أوكتافيو باث: "إنني عند مدخل نفق،هذه الجمل تخرق الزمن. لربما إنني ما يتمناه عند مخرج النفق. إنني أتكلم بعيون مغمضة" الكاتب والشاعر العالمي، "أوكتاڤيو باث" من مواليد مدينة مكسيكو، سنة 1914م. وهو ينحدر من أم إسبانية ذات جذور أندلسية، وأب مكسيكي. وإذا كان جده هو أول من أثار مسألة هوية السكان الأصليين من الهنود، بكتاباته الروائية، فإن الأب الذي كان يشغل منصب محامي، سيلعب هو الآخر دورا هاما في الثورة المكسيكية. هذه الأخيرة التي كان يقودها الفلاح المزارع "إيميليانو صاباطا"، والتي كان الأب فيها، وصيا صحفيا وسياسيا له. ولقد قضى نشأته كما طفولته كمغترب في أمريكا الشمالية، وساهم بدوره في الحركات العمالية اليسارية. وفي سنة 1931م أسس مجلة "براندال" و"دفاتر وادي مكسيكو" سنة 1933م. وفي هذه الفترة بالذات بدأ بنشر أول أعماله الشعرية "لونا سيلڤستر" و"جذور الإنسان". ولقد كان الرجل يجمع سحر القلم إلى فعل المقاومة، بحيث أنه شارك في الحرب الأهلية الإسبانية، حيث تواجد مع كل من "رفائيل ألبيرتي" و"بابلو نيرودا" و"ميݣيل هيرنانديز" و"لوي صرنودا" الذي ستربطه به صداقة حميمة، لن تنتهي إلا بموت الكاتب. وبعودته إلى المكسيك، سينخرط في السلك السياسي وسيساهم في المجلة العمالية "الشعبية"، وكما سيشغل مناصب دبلوماسية لبلده في الخارج .كذلك لن يظل مقيدا بكتاباته النضالية، بل عرف تأثرا بمدارس أخرى، نذكر من بينها السريالية على سبيل المثال. كما لاقى وجوه أدبية عدة، نذكر من بين هؤلاء: "أندريه بروتون" و"جورج شحاده" و"هنري ميشو" وجيل "سوبرڤيل". ولقد تنقل عدة مرات من أمريكا إلى فرنسا، ومنها إلى المكسيك، مخلدا آثارا أدبية خالدة باللغة الإسبانية. وهو من هذه الناحية، قد يعتبر الأب الروحي لكل من "لوي بورخيس" و"ݣارسيا ماركيز". ولقد اعترفت الأسرة الإنسانية العالمية بآثاره الإنسانية الجبارة، فكرمته بجائزة نوبيل العالمية سنة 1990م. وتوفي بعدها بثمانية سنين، مخلفا للإنسانية أعمالا أدبية متعددة المشارب، في قمة النزاهة، نذكر من بينها على سبيل المثال: القوس والربابة، وحجر الشمس، والمنحدر الشرقي، ومتاهة العزلة عن الهوية المكسيكية. وهكذا برحيل "أوكتافيو باث"، تكون الأسرة الإنسانية قد فقدت فيه الكاتب والشاعر والمفكر الإنساني العالمي. من وحي الترجمة لعل كلمة إضافية حول الترجمة، هي أنسب ما يمكن أن نقدمه للقارئ الكريم حول هذه المطولة "الشّمْسِية"، التي قمنا بنقلها من اللغة الفرنسية، إلى العربية وذلك بعد التحقق من الأصل الإسباني. وهذه ليست أول مرة نعرض فيها للترجمة كتجربة أدبية، لها خصوصيتها الفنية، كما لها فائدتها اللغوية الثمينة. لقد قمنا بمثل هذا العمل، حين قمنا بترجمة الأعمال الشعرية ل"فديريكو ݣارسيا لوركا"، وكذلك الأعمال الشعرية "لماريا رينه ريلكه" ولآخرين. وما نريد ،أن ننبه إليه، أو التأكيد عليه في هذه التجربة التَّرْجُماتِيّة الجديدة، وهو أننا حين ممارستنا لهذا التمرين العويص، قد لاقينا بعض الصعوبات في نقل بعض المصطلحات من المصادر اللاتينية إلى العربية، الشيء الذي اضطرنا إلى نحت مفردات عربية، اعتبارا للقياس العربي، من أجل الوصول والنفوذ العميق إلى شفافية المعنى المطلوب. وإذا كانت الكتابات النثرية أكثر طوعية، وأكثر مطاطية، في ميدان النقل من لغة إلى أخرى، فإن الشأن هو غير ذلك، حين يتعلق الأمر بالترجمة الشعرية. خصوصا وأن الشعر لا يترجم. فما العمل إذن، إذا كان الشعر يخرج عن دائرة الإمكان للترجمة الشعرية؟ حسب اعتبارنا وتقويمنا لهذه المسألة، فإن الجواب يكمن في مدى قدرة المترجم، على التحكم في اللغتين: المترجمة والمترجم إليها. ومتى ما كانت درجة معرفته باللغتين عالية ودقيقة، متى ما جاءت ترجمته في الواقع، كإعادة كتابة للنص الأصلي، وبمعنى آخر، محاولة إخراجه في حلة إبداعية جديدة. ومن هنا، يمكن أن نعتبر الترجمة، فنا له مقوماته، وله أدواته، وآلياته، وحرمته المعرفية المقدسة، فعلى الداخل إلى حرمه أن يراعي هذه الشروط، وهذه المبادئ، كيما لا يخل بميزان نزاهة الكلمات الأسمى. ودور المترجم أخيرا، في هذه المحاولة، يبقى هو الخلفية المرجعية الأساسية لتقعيد النص، خصوصا وأنه يستوجب على المترجم في هذه الأثناء، أن يعتمد على ثقافته في اللغتين من جهة، وأن يميز بين التصورين للعالم، المعتمدين في رؤية كل منهما، ومن جهة أخرى على قدرته الخيالية، كما التصورية، والإبداعية الشخصية، في حفظه على جوهر النص المعني، ولغته الشاعرية. المُطَوّلَةُ الشّمْسِيّة لقد ارتأينا، لما يتمتع به هذا النص الشعري، من غناء ثقافي كبير، أن نقدم له بهذه الاستهلالية التوضيحية، كيما نمهد للقارئ الكريم، العبور إلى متاهاته الساحرة. ولا نقصد بهذا، تقديما لعرض تحليلي كامل، أو ما شابه ذلك، لهذه المطولة الشمسية الواردة أدناه. إن بحثا من هذا القبيل، نتركه لمن يشاء، ولمن له الرغبة في المزيد من الإطلاع، إلى الرجوع للمصادر النقدية، والمراجع التي وثقناها في آخر هذه الترجمة. وباختصار، إننا حتى لا نذهب بجمالية متعة النص، سنكتفي بذكر أسباب تسمية النص، وظروف نشأته، وبعض المعلومات الهامة المتعلقة به، تاركين للقارئ تتمة المغامرة الاستطلاعية بنفسه، وبوسائله الخاصة به. إن هذه المطولة الشعرية، التي قد ندعوها تارة "بالحجرية" وطورا "بالشمسية"، أو بهما معا " الحجرية الشمسية"، تعد في نظر المهتمين بالأدبيات "الاسبانية / الأمريكية" نشيدا خالدا، يجري كينبوع للخلاص، في رغبات الحب وحرقه. واسم هذه المطولة الشعرية "حجر الشمس"، مشتق من التقويم الحجري لشعب "الأزتيك – 1428 - 1521"، الذي كان مستوطنا بالمكسيك الحالي، والذي تقوضت إمبراطوريته على يد الغزاة الإسبان، وخصوصا السفاح "كُرْتيز". بما معناه تقويمهم الذي نسخوه نقشا على حجر شبه مدور (انظر الصورة أعلاه). هذا التقويم الذي يعرف عندهم بأنه لا بداية له ولا نهاية. بل هو تجسيدا لرمز الحياة في سيولتها، والحركة الدائرية لعجلة الحياة. وليس من قبيل المصادفة أن الكاتب افتتح مطولته الشمسية بهذا الرمز التالي " 4 olin " الذي يعني في التقويم الأزتيكي "الحركة" واختتمها ب الرمز التالي " 4 إيهيكاتل"، والذي يعني هو الآخر في التقويم الذي ذكرناه "الريح"، مما يشير إلى نهاية دورة زمنية وبداية أخرى. وهذه المطولة الشمسية، تعد من أجمل وأغنى ما وصل إليه "أوكتافيو باث" في سرحاته الشاعرية الإبداعية. وهي تنطلق، كما قال أحد النقاد بخصوصها "، من رحلة البحث عن الذات، ومحاولة معرفتها، كمبدأ أساسي لكل شيء". وفكرة العودة الأبدية، إلى ربط الإنسان بذاكرته البدائية. إنها في الواقع "أوديسا" حديثة معاصرة لنا. تنبعث راحلة بنا من القلق الوجودي إلى الرغبات، فالشهوات الجنسية، فالملل، فالتذمر والاستياء والمصالحة الأخيرة مع الذات في نهاية الرحلة. بحث عن النصف الآخر من الذات، الذي يتمثل في الأنثى، التي بغيرها يفقد هذا العالم، أو إذا صح التعبير، هذه التجربة الوجودية معناها. وفي هذا السياق، نتحسس في هذه المطولة الشمسية، هذه اللغة التي تترفع شيئا فشيئا، لغاية محاذاة والتحرش بحدود المجهول. هذه اللغة التي تتصف عند الصوفيين، بلغة الإشارات عوضا من العبارات، والتلميح في محل التصريح والنوح في مقام البوح. وهذه السيمفونية "الأوكتاڤية" التي تقارب أبياتها الستة مائة بيت، تعج بما لا يعد ولا يحصى من الأسماء والنعوت لرموز وشخصيات تاريخية. فمن "أغاممنون" و"سقراط" لغاية "أبراهم لنكلن"، أو "روبيس بيير" تتوالى الوجوه، والأحداث، وكأن كاتبنا أبى إلا أن تكون مطولته الشمسية هذه، شاملة وكاملة للتجربة البشرية منذ بدايتها، وبعبارة أدق "ملحمة الملاحم". وننبه بأن هذه التجربة "التّرْجُماتِيّة"، تأتي مكلمة لمحاولات أخرى اطلعنا عليها، من بينها الترجمة التي حررها "هنري فريد صعب"، و"رقية صالح" وعبنا على بعضها، عدم مراعاتها للسياق الزمني، الذي ورد فيه البيت الشعري الأصلي، كأن يرد مثلا بصيغة الماضي، ويقوم المترجم بتحويله إلى زمن مضارع، الشيء الذي يفقده بناؤه الفكري. على كل حال، إنها محاولة اجتهاد من جانبنا، وتتمة لمجهودات الآخرين، محبة منا في إغناء مكتبتنا العربية بألفاظ ومصطلحات مستجدة. ونكتفي بهذا القدر، تاركين للقارئ الكريم، متعة الرحلة في هذا النص الشاعري الملحمي. حَجَرُ الشَّمْس
حَجَرُ الشّمْس يتواجد معروضا في المتحف الأناسي لمدينة مكسيكو حَجَرُ الشَّمْس