بعد أن أماطت اللثام محكمة الاستئناف الإدارية بالرباط يوم فاتح غشت الجاري عن فصل من فصول قضية محضر 20 يوليوز ، وبعد أن امتص المعطلون المحضريون في ثبات ومسؤولية صدمة الحكم الجائر الذي لم يقض بسلب حقهم وإنما قضى بكتمه ،بدأت بعض الإشارات والمواقف المريبة التي واكبت مسار قضيتهم تتراءى أمامهم ، يستحضرونها في حسرة ويقرأون ما وراء سطورها في تدبر وتمعن لتتكشف لهم بعض الخيوط التي كانت حتى الأمس القريب متوارية إلا على محركيها من أصحاب القرار . ولعل تلك المواقف والإشارات شكلت في مجملها مؤشرات دالة على وجود نية مبيتة لتوجيه بوصلة ملف المعطلين المحضريين نحو ما يتماهى مع موقف السيد بنكيران ، لتنتصر بذلك ولو مرحليا إرادة هذا الأخير على انتظارات المحضريين بل وعلى إرادة خصومه السياسيين والحقوقيين .كذلك يتعين في هذا السياق ألا نسقط من الحسبان احتمال أن تكون تلك الإشارات والمواقف قد أرخت بظلال تأثيرها وتوجيهها على المسار القضائي لملف محضر 20 يوليوز . ولعل سرد تلك الإشارات والمواقف في هذه الورقة من خلال النقاط الثمانية الآتية سيكون كفيلا بإبراز صحة وسلامة ما طرحناه : 1 تشبث السيد بنكيران منذ توليه تدبير الشأن العام بالمسار القضائي وإصراره على اعتباره المسلك الوحيد للحسم في قضية معطلي محضر 20 يوليوز, علما أن الوصي على الجهاز القضائي هو مصطفى الرميد وزير العدل والحريات الذي ينتمي إلى حزب العدالة والتنمية ، ولعل موقف هذا الأخير المناهض للتوظيف المباشر معلوم لدى القاصي والداني ، وهو ما يسوغ لنا أن نزعم أن الطرف المدعى عليه في قضية محضر 20 يوليوز كان هو الخصم والحكم في الآن نفسه. 2 المتابعة القضائية التي طالت السيد محمد الهيني وهو أحد قضاة المحكمة الإدارية من قبل المفتشية العامة لوزارة العدل والحريات بعد أن حكم بكل حيادية ونزاهة لصالح معطلي محضر 20 يوليوز ، وهي المتابعة التي رأى فيها العديد من المتتبعين والسياسيين انتقاما من السيد الهيني كما قرأوا فيها رسالة ضمنية حملت في طياتها ما قد يمس باستقلالية القضاء ويؤثرعلى مسار قضية محضر 20 يوليوز على مستوى الجولة الاستئنافية. 3 التصريحات الإعلامية المناهضة للتوظيف المباشر التي أطلقها كل من رئيس الحكومة و وزير العدل والحريات في وقت كانت فيه قضية محضر 20 يوليوز التي محورها التوظيف المباشر معروضة على القضاء ، وهي التصريحات التي رأى فيها جل المهتمين تدخلا غير مباشر في قضية المحضريين ومسا بالفصل 109 من الوثيقة الدستورية الذي ينص على أنه « يمنع كل تدخل في القضايا المعروضة على القضاء» . وغير خاف أن تلك التصريحات قد طرقت مسمع من يعنيهم الأمر لاسيما بعد أن تداولتها مختلف وسائل الإعلام المسموعة والمكتوبة والمرئية . ومن تلك التصريحات الموثقة لدى الأطر المحضرية قول السيد الرميد « أن التوظيف المباشر بالوظيفة العمومية هو الفساد بعينه « وقوله « إذا ذهبت الدولة في اتجاه التوظيف المباشر ستكون جريمة» ومنها كذلك التصريح الشهير الذي كان قد أطلقه السيد بنكيران أمام أعضاء من اللجنة الوطنية لحزب المصباح والذي طالب من خلاله بشكل واضح من المتخصصين في القضاء بمراجعة الحكم الإبتدائي والنظر في أسسه, معربا في ذات السياق أن هذا الشيء ويقصد الحكم الإبتدائي مثير للإنتباه حسب تعبيره. يضاف إلى ذلك، التصريح الذي قال فيه السيد بنكيران و بنبرة العناد والتحدي أنه إذا دخل معطلو محضر 20 يوليوز إلى الوظيفة فسيخرج هو من الحكومة . ولا شك أنه ضمانا لاستقلالية القضاء وتكريسا لأجواء الحيادية ومناخ النزاهة كان يتعين أن ينأى كل من الرميد و بنكيران بنفسيهما عن إطلاق مثل تلك التصريحات التي أعرب وقتها معطلو المحضر عن توجسهم من أن تحمل في طياتها تدخلا في شأن السلطة القضائية, لاسيما وأن قضيتهم كانت رائجة لدى المحكمة الإدارية وقت إطلاق تلك التصريحات . وفي هذا الإطار يصبح من المشروع التساؤل عن الجدوى من اللجوء إلى القضاء من أجل إحقاق حق معطلي المحضر في التوظيف المباشر إذا كان السيد رئيس الحكومة والسيد وزير العدل والحريات الوصي على قطاع العدالة ما فتئا يعربان عن مناهضتهما للتوظيف المباشر وعن اعتزازهما بقضاء الحكومة عليه . نعم ، كان على السيد رئيس الحكومة والسيد وزير العدل والحريات أن يحجما عن الإدلاء بمثل تلك التصريحات تنزيلا لمنطوق الفصل 109 . 4 تسريب خبر استباقي ومفاجئ يوم الجمعة 29 نونبر 2013 عبر جريدة « الخبر « مفاده أن استئنافية الرباط ألغت قانونية محضر 20 يوليوز ، وهو التسريب الذي أثار وقتئذ حفيظة الأطر المحضرية التي تداعت بعد ذلك إلى الرباط للتحري في الأمر فاهتدت إلى أن ذلك التسريب كان عبارة عن بالون اختبار لردة فعلها و محاولة لجس نبضها ،لكنها في الوقت ذاته لم تخف توجسها من دوافع وأبعاد ترويج ذلك التسريب, لأنه بحسب تعبير بعض الأطر المحضرية «لا دخان بلا نار «، ليبقى التساؤل حتى اليوم قائما حول ما إذا كان القرار الإستئنافي جاهزا في ذلك الوقت ينتظر التوقيت المناسب للنطق به . 5 التوقيت المثير للجدل الذي حددته استئنافية الرباط لإصدار قرارها والذي تزامن مع زوال يوم الجمعة 1غشت ، وهو بالمناسبة اليوم الأخير الذي يسبق خروج أغلبية موظفي المحكمة للإجازة السنوية يضاف إلى ذلك منع السلطات للمئات من المعطلين المحضريين من ولوج قاعة المحكمة بالرغم من علانية الجلسة واكتفاء السيد القاضي بقراءة منطوق الحكم بسرعة فائقة دون أن يستطيع رفع ناظريه في وجوه قلة قليلة من الأطر المحضرية التي سمح لها بحضور الجلسة . ولا شك أن لهذا الأمر دلالات واضحة لا تخطئها عيون وأفئدة العاقلين . 6 مطالبة القضاة باستقلالية القضاء . فالكل يعلم أن قضاة من المغرب ما فتئوا يطالبون ومنذ مدة بإصلاح العدالة واستقلالية الجهاز القضائي .ويبدو أن مطلبهم كان مشروعا ولم يكن ليأتي من فراغ ، وله ما يبرره .ولأجل ذلك فلا غرابة أن حظي ذلك المطلب بدعم مختلف مكونات المجتمع ، ولا غرابة كذلك أن صرح السيد المحامي محمد زيان وهو الأعلم بخبايا ما يجري داخل ردهات المحاكم تعليقا عن الحكم الذي صدر يوم فاتح غشت في حق معطلي المحضر قائلا بحسب ما أوردته إحدى الصحف الإلكترونية « هذا الحكم يمثل كارثة بالنسبة لمصداقية القضاء الذي للأسف في المغرب لا مصداقية له ... لقد كنت على خطأ عندما أقنعت المعطلين باللجوء إلى القضاء « . 7 الصراع السياسي بين السيد بنكيران وبين خصومه من أحزاب المعارضة وعلى رأسهم الأمين العام لحزب الإستقلال . فمعلوم أن السيد شباط قد دأب على استثمار العديد من لقاءاته وخرجاته الإعلامية لمطالبة السيد بنكيران بتنفيذ مقتضيات محضر 20 يوليوز الذي وقعته حكومة عباس الفاسي ، بينما سعى السيد رئيس الحكومة في مقابل ذلك في عناد وتعنت إلى بذل قصارى جهده من أجل قطع الطريق على توظيف معطلي المحضر حتى يفوت على السيد شباط فرصة الإشادة بإنجاز ما أقدمت عليه الحكومة السابقة بخصوص ملف المحضريين . هكذا أصبح المشمولون بمقتضيات محضر 20 يوليوز ضحايا لصراع وتعنت السيد بنكيران مع خصومه السياسيين . ويبدو أن السيد رئيس الحكومة لن يعدم وسيلة من أجل تكريس تعنته وعناده في هذا المجال حتى انصرام فترة ولايته . 8 لم يفوت السيد بنكيران العديد من المناسبات دون أن يتغنى بالإنجاز العظيم الذي حققته حكومته والمتمثل في القضاء على التوظيف المباشر وفي إخلاء شوارع الرباط من المعطلين المحتجين . ومن أجل الحفاظ على هذا « الإنجاز العظيم « ، حرص على سلك كل الطرق المتاحة وكل السبل الممكنة من أجل وضع حد للتوظيف المباشر للأطر المعطلة ، فكان أن أوصد باب الحوار بإحكام مع المعطلين حاملي الشهادات العليا كما اتخذ من معطلي المحضر قرابين وأكباش فداء للقطع مع التوظيف المباشر, حيث أنه كان يخشى من أن يفضي توظيفهم ولو عبر حكم قضائي إلى مطالبة باقي الفئات المعطلة المحتجة بالرباط بحقها في التوظيف المباشر. ويبدو أنه قد غاب عن ذهن السيد بنكيران ومن يدور في فلكه أن المطلب الأساس الذي تختزله قضية محضر 20 يوليوز ليس هو التوظيف المباشر وإنما هو تنفيذ التزام الدولة المغربية احتراما لمبدأ استمرارية المرفق العام . كانت تلك إذن بعض الإشارات والمواقف التي واكبت المسار القضائي لملف معطلي محضر 20 يوليوز ، وهو المسار الذي توج في جولته الإستئنافية كما هو معلوم بصدور قرار مجحف نزل كالصاعقة على المعطلين المحضريين وبردا وسلاما على السيد بنكيران . والآن بعد أن انتهى فصل من فصول التقاضي و قضت استئنافية الرباط برفض الدعوى شكلا في حق أحد عشر إطارا ممن ترافع عنهم المحامي السيد محمد زيان ، تبقى أنظار ضحايا المحضر مشدودة إلى ملفات باقي الأطر التي يترافع عنها محامون آخرون ، كما يبقى عزمهم موطدا لمواصلة معركتهم المصيرية من أجل إحقاق حقهم المصادر . ومما تجدر الإشارة إليه أن هيئة استئنافية الرباط لم تطعن بحسب بعض المصادر في قانونية المحضر وإنما اكتفت برفض الدعوى شكلا ، بمعنى أنها أعادت الملف إلى دائرته الأولى بما كرس منطق لا غالب ولا مغلوب. وبذلك يتوقع أن يعود المحضريون بقضهم وقضيضهم إلى شوارع الرباط التي يبدو أنها أضحت الملاذ الأخير لهم لانتزاع حقهم ، لاسيما بعد أن شاع في صفوفهم نبأ عزمهم سحب ملفاتهم من المحكمة احتجاجا على ما وصفوه بالتدخل السافر للطرف المدعي عليه في القضاء ، وهوما يكرس في نظرهم غياب الفصل بين السلط وغياب استقلال القضاء . ولعل هذا يسوغ لنا القول بأن مآل قضية محضر 20 يوليوز أصبح في ظل الوضع الراهن في يد الساسة وليس في يد القضاة . إنها معركة بين طرف مستضعف يملك التزام دولة موقع وممهور بأختامها يخول له حق التوظيف المباشر في أسلاك الوظيفة العمومية ، وبين طرف قوي يسعى جاهدا من أجل نزع ذلك الحق مستغلا سلطاته الواسعة وضاربا عرض الحائط بالتزام دولة . ويبدو أن هذا الطرف قد غاب عن ذهنه أن نزع ذلك الحق المشروع قد يفضي إلى نزع ثقة المتضررين إن لم نقل ثقة المواطنين في التزامات الدولة ومؤسساتها . ولا شك أن نهاية هذه المعركة غير المتكافئة ، بين السيد رئيس الحكومة وضحايا محضر 20 يوليوز ستؤول في النهاية حتما ووفقا لسنة الحياة إلى انتصار الحق وإزهاق الباطل ، مصداقا لقوله تعالى « بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق» ( الأنبياء 18 ) صدق الله العظيم .