1. شعر الأفكار: في لقاء ثقافي بالبيضاء، نُظِّم لتقديم أحد الدواوين الشعرية الصادرة، استمعت إلى الشاعر عبد القادر وساط، وهو يعرض ملاحظات نقدية بعناية كبيرة. وقد أوغلت تفاصيل ذلك اللقاء في التاريخ، ظلت تُراوح في ذهني إشارة قوية بدلالتها، في سياق الاستشهاد بالشاعر الفرنسي ستيفان ملارميه: الشعر لا يُكتب بالأفكار. ما من شك في أن استحضار «وساط» لملارميه، بحكم وضوح الاستنتاج النقدي السابق، يثير بعضا من «أسئلة» الشعر الأكثر استشكالا. ذلك الاستنتاج اختمر في وعيي، وأنا في بداية انخراطي الشعري، إلى أن أخذت أبلور تصوري للشعر المغربي، من منطلق كونه شعرا «تجريديا»، يقوم على «الأفكار» أو قريبا من معناها (الأفكار الفقهية، الأفكار الفلسفية، الأفكار الإيديولوجية، إلخ). ويسوغ لي، ربطا للحاضر بالماضي، استحضار الأصمعي في ما ورد في فحولته « ما هو بشاعر ولكنه عاقل»، في ملاحظة لحسان بن ثابت وقد استُنشِد شعرا لعمرو بن العاص. أما حديث الجاحظ، بخصوص «المعاني المطروحة في الطريق»، فغير بعيد عن سياق ما نود الخوض فيه. ما هي حدود الشعر وحدود العقل فيه؟ على أي أساس، يمكن تعيين ما هو شعر مما هو عقل/ أو فكر؟ لنظل مُرابطين عند «الفكرة» لا نتجاوزها: ما هي الفكرة في حد ذاتها؟ هل هي ما يُعقل/ يُفهم/ يُستنتج بالعقل دون غيره؟ هل هي المدلول باصطلاح سوسيري؟ هل هي المدلول/ المعنى التواصلي باصطلاح لساني وظيفي؟ ما هي حدود الفكرة من الناحية اللغوية الكمية؟ هل تحتمل العبارات المجازية وجود أفكار عقلية، مثلما تحتملها العبارات المفاهيمية والمقولية (الفلسفية والمنطقية مثلا)؟ هل اللغة هي المجال الأثير للتجريد الذهني: إنتاج الأفكار وتداولها؟ من المؤكد أن طرح مثل هذه الأسئلة، وأخرى لم يتسع لها المجال، يفتح أمامنا أبوابا لا قِبَل لنا بها من العلوم والمعارف: اللسانيات، المنطق، فلسفة اللغة ، السيميائيات، إلخ. ونحن نتفق مع ما للعقل من سلطة على الأفكار (إنتاجا وتلقيا)، بالارتكاز على الصيغ المقولاتية والرياضية وغيرها، لا أستطيع أن أقتنع بخلو شعر زهير وطرفة والمتنبي من أفكار، في صور حِكَمية ومَثَلية تخاطب العقل بانسجامها المنطقي. متى نظم المتنبي العظيم بيتا شعريا، حيث عقله لم يكن منشغلا بصياغة فكرة؟ إذا استثنينا المفاهيم والمقولات، التي تتميز بالكثافة التجريدية، يمكن للشعر أن يجد، بين ظهرانيه، مكانا للأفكار: العظيمة والصغيرة، الجماعية الشخصية، الجمالية والإيديولوجية. شعر الفلاسفة والمتصوفة والفقهاء والخطباء، ما هو إلا الجزء الظاهر لما قد نسميه شعر الأفكار (الشعر الفكري). وبالموازاة مع النصوص، التي يبلغ فيها اشتغال الفكر حدوده القصوى، فإن لا «شيء» يحول دون تصور ذات الاشتغال في نصوص أخرى. بالنسبة للنصوص المسماة سوريالية، يمكن التحفظ بشأن مقاربتها للفكري، نظرا لوقوعها في الدرجة الصفر من التواصل. 2. شرط عدم نسف خطوط التواصل: حتى بأقصى درجة الشطط في الخيال، لا نجد نصوص «طبول من حجر» إلا محتملة إمكانات هائلة من التواصل. فبعيدا عن كل «مجانية» سوريالية متطرفة، تتقدم باتجاهنا النصوص وفق صور «فكرية» متلاحقة. دائما، هناك تلك الفكرة المركزية التي تربط بين مختلف مفاصل النص وفقراته. ولعل هذا ما جرت به المنهجية في التعليم المدرسي، حين يُختبَر فهم المتعلم للنص، بقدرته على اختزال المجموع في «فكرة عامة». القاعدة التي تحكم علاقتنا بالنص (الشعري)، أن هناك فكرة يستبطنها ضمن ثناياه. حتى وإن كان الشاعر يورد الصورة تلو الصورة، من أجل استدامة لحظات التخييل لدى المتلقي، فإن الشاعر يباغتنا باشتراطه التالي: سأهجر الشعر إلى الأبدْ إن لم ألبِّ الرغبة العنيدة أية رغبة عنيدة هاته؟ بعد ثلاثة أسطر مباشرة، يفضح الشاعر النص بكامله: إن لم أهب للكلمات المتعبهْ دلالة جديده هل كان على الشاعر الإحجام عن قوله الأخير، الذي يحمل ضمنه فكرة مجردة: تعبئة الكلمات القديمة بالمعاني/ الدلالات الجديدة. أقصى درجات التجريد، أن يحصل المعنى على مستوى اللغة، لا يتعداها إلى غيرها. ومثلما فضحت تلك العبارة النص، الذي لم يخل من صور في غاية من التكثيف، فضحت الشاعر هو الآخر: مذهبه الشعري القائم على عدم نسف خطوط التواصل. الشاعر يتواصل معنا عبر صور، نستطيع ترجمتها إلى معان ودلالات، مثلما نستطيع تقييمها بحجم اتساقها وانسجامها وتماسكها. وهكذا، ظلت الفكرة تنمو وتتوسع، عبر أكثر من صورة، مثل: -أن أجعل القصيدهْ بيضاء كالزبدْ سوداء كالمكيدهْ -أن أجعل الكلامْ يرفُّ في الظلامْ كما يرفُّ الزهر في الحديقهْ لولا عبارته السالفة، المُتمحوِرة حول فكرة عامة، ما كنا إلا «أن نضرب أخماسا في أسداس»، ونحن نقارب الصور دلاليا. ألم يكن من شأن تلك الصور (بغير العبارة المنطوية على الفكرة) تعتيم المعنى، فيما هي تساق لإضاءته ظاهريا؟. لنتصور أنفسنا بإزاء نص من هذا القبيل، يخلو من فكرة «الكلمات المتعبة والدلالة الجديدة». من المؤكد أننا سنكون في مواجهة نص سخي بصوره، ما يجعلنا نجهد في قراءته، قبل الوصول إلى فكرته، أو ما يقاربها في المعنى.. وهل يكون ذلك ضروريا للقراءة والتذوق على حد سواء.. ما همّ.. 3. الشعر ودرجة الصفر في البلاغة: يبدو نص «كما يرفّ الزّهر» استثنائيا، بحكم غنائيته اللافتة بصورها (التشبيهية). يمكن الاكتفاء بتلك الصور، للانشغال بالحديث عن شعرية النص، مثلما ينشغل أي ناقد- بلاغي (مدرسي). النص يؤول، في هذه الحالة، إلى مجرد صور جزئية، كأن الأمر يتعلق ب «جزر معزولة». ما إن يتمّ ملاحظة صورة بلاغية، هنا أو هناك، حتى ينطلق الشروع في قراءة النص بحسبها. إذا استثنينا الصور السالفة، نكاد لا نعثر على أي سخاء صُوَري من قبيله. يمكن الحديث عن «الدرجة الصفر في البلاغة» في معظم نصوص الديوان. إمعانا منه في تخييب «أفق انتظار» الناقد المدرسي «الكسول»، الشاعر يجرد الأخير من عناصر شعريته «التقليدية»: الصور المجازية. بتعبير آخر، تبدو النصوص «مغسولة» من كثافتها البلاغية المعهودة. ولذلك، يضعنا الشاعر، بشكل مباشر، في مواجهة تحدي هذه النصوص: التماس شعريتها في غير ما تعودنا المبادرة منه. نص»هاتف»، يشكل نموذجا ساطعا لما نقصده بالنصوص «المغسولة». لمجابهة سؤال «الشعرية»، ينبغي الانقذاف خارج إطار القراءة البلاغية التقليدية. لكن، هل تنحصر «الشعرية» في ما هو بلاغي/ دلالي فحسب؟. في البداية، تجدر الإشارة إلى أن لا «وصفة سحرية»، يمكن اعتمادها لحصر مواطن الدهشة والجمال في أي نص. ومع ذلك، حسبنا الاعتداد بما تمّ تكريسه، من خلال المؤسسات الأدبية والثقافية، في سعينا إلى قراءة النصوص قراءة «شعرية». وفي هذا الإطار، لا يمكن التغاضي عما تمنحه لنا نصوص من عناصر إيقاعية، ينتظمها الإيقاع التفعيلي المغلق، وفق تشكيلات متنوعة من القوافي الدورية. وبالنسبة لهذا الملمح، نحس، ونحن نقرأ «طبول من حجر»، أننا بصدد نصوص لما ظل يسمى الشعر الحر. إذا انطلقنا من عناصر التقليد والتجديد، سنجد أن البنية الإيقاعية لا تكاد تشذ عما تكرس لدى رواد الشعر الحر، مثل السياب والملائكة والبياتي وعبد الصبور وحجازي. ويمكن إدراج هذه البنية، باستعارة تقريبية من يوري لوتمان، في ما يمكن تسميته جمالية التماهي/ التطابق، أي على النقيض من جمالية الاختلاف/ التعارض. غير ذلك، نلمس وجود سوريالية «شفيفة»، لا تبلغ حد التضحية بالمعنى/ الفكرة. وفي ما أتصور، تقوم السوريالية، في بنائها الدلالي العام، على اكتساح «مشهدية» النصوص برمتها، بحيث لا تفسح المجال لبروز الصور البلاغية في بعدها الجزئي. ولعل هذا ما يمكن ملاحظته عند قراءة نص «مشهد»: منتصف الليلْ… أفتح نافذتي الآنْ فأرى رجلا سكرانْ يلقي القبض على الشرطي الواقفِ قرب الحانْ لكني لا أحتجُّ ولا أسمع من يحتجُّ سوى كلب الجيرانْ هل في النص ما يشي بوجود عبارة استعارية؟ إن كان هناك من حديث عن الاستعارة، فهو لا يتجاوز كونها مفارقة حاصلة، في الواقع، حقيقة وليس مجازا. بدل الشرطي الذي يلقي القبض على السكران، بحكم السلطة المادية التي يمتلكها، نجد «السكران» هو الذي يلقي القبض على الشرطي. باستثناء الانقلاب في الدور، لا نتصور وجود «شيء» مما يخص «شعرية» المقطع، اللهم إلا أمثلة من قبيل: لماذا كان الانقلاب في الدور؟ ما دواعيه ومسوغاته؟ وما هي الرسالة من وراء ذلك؟ على كل حال، المقطع السابق يتضمن عرضا مشهديا دقيقا، بدون إسهاب وبدون اعتبارات بلاغية. غير أن قراءة المقطع الأخير في النص، ستؤكد المنحى الانقلابي في علاقة الشرطي بالسكران. أكثر من ذلك، سيتم «تطبيع» هذا المنحى الانقلابي، بحيث يصير هو المشهد الاعتيادي، بالنظر إلى عدم وجود «من يحتجّ»، بمن فيهم الذات الساردة للمشهد (بل المشاركة فيه ب»تواطئها»). ولولا احتجاج «كلب الجيران»، الذي يعيد المشهد إلى ما قبل الانقلاب، لغدونا بإزاء مسار تطوري من دورتين: الشرطي يلقي القبض على السكران (الفعل موجود بالقوة، وإن سكت عنه النص). السكران يلقي القبض على الشرطي (موجودة بالفعل، وبوجودها ذاك نشأ الانقلاب في العلاقة/ الدور، وبالتالي نشأ الحديث عن المفارقة). إضافة إلى الدورتين السابقتين، يمكن التنبيه إلى تضمن المقطع الأخير دورة ثالثة: الشرطي يلقي القبض على السكران (موجودة بالفعل، هي الأخرى، ولو أن وجودها «ضئيل»، بالاستناد إلى احتجاج «كلب الجيران» على انقلاب العلاقة بالنسبة لحادثة إلقاء القبض). الذات السارِدة (المُشاركِة أيضا)، إضافة إلى الجيران وعموم من يحضر بالجوار، في خندق التواطؤ/ الصمت إزاء قبض السكران على الشرطي. هذا، في حين يظل «كلب الجيران» في خندق الاحتجاج على ما يحصل للشرطي من قِبَل السكران. وإذ يصطف الكلب إلى جانب الشرطي، يرتسم مسار دلالي معين: السلطة، العنف، الخوف. ما من شك في أن لعبارة «كلب الجيران» قوة دلالية كبرى، بالنظر إلى قدرتها الإيحائية على بناء المفارقة في النص، وبناء المسار الدلالي التطوري من جهة ثانية. هل الانقلاب في العلاقة، بتلك الصورة، يحيل إلى انفتاح مسار دلالي جديد: الحرية، الطمأنينة، الحياة الآمنة، إلخ. في هذا النص، كفَّت الاستعارة عن أن تكون «موضعية»، بحيث لا تتعدى حدود عبارتها (جملتها). وعلى الرغم من صعوبة الحديث عن الاستعارة، في هذا الإطار، إلا أن الخوض في موضوع «الانقلاب» في العلاقة (بما يعنيه ذلك من تحول ونقل واستبدال)، من شأنه أن يعيدنا إلى سياق النقاش حول الاستعارة مُجدَّدا. ماذا كان بإمكان النص، أي خِلْوا من تلك العبارة؟ ليتصور كل واحد منا ذلك، وليلاحظ آثاره الدلالية (البلاغية) على المجموع النصي. 4. سوريالية بلاغية مقابل سوريالية أوتوماتيكية: في مقابل سوريالية «أوتوماتيكية»، يجوز الحديث عن سوريالية بلاغية. وبالاستعانة بجون كوهين، في إحدى ملاحظاته الدالة، يمكن القول إن من شأن العبارة الشعرية أن تنزاح عن المعيار (لغة النثر- لغة العلم) لإعادة بنائه من جديد، وفق دلالة جديدة تتخلق من ركام اللغة المخروقة/ المُدمَّرة. إن الأمر يتعلق بعملية بناء «إيجابية»، مادامت الفكرة/ الرسالة هي الأساس المتين لنهوض النص، في مختلف مستويات بناءاته. مهما شطت الصور والدلالات، بما يجعلها تنحو منحى سورياليا ما، فإن لها جنوحا إلى الاعتدال والاستواء، بحكم الفكرة (المنطقية) التي ما تنفك تنفخ فيها «روحا» من الاتساق والانسجام. مثل السابق، يقوم نص «معرض» على مقطعين مشهديين اثنين. تجرد الرسام من ثيابهِ وانسل مذهولا فصفق الزوارْ وبعد نصف ساعةٍ أطل من لوحته الأولى وكسَّر الإطارْ لكن، بخلاف الأول، تختفي الذات الساردة- المشاركة، بحيث يتقدم، أمام الأنظار، مشهدان بصريان موضوعيان: تجرد الرسام من ثيابه، وانسلاله بين الزوار؛ عودة الرسام، لكن بإطلالة من إحدى لوحاته. في فعل تكسير الإطار، يكون الشاعر قد كسر الحدود المرسومة بين الواقع/ الحقيقة والخيال/ الفن. أما التجرد من الثياب، فهو الفعل الذي يكون قد هيأ الخطوة الثانية. التجرد، أو التعري أمام الزوار، هو المؤشر على ما يمكن تسميته لحظة «التطهر»، استعدادا للالتحاق بالعالم الأكثر «طبيعية»، ومن ثم الاندماج فيه. ينبني المشهدان على مفارقتين، تشكل فيهما الثانية أوج الأولى من ناحية الدلالة (الواقعية؟). وإذ يجوز احتمال وقوع الأولى (التجرد من الثياب أمام الزوار)، تبلغ المفارقة الثانية ذروتها الدلالية، بالاندراج في ما هو «سوريالي». هنا، تكون الحدود بين الواقع والخيال منطمسة، في دلالة على حقيقة الفن/ اللوحة الأكثر التصاقا بالواقع، والأكثر تعبيرا عن الآمال. هناك «شيء» يجعلنا، على الدوام، نقيس المسافة بين المعيار ودرجة خرقه (إن لم توجد، يمكن افتراضها). ولعل ذلك يتأتى من قدرتنا على إعادة الأمور إلى نصابها (الطبيعي- المنطقي)، على أساس من فاعليتنا الذهنية البنائية. ولعل من شأن هذه الفاعلية، في حالات متعددة، أن تقف بنا على أمثلة من «الحشو» التعبيري- الدلالي. في نص «لقطة»، تبدو «المستحيل» عبارة «كمالية»، بحكم ما لها من زيادة على صعيد حجم الدلالة. «المستحيل»، مرتبطة بالسفر، تشي بأن الأخير لم يتحقق، لسبب من الأسباب التي يمكن احتمالها، منها الموت أو الانتحار. على غرار الأفلام البوليسية، تكون لعبارة «المستحيل» قيمة «الأثر» الدال على الجريمة في مسرح وقوعها. إن وجود معنى «الاستحالة»، منذ البداية، يقود النص، في تطوره الدلالي، إلى مآله المتوقع. لكن، لو لم توجد العبارة الوصفية السابقة، ماذا كان سيحدث بالنسبة إلينا، ونحن نتلقى النص، بحثا عن دهشته الشعرية- الجمالية؟ في تصوري، كان بإمكان النص أن يوسع من احتمال دهشته، وبالتالي مفارقته على صعيد تلقينا لها. كيف ذلك؟ عودة إلى النص، يمكن تلخيصه في وجود لحظتين ضديتين: – الأولى في حالة حضور: حقائب السفر، بضع جرائد، تذكرة قطار، صورة سيدة، نظارتان مهشمتان، رائحة التبغ، قنينة. – الثانية في حالة غياب: الشخص المُزمِع على السفر (والذي يكشف النص، في بنائيته، أنه آل إلى أن يصير قتيلا)، بالإضافة إلى شخص آخر، هو في حالة غياب «معضد»، بحكم انعدام ما يمكن أن يكون معادلا موضوعيا له، باستثناء صورة «في إطار». إن الحضور المُكثَّف للشخص ( أي الرجل، ولو عبر استحضار أشياء/ لوازم من حياته الشخصية، وتعديدها وتوصيفها واحدا واحدا)، سرعان ما يتمّ التشكيك في فاعليته، بالنظر إلى عدم تحقق موضوع السفر، بل استحالته استحالة وجودية. إلى ذلك، ينبغي أن نضيف أن الحضور والفاعلية مرتبطان بالسفر وبتحققه. لنتمثل النص بدون «المستحيل» من جديد.. ما هي النتيجة؟ في اللحظة الأولى، سيكون الشخص (القتيل في النهاية) حاضرا حضورا من خلال لوازمه، المحصية إحصاء حصريا، إلى أن نكتشف أن الأمر ينتهي إلى غياب فادح وفاجع في نهاية النص. الأشياء واللوازم، التي كان يُتوقع أن أن تنبئ عن حضور الشخص، تؤول إلى الدلالة على غيابه. وهنا، تكمن المفارقة، وفي سياقها تتحصل الدهشة. إن «المستحيل»، من منطلق أنها عبارة «كمالية»، تنسف كثافة الحضور الموصوف منذ البداية، بما يجعل النص، في حقيقة أمره، ممتدا في دلالته على الغياب. بعبارة موجزة، «المستحيل» تنبئ ب «القتيل»، بل وتشرحه وتبرره. 5. العبارات «الكمالية» وتحصين الفكرة: من المتصور أن تكون هناك «إرادة» من الشاعر، حريصة على وصول المعنى/ الفكرة بالشكل المطلوب. ولذلك، كنا نصطدم، في هذا الموضع أو ذاك، ببعض العبارات «الكمالية»، أي مما تقدم الحديث عنه في المثال السابق. المشاهد المرصودة، ولو أنها ذات عمق بصري في الواقع، إنما تقع في الذهن، بالنظر إلى طبيعة تركيبها وبنائها. الشاعر لا يقيم اعتبارا للملموس، في سياقه المادي المعيش، إلا بقدر ما يساهم في بناء المعنى (الفكرة/ الرسالة) مثلما قلنا حتى الآن. ومن هنا، يمكن التشديد على مثل هذه الملحوظة: الالتفات إلى المادي الملموس (اليومي بعبارة أخرى) لا يأتي مقصودا لذاته، بقدر ما أنه مقصود لغاية بناء المعنى. ولذلك، تبدو النصوص كأنها تقع في لا مكان، على الرغم من زخمها بالأشياء المادية، باعتبارها البصري- المشهدي المُفصَّل. والجدير بالذكر أن معظم النصوص تتقدم إلى القارئ، بصريا، ولو أن الأمر يتجه إلى خدمة البعد الذهني، بالتركيز على محورية الفكرة في نهاية المطاف. في النصوص الأخرى، المسماة «هايكو»، يبلغ التجريد الذهني مداه. في «مطر في طنجة»، ليس هناك ما يجعل المدينة، المخصوصة بالاسم، تنمُّ عن أية خصوصية ملموسة «واقعية». وطبيعي ألا يختل النص، في مشاهده وتطوره الدلالي، لو تمّ تعويض «طنجة» ب «أصيلة» مثلا. من نافذة الفندق في طنجة يبدو لي النادل وهو يطوف على رواد المقهى وأرى الشرطي الواقف في ناصية الشارع، تحت المطر المتساقط، ليت المطر الآن يخف قليلا، قالت رانيا، قد نمضي نشاهد فلم «العازفة الشقراء» أو نمشي قرب الميناءْ. ومثل طنجة، يبدو «شارع المعتمد» مجرد إيهام ب»واقعية» مشاهد، مادام التركيز على الفكرة، تلك المقيمة خلف المشاهد والحالات المعروضة. ففي أكثر المشاهد تشيؤا، لا تلبث الفكرة أن تقيم. هكذا، في نص «حتى المكان»، يسوغ لنا قياس فداحة «الغياب»: ولكن سطح الزجاج علاه الغبارْ وبعض العناكب قد عشَّشت في الإطارْ أعتقد أن في الجمع بين «شعرية بصرية» و»شعرية تجريدية»، تنهض أكبر المفارقات في نصوص الديوان. وفي سياق ذلك، يمكن القول بأن ليست هناك أية نوازع مجانية، تدفع بالعرض البصري إلى «خشبة المسرح». 6. غنائية تصويرية: بناء على الملاحظة الأخيرة، يمكن تطوير القراءة باتجاه استخلاص النتيجة التالية: الأشياء المعروضة بصريا، هي دلائل موضوعية على «ذات»: متوارية تواريا تاما (نموذجها نص «لقطة» الذي مرّ بنا ) أو حاضرة حضورا متوازيا. في الحالة الأخيرة، نجد الذات تتقدم في سياق ما يجاورها ويحيط بها، ومن ثم يضيئها ويُجلِّيها: ومازالت أواني البيت تذكرني بما عانيت وبالزمن الذي ينساب أو في مقطع آخر من نص مختلف: بيننا بضعة أقلام وأكداس خرائط بيننا ساعة حائطْ نفذ الوقت إليها وتجمدْ. لا نستطيع تجاهل البعد الغنائي في نصوص أخرى، المتسم بانسيابية الصوت المفرد، وإن كنا نجد لها توزيعا متنوعا بأكثر من صيغة/ صوت، دون أن يتأتى لها الانزياح عن مبدئها الناظم المومأ إليه: فصم الذات إلى ذاتين: ذات ساردة ومسرودة، أو ذات قائمة وأخرى مُستدرِكة؛ السرد بضمير الغياب؛ السرد بضمير الخطاب. ولعل ما يزكي انسيابية النصوص الغنائية، محدودية امتدادها الطولي، الذي سرعان ما تستوعبه الفكرة – الحالة الواحدة، وبالتالي تحد من تدفقه. ولا ينبغي أن ننسى أن الأسطر المعدودة، في مختلف نصوص الديوان، لا تكاد تستسلم لأي «ثرثرة» لغوية، اللهم إلا ما يفي بوضوح الفكرة ووصولها. ما أشرنا إليه من عبارات «كمالية» في السابق، ليس من شأنه أن ينال من واقعية التكثيف والإيجاز إلا بشكل جد محدود. 7. الصوت المفرد ودلالة «الصمت الضاج»: حين نعود إلى النصوص، بقصد الوقوف على طبيعة الفضاءات التي تجري فيها، ننتهي إلى أن أغلبها وأقواها دلالة، لا يخرج عن إطار الفضاءات المغلقة. في طليعة تلك الفضاءات، تأتي «الحانة» و»البيت» و»الفندق». أما إذا تبينا طبيعة الأزمنة المؤطرة لتلك الأمكنة، خلصنا إلى أن الليل يتقدم ليلقي ب»كلكله» على «الذات»، عبر استيعابها في أجوائه وأحداثه وتفاصيله. وعلى الرغم مما قد يوحي به اجتماع الليل بفضاء الحان، إلا أن الصمت يبقى سيد المكان، وهو صمت ضاج بدلالته الرمزية. حتى وإن اختصت النصوص بطابعها الغنائي، إلا أن ليس للذات ذلك الحضور الصاخب (الخطابي- الإيديولوجي)، الذي تعلن فيه عن نفسها من موقع أعلى. يكاد الصوت الغنائي يكون «مختنقا»، سواء بالنظر إلى الوحدة التي تأسر الذات، أم بالنظر إلى الذاكرة التي تبتلعها في أعماقها ( الأمر يتصل بالحلم في سياقات أخرى). ولو أنها أبطأت حين مرت بقربي وابتسمت لي قليلا لبادرتها بالسلامْ وآنست وحشتها بالكلامْ وانطلقنا معا في الشوارعِ أحكي لها ما ترسب في عتمة الذاكرهْ عن الليل والوحدة الآسرهْ 8. الشعر والأفكار المُصوَّرة: لم يكن استدعاء ملارميه، في سياق الإشارة السابقة، مدخلا عابرا. غير أنه كان بالإمكان «السير» بعكس اتجاه «الأفكار»، مثلما دعا إلى ذلك الشاعر الفرنسي. وأيا كان الاتجاه، فالواقع أننا لا نستطيع (ومعنا القارئ أيضا) تلافي ما نحسه من تأفف إزاء الموضوع، بحكم العجز عن الانفلات من أسر إحدى الثنائيات، التي باتت تقبض على جُماع الدراسات النقدية منذ زمن بعيد: ثنائية الشكل والمضمون. وإذ كان بالمستطاع التركيز على الجانب المادي (المُتمظهِر لغويا)، كان بالمستطاع ابتداع «لغة» أخرى لمقاربة الموضوع أيضا. إن «السقوط» في اجترار «نقاش قديم»، وبالتالي تحمل تبعاته بما يطرحه من مآزق نظرية، يدعو إلى الإحباط لدى العديدين من المُشتغلين بالدراسات النقدية. ما من شك في أن هناك نواة صلبة، بخلفية فلسفية- وجودية، لا نستطيع الفكاك منها، مهما تعددت التوصيفات والمقاربات والتطبيقات. وعلى الرغم من كل تحفظاتنا، لم تكن «أفكار مالارميه»، في طرحها العامّ، بدون فائدة بالنسبة لقراءتنا هاته. بالنظر إلى ما ظل يحتمله «طبول من حجر»، استدعت مقاربة «الأفكار»، ذات الصلة بما قد يسميه البعض مضمونا، الأخذ بعين الاعتبار أمرين: تواصلية الشعر، التي نتبنى خيارها الأدبي- الجمالي، في مواجهة سوريالية مجانية؛ تصويرية الفكرة، التي تستند إلى ثقافة بصرية، في مختلف أبعادها التشكيلية والسينمائية. ظلت «العين» (عين الشاعر) تتحرك في أكثر من فضاء/ مكان. وعلى الرغم من الصمت المُستبد (في الحانه، في البيت، إلخ)، إلا أنه لم يكن صمتا طبيعيا، من منطلق أنه صمت «ضاج» باعتبارين اثنين: كثافة الأشياء المرصودة، التي تمّ تعديدها في أكثر من نص؛ ديناميكية العين اللاقطة، التي تحركت في أكثر من فضاء. الغرق في الوحدة، سواء عبر الإحالة إلى الذاكرة أم عبر استحضار الأشياء (بدل الأشخاص)، يمنح النصوص كثافة ذات خلفية نفسية. ومن هنا، يأتي «الصمت الضاج» في أكثر صوره دلالة على قدر من «الميلونكولية». وفي هذه الخلاصة، يمكن للقراءة أن تنفتح على مقاربات نقدية مغايرة.