يتألف كتاب « Le café bleu أو الزريرق» للكاتب المغربي اليهودي إدمون عمران المالح من مجموعة مقالات غير مؤرخة، وبضع مداخلات ألقيت في ندوات عقدت في إسبانيا بين 1987 و 1992، وفي ندوة جرت أشغالها بإيطاليا سنة 1995، بالإضافة إلى المقدمة التي وضعتها السيدة ماري سيسيل ديفور. ويمكن تصنيف المقالات والمداخلات إلى نوعين: مقالات ذاتية: وفيها يتحدث الكاتب عن مقهى «الزريرق» في أصيلة، وعن فقر وغرابة صديقه الفنان خليل الغريب، وعن مقبرة اليهود في نفس المدينة، قبل أن يتحدث عن تجربة كتابة روايته الأولى «المجرى الثابت» طارحا قضايا نقدية مثل قضية الهوية الثقافية، واللغة الأم ولغة الكتابة، والسيرة الذاتية والتخييل. مقالات حول كُتاب ونصوصهم: وفي هذه السلسلة من المقالات، يتحدث إدمون عمران المالح عن كتاب « الليلة الناجية » La nuit sauvée الذي ألفته زوجته السيدة ماري سيسيل ديفور عن فكر والتر بنجامان، كما يتحدث عن كاتبين مغربيين هما الشاعر مصطفى النيسابوري والروائي والشاعر محمد خير الدين، وعن أربعة كتاب إسبان هم يوحنا الصليب (1542-1591)، واندريس سانتيش روباينا، وخوسي أنخيل فالنتي، وخوان غويتيصولو، وعن الفيلسوف وعالم اللاهوت الإيطالي جيوردانو برونو (1548-1600)، وأخيراعن جان جينيه الذي خصه بثلاث مقالات تتغيا مقاربة كتابه «الأسير المتيم» Le captif amoureux من زوايا متعددة. «أصدقاء الكلام» والملاحظ أن إدمون عمران المالح خص الكتاب الإسبان الأربعة الذين أشرنا إليهم بست مقالات، من أصل الإثنتي عشرة مقالة المكرسة للكُتّاب (أي ما يعادل 50%)، وذلك ما حدا بي إلى تأمل هذا الملمح وجعل مقاربة الثقافة الإسبانية في كتاب «الزريرق» موضوعا لهذه المقالة التي يجب أن أقول أن الغرض منها لا يعدو أن يكون ملامسة الموضوع وليس التعمق فيه. تتوفر مقاربة الثقافة الإسبانية في مقالات إدمون عمران المالح على بعد حضاري يتم التعبير عنه من خلال إبراز أهمية تعايش الديانات الثلاث، المسيحية والإسلام واليهودية، ونبذ كل نزعة تفتيش من شأنها تدمير هذا التعايش بواسطة النفي والإحراق، وعلى بعد زمني يمتد من موسى بن ميمون وابن عربي المرسي (في القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين) مرورا بيوحنا الصليب ولويس دي غونغورا (من القرن السادس عشر) وثيرفانطيس ( من القرن السابع عشر)، ووصولا إلى كتاب القرن العشرين؛ كما أن تلك المقاربة تتوفر على بعد جغرافي موسّع، حيث لا يندرج فيها كتاب من إسبانيا فقط ولكن أيضا من أمريكا اللاتينية الناطقة باللغة الإسبانية، وإن كان الكتاب الذين ينتمون إلى هذا الفضاء إنما تتم الإشارة إليهم باختصار بين آونة وأخرى، وهم: كارلوس فوينطيس (مكسيكي) وخوسي ليثاما ليما (كوبي) و سيفيرو ساردوي ( كوبي) و أوكتافيو باث (مكسيكي)، دون إغفال استشهادات دالة على شكل فقرات أو جُمل اقتبست من إنتاجهم لإغناء رؤى وتوجهات صاحب الكتاب. وهناك بعد آخر لمقاربة الثقافة الإسبانية، وهو بعد تجنيسي يتجاور فيه الشعر والرواية، وإن حظي الشعر بالنصيب الأوفر من اهتمامات إدمون عمران المالح كقارئ، رغم أنه في العمق لا يولي التجنيس أي اعتبار. جدل القراءة والكتابة لكي ندرك طبيعة اختيارات إدمون عمران المالح، يجدر بنا أن نتفحص خصوصية مقاربته: فهو يرفض النقد، خاصة النقد المنهجي أو الأكاديمي الاحترافي المستمد من اللسانيات وعلم الدلالة، ويعتبر أن قراءة نص ما تعني كتابته مجددا أي إعادة صياغته: فليس هناك حد فاصل بين الكتابة والقراءة. إنه يرى أنه ليس ضروريا، عند الشروع في القراءة، أن نبدأ من الصفحة الأولى ثم نتدرج نزولا مع الصفحات الموالية، وإنما يمكن الانغماس في النص من أية صفحة شئنا، حيث يتحكم في القراءة حدس الاكتشاف. ثم إننا، عند القراءة أو تأمل النص، لا يجب أن نظل سجناء ملفوظه، بل علينا أن نسبح في دلالاته فنغادر النص بحثا عن هوامش وعوالم وأنساق مجاورة قد تكون الفلسفة أو التشكيل أو الموسيقى أو ذكريات خاصة بالقارئ، كما أنه من حقنا أن نستعمل تجاربنا كمرادفات لذلك النص أو نبحث في كياننا الروحي عن أصداء له بعيدة الغور. ويعتبر إدمون عمران المالح أن لكل نص لغته الخاصة، لكن هذه اللغة تواكب لغة أو لغات أخرى في حركة تماس تؤدي إلى تلاقيها، دون أن تتغاضى عن سلالتها الأصلية أو تقف منها موقف اللامبالاة. إنه يرى أن القراءة، المنضبطة بنظام معين والمتنبهة فقط إلى تقدم النص، لا تستوعب هذا النص رغم ضرورتها، ذلك أن القراءة الحقة لا تبدأ إلا بعد الانتهاء من قراءة النص، وأنها تكشف، عقب كل خطوة تخطى في وضوح وصفاء حقيقيين، سريته التي يستحيل الدخول إليها أو اختراقها. روائي وثلاثة شعراء خص إدمون عمران المالح الشاعر والمتصوف ورجل الدين الكرملي يوحنا الصليب بمقالتين: حيث أبرز في الأولى، وعنوانها «همهمات صوت أخرس في ليل أوبدا Ubeda» (وأوبدا مدينة أندلسية عتيقة تقع في إقليم Jaen أو جيان)، أهمية استرجاع محنة الرجل في أسره بطليطلة، وعدم اعتبار عفو الكنيسة عنه وتعميده قديسا فيما بعد مبررين لنسيانها، إذ من قلب تلك المحنة نبع شعره الصوفي الذي تغتني عروقه بمختلف تيارات التصوف الإسلامي واليهودي. ويرى إدمون عمران المالح أن يوحنا الصليب، إذا كان صاحب مذهب يهدف إلى إيصال معتقداته إلى الناس، فإنه هو ذاته نص يستحق القراءة، وإنه لولا الكتابة لما كان قد أثار اهتمام حركة التفتيش الديني التي ترى في كل نص مخالف لتوجهاتها خروجا عن الإجماع الذي يكون في الغالب مفقرا للروح. أما في مقالته الثانية المعنونة «القديس يوحنا الصليب»، فقد ألح إدمون عمران المالح على ضرورة قراءة تصوف الرجل من زاوية الروافد اللغوية الثلاثة (الإسبانية والعربية والعبرية) التي لا يستبعد اتصالها، عن طريق الترجمة، بالحكمة الشرقية وخاصة الصينية («اطلبوا العلم ولو في الصين»). ويلاحظ إدمون أن تجربة يوحنا الصليب الصوفية تنطلق من صيرورة جسدية تنقل المتصوف من حالة العمى إلى حالة الاستبصار الوجودي والاستغراق في نورانية الرمز. ثم يصف شعره، وخاصة «النشيد الروحي»el cantico espiritual، بكونه «معجزة نصية عبرت العصور، متجاوزة شتيمة النسيان والتحريف المتعمد، والتهديد الدائم بإحراق افتراضي» (ص 165). وحظي الشاعر خوسي أنخيل فالنتي، بدوره، بمقالتين تحمل أولاهما عنوان «نافذة مفتوحة» والأخرى «من أجل خوسي أنخيل فالنتي». يشعر إدمون عمران المالح إزاء كتابة هذا الشاعر بانتشاء لا يوصف فيسترجع أشعاره، ويرددها بين آونة وأخرى، ويحول كلماتها إلى مشاعر شخصية، لكنها المشاعر التي لا تستخف بثقل النص وحجمه ووقعه في الوجدان والمخيلة. إنه ينظر بإمعان أيضا إلى صرامة لغته، ودقتها البلورية، فيخشى أن تكون قراءته قد أضاعت شيئا من جوهرها أو انزاحت عنه لاصطناع انفعالات لا صلة لها به. ويبرز إدمون عمران المالح، أثناء قراءته لديوان «دروس العتمات الثلاثة»، الأثر العبري في شعر فالنتي، وخاصة أثر القبَّالة، نافيا في نفس الوقت خضوع الشاعر لأي تأويل مذهبي مسبق، ومن هنا ينطلق للتساؤل حول ماهية لغته : « بأية لغة يكتب فالنتي؟ هل بالآرامية أم بالعبرية أم بلغة ابن عربي الرائعة، أم بلغة يوحنا الصليب التي لا تقل عنها روعة؟» واصلا تراثه الشعري بتراث أسلافه الخارجين في أعماق القرون الماضية، ومذكرا إيانا بما يقوله خوان غويتيصولو في كتابه «شجرة الأدب» من أن «الشاعر لا يخلقُه أسلافُه، وإنما هو الذي يخلق أسلافََه». ضيف في محفل الكتابة يتعلق الأمر إذن بأربعة كتاب إسبان، يعتبرهم إدمون عمران المالح « أصدقاء الكلام». ومع أنهم ثلاثة شعراء وروائي واحد، فإنه لا يفرق فيهم بين الروائي والشاعر، بل يعتبر أنهم يمتحون جميعا من « تلك المركزية النصية التي تنبض بالرغبة»، مركزية الكتابة، وينتمون جميعا إلى أرض تنفرد بكونها مسقط رأس متصوفة مسلمين ويهود ومسيحيين نابهين هي الأندلس، وأن كتابتهم حافظت على جذورها واخترقتها في نفس الوقت مبتكرة عوالم جديدة لا يستطيع السير فيها إلا الذين وُهبوا نعمة القراءة المستبصرة. تلك القراءة التي تجعل من ذات القارئ، بكل ما تنطوي عليه من يقينيات وشكوك وتجارب وإرهاصات، الأداة الوحيدة للاقتراب من أسرار النص. يقرأ إدمون عمران المالح أولئك الكتاب بجدية من يدخل في ديانة جديدة، فتحرك نصوصهم فيه سيلا من الانطباعات وردود الفعل، وتستدعي ذاكرته النصية وذاكرة جذوره الروحية التي تنغرس في المغرب وإسبانيا السفاردية، وتتطاول قرونا عديدة، كما تنغرس في نص الثقافة الأوربية وخاصة حسب تأويل والتر بنجامان لهذا النص. قراءة مخصبة ترتبط رهاناتها بالوجود والصيرورة، وتجعل القارئ ضيفا مبرزا في محفل الكتابة، وليس مجرد متطفل عليه.