حين أنهيت قراءة رواية «شمس آل سكورتا» للروائي الفرنسي لوران غوده، أدركت بسرعة أنني من أكلة الشمس، وصرت أردد مع دومينگو: « في أعمق ذكريات أجسادنا وأبعدها، تَمْثُل ذكرى الشمس، ساطعةً، مكتنفة بشرتنا.. ها نحن لا نكف عن التهامها، عن قضمها، نَهِمِين إلى طعمها»ّ. إننا نأكلها بتكرار غير متناه، ننهشها دون ندم كرجال شديدي البأس يشعرون بدمائها تتدفق في حلوقهم، فيشعرون بالامتنان. نفعل ونحن نرقص الترانتيلا مع امرأة عجوز في حجرة يغمرها رجل أعمى بموسيقاه. نرقص دون أن ننبس بحرف واحد، فتتدافع صورنا في تلك المخابئ التي ننتهز كل الفرص لنهرب من غمولتها نحو الشمس. في المكان الذي ولدت فيه، لا ينقضي الصيف قط. كل الأيام تفح، وليس في اليد سوى شريحة خبز وقطعة سكر، والكثير الكثير من الحجر الحامي المدبب. أجلس في جفاف الأرض، وأرفع بصري إلى الرجال الذين يستغرقون في الظل. بعضهم يتمدد على حصير، والبعض الآخر يستند إلى براميل الزنگ، فيما كان الأطفال المذعورون يتبادلون الصياح. الذعر لا يأتي من السماء التي ألفوها منذ ولادتهم.. يأتي من كل ظل يخسرونه دون أن ينتبهوا لذلك. خسرنا ظلالا كثيرة، ولم يحالفنا الحظ في استنبات أخرى جديدة. كنا نبالي بكل شيء، نبتز الشمس كلما أصابنا خطب، نملأ بها صحوننا ونلتهمها عن آخرها. نسكت عنها لأننا بالفعل نحبها. طعمها حار وخفيف.. وكانت تعرف بأننا ندرك أنها تتحصن بنا. نحن دروعها على الأرض. نعم، أنا مرغم على الاعتراف بأنني آكل شمس. أقولها دون خجل كاذب. آكلها بسعادة بالغة. أكلتها حياة بأكملها ولم أتعب. بسببها كنت على خصام مع الريح والمطر، وكل المآدب الأخرى التي تشوى على أهواء الاتجاهات وتقلبات الطقس. ومن فرط سعادتي لم أعد أدراجي منها. هل ذقتم صحن الشمس ببلح صخور طماريس؟ هل ذقتم طاجين الشمس بالسفرجل الفاسد؟ ما زلت أتذكر ذلك اليوم، جئنا إلى البحر دون أن نفكر في شيء إلا الشمس. جئنا لنلعب. لعبنا طوال النهار دون أن نتكلم. ركلنا الكرة، وحين جعنا وضعت الشمس يدها على أكتافنا. أصدقائي كانوا يأكلون خبزا وسمكا معلبا، ولم تكن في جيبي إلا سفرجلة فاسدة. كانوا يأكلون بضراوة وحماس، بينما ابتعدت على عجل نحو الصخور. لم ينتبهوا لعيني اللتين اغرورقتا بالدموع. كانوا يأكلون فقط، ولم يفطنوا لما اعتراني من ضيم. اختفيت بين صخرتين وأخرجتها لأعضها. استمهلتني قليلا. طلبت مني أن أغفر لها طعمها المر الحريف، لأنها لم تكن لتضن علي بشيء. لم يكن من الإنصاف أن أرفض. غمستها في المياه بسرعة. أغمضت عيني بشدة، وعضضت على دفعات متلاحقة. كنت أتصبب عرقا حين رفعت أصابعي لألتقط وجبة شمس ساخنة بالبلح. أخذت حجرا صقيلا، وصرت أكسر البلح وأبلع الواحدة تلو الأخرى لزجة ومالحة، حتى اكتفيت، وخرجت إليهم لامعا، ومفعما بالشمس التي تشرق على صفحة الماء، فتداعب الزرقة بضياء أسطوري. هل سبق لتشيخوف أن اكتوى بهذا الضياء المبهر لنهار سعيد؟ تشيخوف كان محاصرا بندف الثلج التي تدور بكسل حول أنوار روحه، بينما كان يمتطي عربة يجرها جواد أبيض. يتأوه فقط دون أن يقوى على مراوغة سحب الثلج التي تلتف حوله في دوامات لا تنتهي. ونابوكوف؟ هل سبق للشمس أن مدت له يد العون؟ هل ذاق من جزئها المكتظ بالخبز والزيت والزيتون؟ يقضي يومه في تحريك كرسيه في غرفة النوم، يشرب الحليب والغيوم، ويراقب ذلك العسكري البدين الذي يقف عند رأس الجسر المغمور بالثلج ويستلم قطعة نقدية نحاسية من كل عابر، وإلا لن يعبر.. وفيتغنشتاين؟ وتوماس بيرنهارد؟ وإمري كيرتيش؟ وإميل سيوران؟ وكريستين أنجو؟ ورومان غاري؟.. كل هؤلاء الأحرار الذين لم يأكلوا الشمس، ولم يرقصوا الترانتيلا، ولم يجربوا متعة الاختلاء بالحرارة في بيت من غرفة واحدة. جربوا أكل أكواز الذرة، ولكنهم يجهلون أنه كلما انقضى صيف يحل مكانه صيف آخر..