قبل أن يبدأ القمر في رسم دوائره الليلية بلمعانه الشهي، قرر أن يؤكد حضور غروب أزرق ناحية السهب، لتبدو الطريق إليها منعرجات ومنحدرات ظليلة جنب ذلك الوادي الوارف المخيف.. هو نفسه يظهر من بعيد سحبا أرضية داكنة.. قد آن لهذا القفر أن يلبس رعونته.. ها قد اقتحمت نوارس الغرب جحيم الظهيرة تحمل رطوبة سبو معلنة :» في هذه التضاريس ليس أمامكم باب فتقصدوه، وليس وراءكم باب فتتلفتوا إليه» خلف باب الزمن، بدت نحيلة جدا.. جسمها صار شفافا يستطيع ناظرها أن يقرأ عليه غيبها الآتي؛ وعلى صفحة خدها المعظم، يتلقى كل الأجوبة عن أسئلة لا تتوقف هي نفسها عن طرحها: هل كان يعرف خلوق لغة الطير ولغو السلاحف وحسيس الثعابين ؟ هل كان قادرا على إشباع نهم العقارب المتربصة بالأقدام الطرية التواقة لقليل من الشمس؟.. ساعتها ربما كان يملك فقط أن يمجدها بكلمات أطرى من القبل.. وساعتها وبسرعة الحركات والحروف، بدأت تسمع وترى نفسها فلقتي رمان وعينيها زمردتين وقامتها حبة إجاص رائعة وشعرها.. وخدها.. لقد تحول معها الكلام سفيرا للعشق في مملكة الغزل، لا يحد أطرافها المترامية إلا لهيب الصحراء خلف الجبال الباردة. كانت لا تنام.. يدركها الفجر فتشعل التلفاز لتؤنس السمع والبال ولتخلق ألفتها الفقيدة.. مندهشة في ذهول حضاري وتكرر على مسمعيها:» إن أكثر ما يؤرقني أن أشعر أن الأشياء هنا رمادية وبياضها القليل مشوب بكل الألوان الداكنة..تلك النوافذ المغلقة دائما لا ينبعث منها النور، فقدت دورها جراء العيون المتلصصة خلفها بالكائنات». كانت قامتها تحن لطراوة الثياب ولمعان الأحذية.. وأشعة الشمس الدافئة.. قامتها تلك هي مرآتها اللامعة.. حين تنتصب قبالتها البنات هناك ترى منحدرات القفر على أجسادهن اليافعة.. وضعت رأسها بين يديها النحيلتين، تراجع رصيدها الأثير من أغاني الزمن الجميل، وضوء القمر ولون العنب... - «حتى الحلم لا يستطيع المجيء إلي منسابا إلا مفتحة العينين كي لا تعترضه عيون القفر العنيد» هل آن للبحر أن يمتد إلي لأرى كيف ترد الرمال على البحر بسخاء لا يحد؟ لماذا يقف الصخر في هذا الذهول الصامت؟ مرة فكرت أن أكون شاعرة أو كاتبة أو.. خزانة كلمات لا معنى لها.. بهذه العبارة، حاولت أن تهدئ من روعها وتقلل من لهاث القلب... هي موقنة أنها تلملم أشلاء نصوصها لمعاني قادمة.. كان اليوم يوم إجازة، أرادت أن تسترخي على سريرها كي تمنح جسدها النحيف فرصة التلذذ ببعض الخمول.. دون أية رغبة أخرى، سوى أن تحاول تفسير حلم البارحة.. كانت وما زالت لا تعرف معاني أحلامها.. مركزة العينين في سقف غرفتها، تذكرت حكايات «مي الشاوية»، إحدى عجائز بلدتها: « آلبنات، في مثل شبابكن اليافع، كان يجيء في أرضنا ثعبان يتربص بالعازبات.. يمتص نهودهن ويرسم على صدورهن قليبات بألوان بهية.. وكان يطيل الانزلاق على صدور العذارى ينفث فوقها من ريقه.. حتى يتزوجن.. ولا يبقين قربانا للهباء يزورهن طوال الأيام».. قالت في همس وكأنها تخاطب السقف:» كانت «مي الشاوية» تحكي حكايات غريبة وتغني ألحانا شجية حتى وهي في غمرة الحصاد في حقول ولاد الهتروف.. كانت أخبار بوعزة تصلها بدقة.. حتى وهو بعيد عنها في زاوية ولاد صالح.. كان بوعزة يقول:» مثل هذه الشاوية هي التي تشجعني على البقاء حتى لا تنقرض سلالتنا.. الشاوية هي حضارة بحالها، الحضارة التي قرأ عنها أبناء البلدة الصغيرة الهادئة.. سيقان طويلة مملوءة كأعمدة البنايات الشاهقة.. وصدر ثقيل يهتز في عنفوان عند أدنى حركة ناطقة بحال القلب في أنفة وشموخ.. وبياض صومعة مطلية بالجير احتفالا بعيد بهيج.. الشاوية من بنات الأخوال والأعمام هناك.. هي من أجدادي الذين يجيبون صرخة الملهوف في خشوع وتواضع.. وها هي تتراءى لي مثنية على ظهرها تخدم الأرض وترعاها بكل حنان.. وتغني كثيرا.. كثيرا ما كنت أبكي عند سماعها.. وأفرح لهذا البكاء.. كانت تغني من تعب وكنت أفرح من بكاء.. أليست هذه هي الحضارة؟.. لا يكفيني أن أراها تشتغل، لا بد أن تكون لي.. «قالت «مي الشاوية» مرة وهي تتهيأ لإنشاد عيطتها الأثيرة وسط قريناتها:»عليكن بالغناء والرقص، الموسيقى تكلخ العقل وتنسي الآلام والأتعاب والأحباب». كاد قيظ الظهيرة يلتف حول عنق الليل.. وها مفاتنها المتوقدة تنتقد ما فيها من خجل.. تشوكت حلمتا نهديها وزفرت بعمق كنادم على ضياع فرصة نادرة، رددت في نفسها: - ترجل قليلا يا هذا.. ترجل واخرج من عباءة سنك.. وقارك لا يليق بي .. اقترب..اقترب.. تشجع.. تنسم.....» عيناها مسمرتان دائما في السقف، لم تجد في أذنيها سوى قهقهة، و بين يديها سوى بقايا دهشة.. أخذ السقف بلبها ولم تقو على مغادرة السرير.. هل استحضرت صورته؟ لماذا هذه السرعة نحو المرآة تترقب ما بها؟ تعرف أن عيسى خرج من رحم أمه دون زواج.. لكنها كانت لا ترى في المرآة كل التفاصيل.. مع ذلك، أذعنت في رسم ابتساماتها على شفتيها متوسلة عودة الزمن الجميل، فانفجرت بضحكة رائعة حتى من خجل طيفها الأثير... غبش المساء استمر في إرخاء سدوله على مدخل شقتها.. جبال شامخة كئيبة مثل عجزة راكدين، تخفي بثقلها ما تبقى من أثر الغروب.. وبالكاد ترى الطريق الضيق.. كل مرة لم تجد ذلك الطريق الذي وصف لها ذات يوم.. هذه المرة تتوسطه بركة طين يتمرغ فيها حمار أجرب تحيط به كلاب نابحة.. ربما كانت مذعورة من هول المشهد، أو كانت تكمل وقع كرنفال شهي يرسخ للمكان صورته الكاملة.. أو ببساطة، كانت تلك طريقتها الخاصة في استقبال ضيوف قفرها. قالت «مي الشاوية» يوما:» قد استولى بوعزة على أغلى ما أملك.. قلبي.. وغاب». وقع هذه الكلمات أطلع الحمرة على وجنتيها، وعلا قليل من الضباب على سطح المرآة.. لمست نهديها الباردين.. حكايات « مي الشاوية» حول الثعبان المتسلل، تتوالى أمام ناظريها.. خارت قواها لترخي الجسد النحيل مجددا للنوم، تنصت لحسيس الرياح وتفسير سورة مريم. غافية في عطرها الأخاذ، رأت رأي العين ثعبانا يتسلل تحت باب شقتها.. شلت حركتها.. في لمح البصر وصل غرفتها.. انزلق نحو فراشها.. قبل أن يرتد طرفها، تجاوز القدمين.. باردا كصاعد من قاع بئر.. شم عانتها.. صرتها.. صدرها.. تذكرت أحاجي «مي الشاوية» قفزت مذعورة من فراشها.. لم تصل لحد التلذذ بنومها.. فقدت قيلولتها وليلتها... - يا ويلي هل أنا أحلم؟ أنا مستيقظة.. ما هذا؟ يا ربي كم يحلو للفجر أن يتعثر.. وللنهار أن يطلع.. أما كان لهذا السرير أن يهتز إلا ذعرا؟ أمي التي كانت هي أيضا تحفظ أحاجي « مي الشاوية» كانت تقول إن هذه الرؤى والأحلام فأل حسن.. وأنا أكره الثعابين، فكيف لها أن تلمسني وتنزلق فوق جسمي القمحي الندي؟؟ أسرعت لمكتبها تسابق طلوع الشمس.. هذا القفر يا أمي نهب مني أبهى سنين عمري، يؤنسني طيفي الأليف.. لماذا لا أحلم بتلك الفاكهة الشهية.. التفاحة؟ تعرفين رائحتها الزكية تذكي الشهوة في داخلي.. هي التي جلبت كذلك الثعبان لحوض حواء.. كان برجها يتحول داخلها إلى خوف فظيع يتوسع ويلتهم الأحشاء، وكانت العزلة تسعدها.. بقاؤها وحيدة أضحى أمرا عاديا.. كانت تثق أن هذا الثعبان سيغادر، وأن لعابه سيعود.. وكانت ترفض مجرد الشك في ذلك. - قد تقولين يا أمي: « استردي نفسك من الضياع ومن الخوف والعزلة.. لقد زارك الثعبان كسائر عذارى بلدتنا.. أنت الآن حواء.. ولا بد من أكل الفاكهة، فهي الوسيلة لمعرفة رائحة الجنة». تسمرت العينان في الجدار الأبيض، بدا لها لامعا، وفكرت في قدرتها على أن ترسم عليه صورا صغيرة أو كبيرة.. هي عبارة عن شمس دائرة وأشجار وغزلان ونهر وضفاف.. غرقت في هذه اللوحة قبل أن تبدأها.. حتى سمعت رنين النهر في أذنيها. - سعدت أمي أني استطعت أن أرسم، وسعدت التفاحة كثيرا أني استطعت أخيرا أكلها وتذكر رائحة الجنة.. أما الثعبان فقد نفث لعابه السحري، واستسلم لغواية باقي العذارى، موقنا أنني أخيرا تعلق بالي بذكرى النفث الجميل، وأني سأقرب الفاكهة في نهاية المطاف... حتى لا تتلاشى الأحلام البكر والخفقات الجميلة تحت عينين دامعتين...