابق لحزب الاستقلال امحمد بوستة، في تصريحات استقيناها من مختلف حواراته مع بعض الصحف الوطنية وغيرها وهو يتحدث عن الإعجاب بالتجربة الناصرية وبشخصية جمال عبد الناصر، لكن السي علال له بعد اخر حيث يقول امحمد بوستة: " سيدي علال كان يقول: "هاذ الشي مزيان، لكن يجب أن تكونوا حذرين، هاذي راها ماشي ثورة لصالح الشعب، هذا إجهاض للثورة، بسبب غياب الأحزاب والمؤسسات الديمقراطية الحرة وإعلام خارج سلطة الدولة، ووجود اختلاف في الرأي وحرية المعارضة.." والتاريخ أبرز صحة وجهة نظره الثاقبة، أكثر من هذا، كان السي علال دائما يجد لنفسه مخرجا ذكيا من الورطات التي يجد فيها نفسه، معنا في القيادة أو مع الملك الحسن الثاني..." ومما يبرز العلاقة الوطيدة بين الزعيم الوطني الراحل علال الفاسي وامحمد بوستة هو حرص الأول على أن يكون بوستة مرافقا له في الكثير من رحلاته ليست السياسية فحسب ولكن تتعداها إلى كل اهتمامات علال في جانبها الفكري والثقافي واللغوي، وفي هذا يقول السي امحمدبوستة: "خلال سفره الأخير الذي رافقته فيه، ذهبنا إلى شيراز حيث قدّم عرضاً حول ما كان يسميه "المدرسة النحوية للغرب الإسلامي: الأندلس والمغرب"، ولاَحِظْ أنت فقط هذا الاختلاف في اهتمامات السي علال، اللغة نحواً وبلاغة، الفقه وأصوله.. الفلسفة والفكر القانوني والدستوري، الشعر والأدب، التنظير العميق للمقولات المذهبية، إنجاز التقارير السياسية والمحاضرات والندوات التي يطوف بها العالم وداخل المغرب أيضا، الممارسة السياسية التي يحضر في كل تفاصيلها... أي طاقة خارقة كانت لهذا الرجل؟!" وبقدر ما رافق امحمد بوستة علال الفاسي بقدر ما أُعجِب به بشكل كبير، إعجاب الإبن لأبيه، والتلميذ لشيخه، وهو ما يتبين وهو يتحدث في تصريحاته وحواراته المختلفة فيضيف متحدثا عن قدرات وإشراقات علال الفاسي: "كانت الذكرى ال "1200" لوفاة سيبويه بشيراز، وحضر سيدي علال بمداخلته.. كنت أنا والسي عبد العزيز بن عبد لله، جاء إيراني إلى المنصة وقدم سؤالا إلى سيدي علال المحاضر، باللغة الفارسية، ولم يذكر سوى آيتين وحديث نَبوي شريف باللغة العربية: "أنا أبلغ العرب، بيد أني من قريش.."، فقط هذا ما نطقه بالعربية، فأخذ سيدي علال الكلمة ليجيب المتدخل.. ويجب أن تعرف من كان حاضراً في هذه الندوة: علماء ومفكرين كبار أمثال عبد الرحمان بدوي الذي كان إلى جانبي، وسألني: "هل الأستاذ يعرف الفارسية؟" فلما قلت له: "لا".. لم يصدق، لكنه أردف بإيماءة إعجاب وتقدير، وهو يقول: "كيف يجيب بكل هذه البلاغة وهذا الوضوح على سؤال لم يفهم لغته؟" إنها إحدى إشراقاته رحمه لله. " .. لمعرفة العلاقة التي تربط بين الرجلين اتصلنا هاتفيا بنجل السي امحمد بوستة أحمد خليل بوستة المهندس المعماري والبرلماني السابق وعضو المجلس الجماعي لمراكش، الذي تحدث لنا عن الكثير من العلاقات التي تجاوزت الصداقة لتصل إلى بُعدٍ أُسري عميقٍ وحميمي، تقاسمت فيه الأُسرتان الأفراح والأحزان والمسرات، الأعراس والمآتم، يقول أحمد خليل بوستة: " كانت أول علاقة لوالدي بسيدي علال في فاس، عندها كان جدي أحمد الذي سميت باسمه مفتشا للتعليم بهذه المدينة قادما من مراكش التي انتقل اليها مفتش فاس، في نوع من التبادل، وتابع والدي امحمد بوستة دراسته في كوليج مولاي إدريس، وبهذه المدينة يتواجد أخوال، فوالدة والدي من فاس ابنة بنسيليمان ، وخاله السي المهدي بنسليمان كان من الأعضاء النشيطين في حزب الاستقلال آنذاك، وكان هو القيِّم على مقر الحزب بالمدينة العلمية، ويشرف على تداريب وتكوينات الناشئة على المسرح والأناشيد وغيرها، عندها كان يرافق معه والدي السي امحمد بوستة فيقومان معا بترتيب وتنظيف المقر.. وهناك سيجده سيدي علال الفاسي وهو يقوم بالترتيبات الاساسية لتنظيم وتنظيف المقر ومنذها بقيت علاقتهما مستمرة الى غاية 1974 علاقة دامت حوالي أربعين سنة.. تم ينتقل بنا أحمد خليل بوستة إلى فترة أُخرى لها ارتباط بعلاقة المودة والصداقة والوفاء بين السي امحمد بوستة والزعيم علال الفاسي، يقول خليل: "أثناء فترة الإنفصال تقرب والدي امحمد بوستة أكثر من سيدي علال الفاسي رغم علاقته الوطيدة مع المهدي بن بركة وبالأخص مع السي عبد الرحيم بوعبيد، وكان بالامكان أن يكون امحمد بوستة اتحاديا غير أنه بقي مع جناح سيدي علال.. بعد ذلك وفي الحكومة الاولى بعد الاستقلال كان الإثنان في نفس الحكومة، وهو ما زاد من تقرب بعضهما البعض " وفيما يتعلق بالجانب العائلي يقول المهندس أحمد خليل بوستة: "كان امحمد بوستة يعتبر علال الفاسي كوالده، فحين يمرض سيدي علال يكون بجانبه والدي، وحين يريد السفر داخل المغرب فالسي امحمد بوستة هو من يرتب له كل جوانب السفر أو يرافقه، وحين يريد أن يشتري عقارا أو يبيعه فإن والدي هو من يشرف على ذلك، بمعنى أن العلاقة توطدت وتجاوزت السياسي لترقى إلى العائلي بعمق حميمي.." ويضيف نجل امحمد بوستة: " ما أتذكره وانا ما أزال شابا يايفعا أننا كنا نمشي إلى بيته بحي أكدال بالرباط في المكان المقابل لبيت عبد الواحد الراضي، بزنقة " كادي سمير" وسيدي علال كان يرفض دائما هذه التسمية فينعث عنوانه بزنقة فلسطين تيمنا وتعريفا بالقضية الفلسطينية، في هذا البيت فتحت عيني على الكثير من الاشياء التي غدت فكري وعقلي، وكنت معجبا بالرجل وبتلك الهيبة التي حباه الله إياها.. كان بيت سيدي علال محجا لكل الفيئات من الطلبة والشباب والرجال والكهول والصحراويون والموريطانيون، وعندها لم نعترف بعد بموريطانيا كدولة مستقلة مابين بداية الستينيات ومنتصفها.. وكان والدي هو من يستقبل كل هؤلاء في بيت سيدي علال باعتباره مرافقا وصديقا.." بعد هذه المرحلة سيقفز معنا أحمد خليل بوستة الى الفترة التي سياعني فيها علال الفاسي من أزمة قلبية حيث يقول: " في سنة 1972 أصيب سيدي علال الفاسي بأزمة قلبية، وأثناء فترة النقاهة ذهب الى مدينة لوزان بسويسرا فانتقلنا لديه هناك ونحن في طريقنا لحضور الألعاب الألمبية التي دارت بميونيخ، وقال لنا الوالد سيدي امحمد بوستة أطال الله عمره، بأنه لابد من أن نقف ونزور سيدي علال.. تم التحق بنا سفير المغرب آنذاك فذهبنا إلى الفندق/العيادة التي كان يقضي فيها فترة نقاهته، تم رافقنا السفير إلى حفل غداء أقامه على شرف سيدي علال والوالد في بيرن، وهي المدينة المعروفة بصناعة الساعات السويسرية الشهيرة.. عندها قال والدي ستبقى إلى جانب السأئق فلا مجال أن تذهب إلى زحمة المحلات التجارية وغيرها.. فقال له سيدي علال ، بل سيذهب معنا لشراء ساعته أيضا.. ولم يجد الوالد سوى الانصياع لأخيه الاكبر، فألغى قراره بأن أبقى مع السائق فرافقتهم واشترى لي سيدي علال ساعة.. هذه أشياء لا يمكن أن تنسى او تنمحي أبدا ولها عمق يؤكد على حميمية العلاقة بين الأسرتين وستبقى راسخة إلى الأبد.. وسيختم أحمد خليل بوستة حديثه عن علاقة امحمد بوستة بعلال الفاسي في مرحلة سبقت موت الزعيم علال بفترة حد قصيرة حيث يقول: " وتأتي مرحلة مرتبطة برحلة عبر العديد من الدول وللأسف ستنتهي بموت الزعيم علال الفاسي، حيث رافقه الوالد الى مدينة شيراز بإيران في شهر ماي من سنة 1974 حيث القى محاضرة علمية بمناسبة الذكر ال 1200 لوفاة النحوي الكبير السيبويه، ومن تم إلى الكويت وهناك أعلن عن نداء الكويت حول فلسطين وحول الصحراء، وبالعاصمة الكويتية وفي بعد يؤكد أواصر العلاقة والصداقة بين سيدي علال وعائلة بوستة أصر الزعيم على الذهاب الى بيت عمتي وتناول العشاء في بيتها بعيدا عن العشاءات الرسمية ، أخت الوالد للا زهرة بوستة كان زوجها موظفا بالسفارة المغربية بالكويت. بعد ذلك سافروا إلى بوخاريست عاصمة رومانيا، والتحق بهم القادري الذي كان برلمانيا عن الرباط ووزيرا للشبيبة والرياضة، وفي مكتب الزعيم الروماني الشهير تشاوسيسكو كان يتحدث سيدي علال حول القضية الفلسطينية وضرورة فتح مكتب لمنظمة التحرير الفلسطينية، وفي لحظة أحس بنوع من الاختناق وطالب بفتح النوافذ ودعا والدي امحمد بوستة بأن يكمل الكلام قائلا له: إنك تعرف الملفات وتعرف ما أريد قوله، عندها لم يتم الاعتراف بعد بمنظمة التحرير الفلسطينية في أروبا كحركة للتحرر، وفي ذلك اليوم أعطى تشاوسيسكو موافقته لفتح مقر للمنظمة ببوخاريست.. وهي ذات اللحظة التي لم يمهل فيه الأجل سيدي علال الفاسي ليفارق الحياة في مكتب الزعيم الروماني.. بعدها اتصل بنا سفير المغرب انذاك ليخبرنا بالموت، فقرر الملك الراحل الحسن الثاني أن يرسل طائرة خاصة لنقل جثمان الزعيم علال الفاسي، لكن والدي قال له بأن هناك طائرة من رومانيا خُصصت لذلك، وأمام الإرتباك الذي حصل في شأن الطائرة اعتقدنا ان الطائرة سقطت وعلى متنها الجميع، فأقمنا مأتما للعزاء، وبعدها علمنا أن الامر يتعلق بوفاة سيدي علال الفاسي فأقمنا له العزاء، ومنذها بقيت العلاقة متواصلة ففي كل المناسبات من أعياد وأفراح نقوم اولا بزيارة أرملة سيدي علال وأسرتها قبل أي فرد آخر من أسرتنا لأننا نعتبرهم جزءا منا..