قبالة هذا المبنى، وتحت السماء الغائمة، اتخذ مرسمه، أفرد أرجل الحامل ونشبها في تربة الحديقة، رجها رجا خفيفا..علق اللوحة ثم تحسسها بباطن يده.. كان منظر قميصه البنفسجي الواسع، وسرواله البرتقالي القصير، الممزق والمبقع بالأصباغ، ونظاراته السميكة والمائلة، وحده مشهدا مدهشا.. فدار بخلدي أنها فرجة كوميدية.. أخرج عدة الرسم، الفرش والصباغات، وضعها على المنضدة على مقربة من محمل اللوحة، فبدت الفرشاة كأوركسترا في جوقة الأصباغ، وبدأ عزف سمفونية الألوان.. فخطر ببالي أنها دار أوبريت.. لم يتطلب منه الرسم ولو هنيهة واحدة للتخيل، فبدا وكأنه يراقص الفرشاة، ويداعب الألوان، ويتغزل باللوحة، في انسياب تام مع ما بخاطره.. فغبطته.. تارة تنثني يده انثناءة باليه، وتارة كان يتسمر قبالة اللوحة كمنحوتة منتشية.. وتارة ثالثة، يحملق في اللوحة من زوايا مختلفة كأنه مخرج مسرحي.. وتارة أخرى، يخرج المنديل، ليمسح ما التصق بنظاراته من غبار أو أصباغ طائشة، فيبدو كمحاضر في تاريخ الفن على مدرج المقهى.. وبدت مع حركاته تتضح ملامح المشهد.. بناية على شكل مستطيل عمودي، نخله وأعمدته باسقة، ، ينزل من السماء إلى الأرض، أو ربما يصعد من الأرض إلى السماء.. الأرض زرقاء، والسماء صفراء، والبناية خضراء، كأنها بناية في الجنة.. تساءلت في قرارة نفسي، وقد كنت قاعدا -قبل مقدمه- في المقهى المحاذي لمرسمه العاري، في تماس بصري مباشر مع مشاهده، كنت قد جلست هناك -في عماء- بحثا عن موضوع للكتابة، ولاتزال الورقة عذراء بين أناملي، تتحرش بالأشياء وتحتك بها.. "ماذا لو كانت هذه البناية بالجنة من كان ليسكنها..؟ وكيف سيكون آثاثها وفراشها، هل ستكون حماماتها ومراحيضها من ذهب؟ وكم كان سيبلغ ثمن لوحاتها وديكورها؟ من كان سيكون البائع ومن سيكون المشتري؟ ومن سيدفع تكلفة الماء والكهرباء؟ وكم ستكون التسعيرة هناك؟ وكم سيكلف كراء غرفها ولصالح من؟" في غمرة شرودي وسهوي، نقر على اللوحة نقرا خفيفا، وكأنه تعمد انتشالي من لحظة الغوص في عالمه المخملي، أو تبدى لي ذلك.. فاستعدت وعيي باللحظة، وقد تسمرت عيناي على فرشاته، التي اعتلت سطح المبنى، بعدما غاصت في بقع الأحمر والأخضر، فأدركت عندها، أنه رسم مبنى البرلمان، المنتصب قبالة المقهى الذي كنا معا فيه، ربما لنفس الغاية، لكن بوسائل مختلفة! وهنا توقف لهنيهة، بعدما أنهى المشهد، ووضع عليه آخر اللمسات، متخذا نفس الوضعية الأولى، يده تحت ذقنه وعينه على اللوحة، تكاد تقبلها.. آنذاك، قصدته، اعتذرت له عن التطفل، وأخبرته بم دار بخلدي.. فأجاب «لم يخطر ببالي كل الذي قلت.. كل مافي الأمر أن صورتها بقيت عالقة، منذ سنين وبوضوح، ببصيرتي، قبل أن يتشوش بصري..» ثم سألته: «وما الذي أوقفك؟» أجاب: «العنوان!» قاطعته قائلا؛ "رفاه الجنة" فاستدرك؛ «حتى وإن كان ما يحدث فيه من رفاه ونعم، لا يخطر ببال رسام…!؟» «ولا حتى كاتب..» أضفت. وعدت إلى مقعدي وقد سنا في سماء خاطري برق قصة.. همست في نفسي "ربما حتى بالجنة، لن ينال ساكنوها ما ينالونه هنا.. ولن تكون المراحيض بمآت الملايين! ما دام سوادها الأعظم فقراء، كما في بلادي..» وشرعت في الكتابة عنه.. ذرفت السماء دموعها البكر، على لوحته قبل أن يطويها.. فماع الأخضر والأحمر، كأنه يبكي -بلا مدامع- على بنيان هارت أركانه وساحت ألوانه، وعبر الشارع حاملا عصاه البيضاء إلى الأمام، نحو مسكنه، من الكارتون والبلاستيك، تحت شرفة مشيدة لبنك الثروة الوطنية، مع ثلة من إخوانه المكفوفين وضعاف البصر، فبدا المشهد -على حقيقته- تراجيديا.