الفيلم مستوحى من فلسفة ألبير كامو العبثية ومقولته “الحياة هي الجنون، وأي محاولة للبحث عن منطق للأمور أو عن معنى للأحداث في حياتنا، سواء كان الحب، أم غيره، لا جدوى منه. هذه هي الحقيقة. نحن نفهم الحياة حين نتمرد عليها وعلى قوانينها الاجتماعية وننتحر، فالانتحار هو حرية من أسر الوجود المادي، والطريقة الوحيدة للتعامل مع العالم اللاحرّ هي عبر التحرر من هذا العالم والتمرد عليه بالانتحار”. عالم “الكركند – The Lobster” هو عالم خال من الخيارات، وحرية الاختيار للأفراد عبارة عن وهم. فالطريق رسمت للجميع قبل ولادتهم، يعيشون ويموتون في حلقة دائرية محددة البداية والنهاية. أحداث الفيلم ورموزه تقودنا الى هذا الاستنتاج، والمشاهد يجد نفسه في عالم غريب وسط شخصيات غريبة وعليه فك رموز القصة بعناية تامة. فيلم The Lobster من اخراج يورغوس لانثيموس وإنتاج عام 2015. قصة فيلم The Lobster تدور أحداث فيلم The Lobster في مجتمع متخيل، تسيطر خلاله حكومة مستبدة وتتحكم بزمام الأمور، ويتوجب فيه على كل العزّاب أن يجدوا لأنفسهم شريكًا عاطفيًا. يعيش هؤلاء الأشخاص سويًا في فندق مدة لا تتجاوز 45 يومًا، وإذا فشل الشخص العازب في إيجاد شريك له، سواء كان رجلًا أم امرأة، يتم تحويله الى حيوان، ويُرسل بعيدًا الى الغابات. اقرأ/ي أيضًا: فيلم “احتراق”.. هاروكي موراكامي في رؤية كوريّة البطل ديفيد، رجل أربعيني، مهندس، هجرته زوجته مما اضطره للذهاب إلى الفندق لإيجاد شريكة لحياته، ليتمكن بعدها من إكمال حياته في مدينة المتزوجين. تبدأ أحداث الفيلم لنكتشف القوانين التي تحكم هذا المجتمع المستقبلي المتخيل. يحملنا الفيلم إلى مفارقة بين عالمين لنشاهد قوانين كل جماعة على حدة وكيفية تفاعل الفرد مع هذه القوانين. في الفيلم مجموعتان من البشر، مجموعة المتزوجين الذين يعيشون في المدينة، ومجموعة العزاب الذين يعيشون في الغابة هاربين وقد تمردوا على الناموس الاجتماعي، ولكنهم في الوقت ذاته صنعوا ناموسًا خاصًا بهم. في ظل هذا الجو القاتم يتمكن ديفيد من الهروب من الفندق والالتحاق بمجموعة العزاب، وهناك يقع في الحب رغم كل القوانين الصارمة والمستبدة. يؤدي دور البطل كولن فاريل والبطلة راشيل وايز اللذان يقرران التمرد على مجموعة العزاب والهرب للمرة الثانية، محاولين أن يعيشا الحب الحر المتفلت من كل قوانين إلى حد ما. شخصيات الفيلم حادة جامدة الوجه بلا تعابير كأنها جثث ميتة، او آلات روبوتية يتحكم بها نظام خفي بشكل ساخر. والبطل ديفيد كان الوحيد في شخصيات الفيلم الذي يحمل اسمًا، بينما بقية الشخصيات كانوا بلا أسماء، وكانت الدلالة عليهم تتم عبر الصفة: الخادمة، المغني، الشرطي… إلخ. المغزى أننا نسخ مشابهة. البحث عن شريك؟ يطرح الفيلم فكرة الثنائيات، كل شيء يجب أن يتكون من ثنائيات، وفي الحب يجب أن تبحث عن شريك مناسب لك لتكوين ثنائي مثالي مقبول اجتماعيًا. يمنع وجود أي حالة مفردة، حتى مقاس الحذاء يمنع أن يكون مفردًا أو فيه أي كسور. يمنع وجود شخص متعدد الجنس ويمنع ممارسة الجنس في ثلاثيات، كما يمنع الاستمناء لأنه عملية فردية ولذلك يوضع لكل شخص حزام حول بنطلونه مع قفل حديد. فقط الثنائيات مسموح بها، والحضارة يمثلها قانون الثنائيات وكل ما عدا ذلك حيواني. فالمجتمع يربط العلاقات الإنسانية، خاصة الحب، بوجود صفات مشتركة حتى لو كانت هذه الصفات مصطنعة. إن كنت أعرج عليك بالزواج من امرأة عرجاء، وان كنت تعاني من نزيف في أنفك عليك بالبحث عن امرأة لديها ذات الصفة، أو أي صفة واحدة مشتركة بينكما من أجل النجاح في الاختبار وبناء عائلة وإنجاب طفل، وإذا فشلت سوف يتم تحويلك الى حيوان. تمنع السعادة خارج الإطار الاجتماعي المحدد والمعايير الاجتماعية تفرض صيغًا ضاغطة على الفرد، ولن يصدق أحد أنك رجل سعيد خارج هذا الناموس، فإما أن تعيش وفق الناموس الاجتماعي وإما أن تموت كحيوان. وفق هذه القوانين يدار عالم المتزوجين. اقرأ/ي أيضًا: فيلم “Gun City”… كيف تنشأ الحرب الأهلية؟ التلقين الاجتماعي داخل الفندق يأخذ منحى كوميديًا عبثيًا بامتياز، فهناك يتم تدريس الحضور ماهية الفرق بين العيش وحيدين وبين العيش في ثنائيات. إن كنت تأكل بمفردك وعلق الأكل في بلعومك فلن ينقذك أحد وتموت، بينما إن كنت تأكل مع شريكة لك وحدث أن علق الأكل في بلعومك فسوف تقوم شريكتك بالضرب على ظهرك وإنقاذك. ويتم تصوير سعادة الأزواج في عالم المتزوجين مقابل تعاسة الأفراد في عالم العزّاب. العازبون المتمردون أما مجموعات العزّاب في الغابة فيحفرون قبورهم بأيديهم، للدلالة على أن كل شيء في العالم متبدل، والثابت الوحيد هو الموت. العيش بفردانية حتى الرمق الأخير ويتوجب عليك أن تحفر قبرك بيدك لأن أحدًا لن يشاركك الحياة أو الممات. والمفارقة أن القوانين في هذه المجموعة تتمحور حول عدم إمكانية الحصول على شريك وإجبارية العيش وحيدًا، الرقص وحيدًا. المشاهد يتفاجئ حين يرى الجميع يرقصون منفردين معانقين الهواء وتبدأ التساؤلات بالإلحاح على المشاهد لفهم طبيعة العبث الذي يجري. لتحقيق ذلك التابو، أي المنع، يطلب من الأفراد عدم السماح لخيالهم بالسيطرة عليهم، لأن الخيال سيقود حتمًا إلى خرق القانون. يجب التفكير في تبجيل العفة والموت وحيدًا وفقط. حلقة متشائمة وتناقض ساخر بين المجموعتين. وينتهي الأمر بالبطل ديفيد في سجن كما كان في المجتمع الأول في الفندق، فمجموعة العزّاب من أجل مناهضة قوانين الزواج وضعت لنفسها قوانين، وصارت أقسى من قوانين المجموعة التي ثارت عليها. وهكذا تشكّل كل مجموعة قطعانها. المجتمع دكتاتور يطرح الفيلم كيف أننا معلقون ضمن أنظمة صارمة ونسعى لأن نتناسب مع القيم الجماعية، ويشعر المشاهد برغبة في أن تستمر الأحداث وأن لا تنتهي، وأن تستمر الحكاية الى ما لا نهاية في طرحها للسخافات الاجتماعية. ففي الحياة يقوم الناس بأفعال بشكل اعتيادي ومكرر ليس بداعي الحب والرضى وبحرية، بل لأنها موضوعة من قبل المجتمع سلفًا. يسخر الفيلم من المجتمع من خلال هذه الشخصيات، وكم هي غبية القواعد الاجتماعية، وكيف أن العديد من مشاكلنا يتم التغاضي عنها فقط لأن لدينا أطفالًا، أو لأننا تربينا وفق المنظومة السائدة التي لا حول لنا فيها ولا قوة لتغييرها. فيستمرالناس في العيش دون حب أو تفاهم وانسجام مع الشريك فقط، لأن المجتمع يفرض قيم التضحية في سبيل تربية الأطفال، مُهملًا ومُتَناسيًا حق الفرد في الحياة والسعادة والاختيار بحرية. اقرأ/ي أيضًا: فيلم “حرب خاصة”.. عين واحدة محدّقة في بشاعة الحرب مجتمع عالم الكركند يجعل أفراده مخدرين وعليهم دفع ضريبة مستمرة وإلا فمصيرهم الهلاك. عليهم في كل يوم النزول إلى الغابات واصطياد وقتل الأشخاص من مجموعة العزّاب ويتم مكافآتهم بنقاط عن كل فريسة يتمكنون من اصطيادها، والنقاط عبارة عن تجديد فترة الإقامة داخل الفندق. وهكذا في دوامة لا تنتهي، لكي تعيش عليك أن تعطي شيئًا للجماعة، وهكذا يتحول الفرد في هذا المجتمع إلى سلعة، والسلع غير المفيدة مصيرها الرمي أو القتل أو التحول إلى حيوان ما. يهدف الفيلم إلى تعرية النفاق الاجتماعي، ومفاهيم مثل “الإنسانية المطلقة” التي يتغنى بها البعض، إذ يضعنا أمام خيارات صعبة، ويتجلى ذلك في مشهد صاحبة الفندق وزوجها حين قام المتمردون العزّاب باقتحام غرفتهما والطلب من أحدهما قتل شريكه وإلا ستتم تصفيته. يختار الزوج في البداية تصفية زوجته لكنه يفشل، ومن ثم تختار الزوجة إطلاق النار على زوجها وقتله وإنقاذ نفسها، بالرغم من أن الفيلم منذ بدايته يصور لنا العلاقة العاطفية المنسجمة بين هذين الزوجين، لكن سرعان ما يتبخر الحب حين تدق ساعة التضحية بالنفس. حنة آرنت وصفت قوة المجتمع بقولها “مجتمع طاغ بدون طاغية”، مجرد “سيستم” للسيطرة على عقولنا وبيروقراطية عادات وسلوكيات متبعة مجبورين بالالتزام بها يتعلمها الفرد منذ صغره، والخوف من نبذ الجماعة هو المحفز الدائم. في مجتمع مثل هذا، وتحت سطوة مثل هذه، لا يمكن للحب الحر غير المتقيد بحدود وقوانين أن يحيا، فالمغزى من الحب ليس الذوبان في الشريك، بل وجود شخصين مختلفين يتمكنان من العيش سويًا مع اختلافاتهما، ويتقبلان صفاتهما كما هي، حتى لو كان ذلك صعبًا. أين المفر؟ لكن حتى البطل ديفيد بالرغم من تمرده، لم يستطع التخلص نهائيًا من فكرة الثنائيات في الحب، ففي المشهد الأخير ترك حبيبته العمياء جالسة في المطعم، ودخل الى الحمام ليعمي نفسه بسكين كي يسمح لهما بالبقاء سويًا. الخيارات محدودة فأين سيلجأ الفرد عليه دفع الضريبة للجماعة. إذًا، يجب تحقيق الشرط الاجتماعي من أجل تشكيل ثنائي والفوز في الحب. تصرف البطل في نهاية الفيلم هو تصرف إنسان مستلب الحرية كئيب قلق. فهل يضحي ديفيد بعينيه لأجل حبيبته؟ أم يضحي بحبيبته ويبقى مبصرًا؟! يقولون الحب أعمى! الفيلم يناقض ويسخف هذه المقولة. الأنا فوق كل اعتبار لكنها مسجونة. هكذا يعيش الناس في مجتمع الكركند غير المتسامح والدكتاتوري. تردد ديفيد كثيرًا، وتركت النهاية مفتوحة للمشاهد ليقرر التصرف الأخير بدلًا من ديفيد، مع أن الرموز الإخراجية في آخر لقطة من الفيلم توحي بأنه قرر التحول إلى حيوان الكركند، حيث تظهر أمامنا شاشة سوداء ونسمع صوت ارتطام الأمواج، وكأن ديفيد تخلص من السيستم عبر التمرد والانتحار والتحول الى كركند. إنه فيلم كوميديا هزلية، يترك المشاهد يفكر ويعيد التفكير مرارًا.