أكثر من شهرين من الاحتجاجات المتوالية للسترات الصُّفر وإعمال العنف والتخريب خاصة بباريس، حولت وجه فرنسا، وحولت كل الآمال التي علقت على الرئيس الفرنسي الشاب وحكومته إلى خيبةآ وانقسام داخل المجتمع الفرنسي، وأصبح جزء من الفرنسيين ينعتون ايمانييل ماكرون «برئيس الأغنياء»، وأصبحت المطالبة برحيله أحد الشعارات الأساسية للمتظاهرين في كل التراب الفرنسي، بل منذ ثلاثة أشهر، أصبح اقتراب الرئيس من المواطنين مستحيلا دون أن تتخلله مواجهات مع الشرطة واصطدامات. وبدأ الأمل والتفاؤل الذي ميز فرنسا مند سنتين يتحول إلى كابوس وخوف حول مستقبل بلد لا يمكن إدارته ولا يمكن إصلاحه. وتعطلت المؤسسات، واختفى الوزير الأول إدوارد فيليب عن الأضواء، وأصبحت فرنسا تعيش على وقع الاحتجاجات، كل يوم سبت، تعبئ الدولة جهازها الأمني، وتجند عشرات الآلآف من كل أنواع القوة العمومية، وكل سبت يخرج المتظاهرون بعشرات الآلآف لتحدي السلطة المركزية بباريس. ورغم تهديد المتظاهرين بتطبيق القانون بقوة، ومنع المظاهرات غير المرخص بها، فإن قوة الاحتجاج لم تتوقف بفرنسا منذ عدة أسابيع. واختار عشرات الآلآف من المتظاهرين تحدي الدولة المركزية في باريس، ومواجهتها في عقر دارها، بل وتكسير رموزها. ولم يتردد عدد من المتظاهرين، القادمين من مختلف المدن، والذين اعتادوا الاحتجاج في ملتقيات الطرق بقراهم في بداية شهر ديسمبر ، في دخول متحف قوس النصر وإتلاف محتوياته، وهي كلها رموز لانتصارات الجمهورية الفرنسية منذ نابوليون، وحتى مكان الجندي المجهول لم يسلم من هذه المعاملة المهينة لرموز الجمهورية. في هذا المكان، وقبل عدة أيام، استقبل الرئيس الفرنسي كبار قادة العالم للاحتفاء بمرور قرن كامل على الحرب العالمية الأولى. في هذا المكان، تقيم فرنسا احتفالاتها الوطنية، وتستعرض نخبتها العسكرية والمدنية وفي جميع المجالات. في هذا المكان، تحتفل الجمهورية بانتصاراتها الرياضية، جادة الشونزيليزيه وقوس النصر والساحة المحيطة هي أماكن يعرفها كل العالم، وترمز إلى انتصارات فرنسا وتجاوز كبوتها وهو نفس الفضاء الذي اختاره المحتجون من أجل تحدي الجمهورية، من أجل إهانة رموزها، ومواجهة قواتها العمومية، ومن أجل تخريب رموز نجاح الموضة والمنتجات الفرنسية ونجاحها في العالم. عدد كبير من الفرنسيين الذين ساهموا في هذه المظاهرات بباريس، والذين جاؤوا من مختلف المدن والقرى، كانوا يرون هذه الفضاءات في التلفزة وعبر الإعلام فقط. لكن هذه المرة، اختاروا أن تكون هذه الفضاءات مكانا للمواجهة مع رموز الجمهورية والسلطة المركزية، ومن أجل تحدي الرئيس وحكومته. هذه الاحتجاجات، بينت عمق الانقسام في المجتمع الفرنسي، بين فئات مستفيدة من العولمة وفئات متضررة منها، بين نخبة فرنسية تعطي الدروس لباقي العالم في السياسية والحقوق وبين فئات اجتماعية مهمشة، تعتبر النخبة السياسية بعيدة عنها وعن مشاكلها الاجتماعية وآمالها، بين فرنسا تسعى إلى الانفتاح على أوربا وعلى العالم، وبين فرنسا تعاني من البطالة والهشاشة الاجتماعية، وتسعى إلى الانغلاق على نفسها. السؤال اليوم، هو: هل ما زال بإمكان الرئيس الفرنسي وأغلبيته، إعادة الأمل إلى الفرنسيين، ووقف هذا الانقسام الكبير، الذي يعرفه المجتمع الفرنسي، ووقف هذه الاحتجاجات سواء بباريس أو بملتقيات الطرق. الرئيس الفرنسي، الذي له مسار كلاسيكي مثل كل مكونات النخبة السياسية الفرنسية، يكتشف فرنسا أخرى، فرنسا الهوامش، وفرنسا التي ترى العولمة، وأوربا شاطئا بعيدا عنها وعن أحلامها، فرنسا التي تعتبر الديزيل الرخيص، هو وسيلتها في العمل، وفي التدفئة والعمل، بعيدا عن الانشغالات البيئية والانتقال البيئي، التي بينت هذه الأزمة أنها هاجس النخبة، وكما قال أحد المتظاهرين من السترات الصُّفر إن، “القضية التي تشغلني ليست نهاية العالم، بل نهاية كل شهر”، وعدم عدالة الضرائب خاصة على المحروقات، حيث إن فئات في هوامش المدن الفرنسية ،تؤدي الضرائب في غياب أي خدمات عمومية، مما يجعل التنقل بالسيارة أساسيا حتى من أجل بعث رسالة أو شراء الخبز. الرئيس الفرنسي، يبدو أنه شعر بهذا الشرخ الاجتماعي الذي يعيشه بلده، وبعده عن آمال جزء كبير من مواطنيه، وهو شرخ ليس جديدا كما ذكر في رسالته إلى الفرنسيين، بل مستمر في فرنسا منذ عدة عقود. ومن خلال الحوار الوطني الكبير، والاستماع إلى مطالب الفرنسيين، يحاول استرجاع المبادرة. هكذا قرر بنفسه المشاركة في هذا النقاش، وساهم حتى الآن، في لقاءين مع مئات المنتخبين المحليين، واستمع لهموم هذه الفئة التي تمثل الفرنسيين في البلدات والقرى الهامشية لعدة ساعات، وحاول شرح سياسته إلى هذه الفئة التي لم يكن يأخذها في السابق بعين الاعتبار، أي الممثلين المحليين للسكان والذين يعيشون ويعرفون معاناة مواطنيهم اليومية. في هذه النقاشات،أبان ايمانييل ماكرون عن قدرته على الاستماع إلى هذه الفئات، دون أن يغير سياسته والثوابت التي أعلنها، خاصة الضريبة على الأغنياء، والتي طالب أغلب الفرنسيين بإعادة فرضها من جديد، لكن الرئيس لحد الساعة يتمسك بمقاربته، وهي خفض الضرائب لتشجع الفئات الغنية من المجتمع بالاستثمار بكثافة وبخلق الثروة ومناصب الشغل للقضاء على البطالة التي تعتبر أحد أهم المشاكل الاجتماعية بفرنسا. هذا النقاش، الذي تعرفه فرنسا، لم يوقف هذه الاحتجاجات، التي مازالت مستمرة، والتي لم تتراجع قوتها، ولم يتراجع دعم الرأي العالم لها، لكن ما تغير لدى احتجاجات السترات الصُّفر ،هو طلب الترخيص لتظاهراتها، وتراجع العنف والمواجهة مع الشرطة الذي كان يطبع هذه التظاهرات. لكن الرئيس ايمانييل ماكرون، يعول على هذا النقاش الوطني الكبير، من أجل استرجاع المبادرة ،ومن خلال المشاركة شخصيا في هذه النقاشات، وهذه اليد الممدودة، والحضور إلى جانب المنتخبين المحليين، من أجل النقاش، لتغيير الصورة النمطية التي ألصقت به، وهو البعد عن المواطنين، وعن انشغالاتهم، واعتباره رئيسا” يدافع عن الأغنياء”. ويمكن لهذا الحضور والانفتاح، أن يضعفا احتجاجات السترات الصُّفر لدى الرأي العام، نظرا لرفضها لهذه اليد الممدودة، ولتخوفات عدد كبير من الفرنسيين من استمرار الاحتجاج والعنف وما له من انعكاس سلبي على بلدهم، الذي يعتبر أكبر بلد سياحي في العالم، بل إن استمرا الاحتجاج، كان له وقع سلبي على النمو الاقتصادي لفرنسا هذه السنة، كما أعلن عن ذلك صندوق النقد الدولي خلال لقاء دافوس، وراجع نسبة النمو التي توقع انخفاضها، وهي كلها مؤشرات اقتصادية، لن تساعد الفرنسيين على تجاوز هذه الأزمة، والحد من الشرخ الاجتماعي، ومن الفوارق التي يعرفها المجتمع الفرنسي. حضور الرئيس الفرنسي أيضا، هو لكسب الرأي العام، والحد من تصاعد القوى الراديكالية التي تستهدفه في خطابها، خاصة التجمع الوطني لمارين لوبين، وهو أقصى اليمين وفرنسا الأبية لجون ليك ميلونشون، والتي تصنف في أقصى اليسار. وهي قوى حسب الاستطلاعات ستكون لها كلمة في الانتخابات الأوربية المقبلة في شهر ماي المقبل. لهذا، فحضوره إلى مختلف الجهات الفرنسية، والمشاركة في النقاش، والاستماع إلى المنتخبين المحليين، هو لمواجهة الامتداد الذي تعرفه هذه القُوى السياسية المتطرفة ولبداية حملته الاوربية، حيث إن استطلاعات الرأي، ما زالت في غير صالحه في الانتخابات المقبلة، باستثناء تحسن شعبيته لدى الرأي، العام مقارنة بالشهور الأخيرة. لهذا، فإن التحدي اليوم، هو كيف يمكن لرئيس ايمانييل ماكرون استعادة المبادرة لإخراج بلده من هذا المأزق، والأزمة العميقة، وإعادة الأمل للفرنسيين في بلد يغلب عليه التشاؤم ويميل إلى التطرف السياسي؟