عندما اشتدت موجة الربيع العربي سنة 2011, طلبت حكومة عباس الفاسي عبر أمواج الإذاعة والتلفزة من جميع الأطر العليا المعطلة بالمغرب إيداع ملفاتها لدى الوزارة المعنية قد إدماجها في أسلاك الوظيفة بشكل مباشر. استجابت الأطر العليا لطلب الحكومة فتداعت إلى الرباط وأودعت ملفاتها. لم تنصرم إلا فترة زمنية محدودة حتى أعلنت الحكومة عن إدماج دفعة أولى من الأطر العليا المعطلة .امتعضت بقية الأطر العليا من عدم إدماجها فخرجت إلى شوارع العاصمة محتجة. بعد ثلاثة أشهر من الاحتجاج اعتصمت داخل المقر المركزي لحزب الإستقلال بالرباط للمطالبة بإنصافها تفعيلا لمبدأ المساواة المنصوص عليه في الدستور. توج ذلك الإعتصام بتوقيع ممثلي الحكومة على محضر يوم 20 يوليوز 2011 يقضي بإدماجهم كدفعة ثانية في أسلاك الوظيفة على غرار الدفعة الأولى. فرح المعطلون المشمولون بالمحضر وعادوا إلى بيوتهم ينتظرون موعد إدماجهم. في أثناء ذلك عقد العديد منهم قرانهم ، بينما استدان بعضهم مبالغ مالية مهمة قصد تدبير أمورهم في مرحلتهم الانتقالية .ولذات الغاية حزم بعض منهم حقائبهم مودعين ديار المهجر بشكل نهائي. حل بعد ذلك موعد الإستحقاقات التشريعية وفاز حزب العدالة والتنمية الذي أوكلت إليه رئاسة الحكومة وتدبير الشأن العام . استبشر معظم معطلي المحضر بذلك اعتقادا منهم أن ملفهم أصبح في أيدي شخصيات قالت خلال الحملة الإنتخابية أنها تنهل من مرجعية إسلامية وأنها تحفظ العهود وتلتزم بالوعود. طلع رئيس الحكومة وثلاثة من وزرائه عبر بعض الخرجات الإعلامية فصرحوا بأنهم سينفذون منطوق محضر 20 يوليوز. صدق المعطلون المحضريون تلك التصريحات وتبادلوا التهاني فيما بينهم . مرت أسابيع معدودة صرفها المحضريون في وضع الترتيبات اللازمة استعدادا لموعد إدماجهم.في تطور مفاجئ و غير متوقع نقض رئيس الحكومة و وزراءه عهدهم مع معطلي المحضر متحججين بتشكيكهم في قانونيته. استنكر المحضريون وجمهور السياسيين والحقوقيين نقض أعضاء الحكومة لعهدهم . خرج المعطلون المحضريون للإحتجاج في شوارع الرباط للمطالبة بإنصافهم وإحقاق حقهم المشروع. رفض رئيس الحكومة إنصافهم ودعاهم إلى اللجوء إلى القضاء . توجس المحضريون من دعوته بعد أن فقدوا الثقة فيه وفي تصريحاته. استمر المحضريون في تواجدهم في الشارع بكثافة عددية . تضايق رئيس الحكومة من ذلك ، فأشار عليهم مرة أخرى باللجوء إلى القضاء ووعدهم بتنفيذ الحكم القضائي. استجابة لدعوة رئيس الحكومة, لجأت فئة تجاوز عددها بقليل أصابع اليد إلى القضاء. واصلت البقية احتجاجاتها السلمية الأسبوعية في الرباط بنفس الكثافة العددية. تفاقم غضب رئيس الحكومة من أصوات احتجاجات الأطر المحضرية التي كانت تطارده هو وأعضاء من حزبه أينما حلوا وارتحلوا. حل موعد النطق بالحكم الإبتدائي في قضية المحضريين ، فأصدر قاض عرف بنزاهته وكفاءته واستقامته وعدله حكمه القاضي بقانونية محضر 20 يوليوز وبتوظيف المشمولين به .استبشر المحضريون بالحكم واعتبروه انتصارا لدولة الحق والقانون. عمت أجواء الإرتياح والبهجة في صفوف المحضريين كما في صفوف أسرهم وأقاربهم . استشاط رئيس الحكومة غضبا من الحكم فانبرى لإستئنافه موكلا نخبة من المحامين. صدرت عقوبة تأديبية في حق القاضي الذي حكم بالعدل لصالح المحضريين. تم توقيف القاضي عن العمل لمدة ثلاثة أشهر بدون أجر وحرمانه من الترقية وتنقيله إلى النيابة العامة بدلا من المحكمة الإدارية. قدم هذا الأخير استقالته, لكن نادي القضاة أجبره على التراجع عنها. حبس المحضريون أنفاسهم جراء المتابعة التي طالت القاضي الذي أنصفهم . استأنف رئيس الحكومة الحكم . استغرب المحضريون استئنافه ثم استفسروا عن السبب . قيل لهم أن رئيس الحكومة مصمم على عدم توظيفهم مهما كلفه الأمر وأنه يعتزم التضحية بهم من أجل القطع مع التوظيف المباشر . ولأنهم يؤمنون أنهم يعيشون في دولة الحق والقانون ،فقد تفاءل المحضريون في عمومهم بالحكم الإبتدائي . توجست في المقابل شريحة منهم من ذلك الحكم واعتبرته فخا منصوبا. انصرمت أيام معدودة انسحب المحضريون بعدها من الشارع فأوكلوا محامين لاتباع المسطرة القانونية. ولأن أغلبية المحضريين ينحدرون من أسر فقيرة فقد استدانوا من أجل أداء أتعاب المحامين الباهظة. فرح رئيس الحكومة بانسحاب المحضريين من الشارع . انزوى هؤلاء في بيوتهم منتظرين صدور الحكم الإستئنافي. طالت فترة انتظارهم حتى اعتراهم الملل والتخوف . خلال تلك الفترة طرقت أسماعهم إشاعات مقلقة تخص المسار القضائي لملفهم. توجس المحضريون مما أشيع اعتقادا منهم أنه لا دخان بلا نار. تفاقم منسوب تخوفهم وهم يستحضرون المتابعة التي طالت القاضي الذي أنصفهم. أخيرا ، في مستهل شهر الإجازة السنوية للموظفين صدر الحكم الإستئنافي الذي قضى برفض الدعوى شكلا. صدم المحضريون من الحكم ومن تاريخ صدوره. خيمت أجواء من الإستياء والذهول في صفوفهم وفي صفوف أهليهم وذويهم. سالت دموعهم بغزارة ، وانقبضت نفوسهم ، واكفهرت قلوبهم وفاضت أفواههم بالأدعية .في خضم ذلك استحضر المحضريون صور أربع سنوات من المعاناة المريرة التي اكتووا بنارها . استحضروا بموازاة ذلك فصولا مضيئة من مسيرة دراساتهم المديدة . الكثير منهم مازالت تتلألأ في أذهانهم عناوين بعض الدروس والمحاضرات النظرية التي تلقوها في رحاب الجامعات ، من بينها « دولة المؤسسات « ،» استمرارية المرفق العام» ، « التزامات الدولة «. اليوم ، قد لا يعلم رئيس الحكومة ولا من يشاركونه في تدبير الشأن العام ماذا جنت سياستهم على الضحايا المحضريين. وليسألوهم أو يسألوا العارفين بأحوالهم إن كانوا يريدون أن يعلموا. وليس من المبالغة القول أنهم إن علموا بما يكابده أولائك الضحايا اليوم جراء ما حاق بهم من حيف لهالهم الأمر ولاستهوتهم الأحزان . إن أولائك الضحايا ما يزالون يعيشون على إيقاع صدمة يوم فاتح غشت 2014 المشهود ، وهو اليوم الذي تكشفت لهم فيه بجلاء بواطن العلاقة بين السياسة والقضاء. في ذلك اليوم تولد في نفوسهم الإحساس بالانكسار والاستياء والعدمية . إن شريحة من أولائك الضحايا أصبحت اليوم مسكونة بالاكتئاب وانزوت على نفسها بعد أن نفضت يدها من كل شيئ ، بينما انبرت فئة منهم مضطرة للبحث عن بريق أمل يقودها للعمل خارج الوطن . أما الأغلبية الساحقة منهم فقد آلت على نفسها ألا تفرط قيد أنملة في حقها الذي صودر منها بغير وجه حق في عهد حكومة قيل عنها أنها تنهل من مرجعية إسلامية .