-1 عرفتُ "سَعيد مُنْتسِب" شاعرا، لكنني قرأته قاصّا. بين الشّاعر والقاصّ، توضَّحت ملامح كاتب بمزاج خاصّ. لم يكن الشعر مجرّد جِسر عُبور، مثلما حصل مع غير قليل من الأدباء، باتِّجاه محطات أخرى أكثرَ رسوخا. في مثل حالة هؤلاء، ظلّ يَفترِض السياق طرح السؤال التالي: من لم يقُل/ يكتبِ الشّعر في مرحلةٍ ما من عمره؟!. لقد ظل الشعر يقترن بالإنسان وجوديا وأنتربولوجيا. إنما يصير هذا الشعر عنوان فنّ، حين تتِمُّ رعايته بما يليق وحساسيتَه. الشعر أكثر الفنون هشاشة، أي بِقدْر هشاشة الإنسان الذي يُقبل عليه، كتابة وقراءة على حدّ سواء. إن المعرفة بالكاتب، حاصِلة أو مُحصّلة، لَتُشكِّل أحد مفاتيح القراءة. لا يجوز أبدا، والسياق يَستدعي التاريخ، الإشاحة بالوجه عن الأستاذ "كوستاف لانسون"1. وإن لم ينشر صاحبُنا "منتسب" شعرا، هل يدعو ذلك إلى تجاهل الشاعر في الكاتب؟2. إن المعنى الأنتربولوجي للشعر، بات يجعل دم الأخير متفرقا بين القبائل الأدبية. ذلك، هو ما لمسناه لدى كاتبنا، قبل أن ينتهي إلى إصدار ديوان. والحقيقة أنه كان يطيب لي، بخلاف الكثيرين، أن أقرأ الشعر في قصص الكاتب، وحتى في مقالاته الصحافية. الشعر هواءٌ تتنفسه الكِتابة لديه، دمٌ يسري في شرايينها. وبلغة أخرى، إنَّما الشعر حساسية، وهو يتحيّز في القصيدة كلّيا، أو ينحاز إلى القصّة جزئيّا. بين النص الشعري والقصة القصيرة، تاريخ نسب وجينيالوجيا كتابة.3 لابأس من أن يتوارى الأول إلى حين، فيما تكتسح الثانية كُلِّية المشهد4. الحديث عن النَّفَس الشعريّ، بتعبير آخر، يجيب عن سؤال الكتابة لدى صحافينا المتأدِّبّ. ما من شك في أن هذا الجواب يثير حفيظة البعض، ممن هم مأخوذون برسم الحدود النَّوعيَّة بين الآداب. فمن منظورهم أن الشعر "ميكروب"، يُحرص منه على سلامة الجنس الأدبي/ القِصّة هنا5. لا يُغيِّر من قناعتهم هاته شيء، ولو بِحكم انتساب القصة جِينيّا للشعر: انتساب الأخت الشقيقة لأخيها الشقيق. هل اتِّقاء التّجريب، يسير في اتجاه أن تكون للقصة فصيلة دمها الخاصة؟6. بموازاة مع ذلك، هل يكون الحديث عن كُتّاب القصة التجريبيين بمثابة "تورية"، يُقصد منها الإحالة إلى فئة من الشعراء، الذين تبلغ عندهم العناية بلغة القصة شأوا بعيدا؟ -2 على كل حال، هيْهات لمن لم يكتبِ الشعر، تحُّيزا كاملا أو انحيازا جزئيا!. لنترك الموضوع لنظرية الأدب ونقده، ولنصرف عنايتنا إلى "بيت العاصفة"، وهو يقدّم نفسه ديوانا شعريا على وجه الغلاف. هذه المرة، ينتسب الصحافيّ، المُرسّخ قاصّا لدى عموم القرّاء، إلى الشعر عن عمد وسبق إصرار7. مَناصّ العنوان الفرعيّ (paratexte) ، بالإحالة إلى فعل التجنيس، يُفصِح عن نِيّة الكاتب/ الشاعر. والنِِّيَّة، هنا، مفهوم أدبيّ بامتياز، أي منذ أن بات الإمساك بالجوهر الشعري قبضَ ريح8. ومع ذلك، لا ينبغي الكَفّ عن السّعي، مادام ل "الشعريّ" تحيُّزات محلِّية، في هذا المستوى اللغويّ أو ذاك البلاغيّ. بالعودة إلى الديوان، نجد أن المتن كُتب بلغة واحدة، ذات بناء فنّي واحد. يمكن تفسير ذلك، عموما، بمجيء الديوان في صورة نصّ واحد. إذاً، "بيت العاصفة" مجرد نصّ، قُطِّع إلى "أنفاس" مُتلاحقة، يفصل بين كُلِّ منها رقم معين9. والأنفاس لا تتعدّى العشرة، لتكتمل للديوان/ النص ذروتُه. إضافة إلى ذلك، جاء الديوان في هيأة "استعارة" واحدة، توزَّعتْ على أكثر من استعارة نووية. وقبل إماطة اللثام عن وجه الاستعارة، تنبغي الإشارة إلى اشتغال الصورة، فوتوغرافياً وتشكيلياً، ضمن البنية الدلالية- البلاغية للديوان. الصورة مناصّ أيقونيّ، ما فتئت تسير باتجاه الكشف عن دلالة النص لا جِنسه. الصورة، هنا، صور متعددة، تحتل فيها المرأة الوجه الأبرز. وباستثناء صورة الغلاف، فضلا عن الصورة المقابلة للنّفَس الثاني، لا نجد حضورا لشخص إلا مُجسَّدا في امرأة. المرأة تحضر أيقونيا، بينما العاصفة تحضر لغويا. وباكتساح حضورهما مساحات الديوان، تنكشف نوعية العلاقة بين العاصفة والمرأة. عند هذا الحدّ من التحليل، تحتمل القراءة الحديث عن العاصفة، باعتبارها استعارة مُمتدّة لهذه المرأة المتعددة أيقونيا. ولكن، لِنَتَروَّ قليلا : دلالة العنوان الأكبر، بصفته مناصّا رئيسا، تتبأر حول البيت لا العاصفة. أليست الإحالة في ذلك إلى المكان، لا المُقيم فيه؟. ومع ذلك، نُحسّ أنه لا ينبغي حَرْف مسار قراءتنا كُلِّية. فالمكان بمضمون من يَحُلّ به، لا بمساحات غُرفه وفراغاتِه. فالبيت يكون بأفراد أسرته، مثلما أن المسجد بقُصّاد الصلاة فيه. وبما أن البيت مخصوص بالعاصفة، فمِن المُستطاع تصوُّر طبيعة البيت الذي تقيم فيه الرّيح، ويَحُلّ به الزمهرير. العودة إلى المعجم الشعري في الديوان، مفيدة من الناحية الدلالية بشكل خاصّ. ذلك أن العاصفة تتداعى، وفق القراءة المعجمية- الدلالية البسيطة، مع الأمواج، والغبار، والصحراء، والبرق، والأشجار المَيِّتَة.. 10 - كنا نُنصت بكل انتباه حين قَبَّلها برْق خاطف ومضى إلى حال وميضِه11 وماذا بعدُ؟ لا شيء على الإطلاق !!! لنعد أدراجنا إلى المرأة، بعد انحسار السُّبُل إلى العاصفة. وهنا، ليس بإمكاننا غير تسْويغ مسار قراءتنا من مُنطلق آخر. العاصفة تحُلُّ بالبيت، مثلما تحلُّ المرأة بالعاصفة. وفي هذه النقطة بالذّات، لا نرى تناقضا مع ما سبقت الإشارة إليه من أن العاصفة استعارة للمرأة. بتعبير أصحّ، العاصفة اسم حقيقي للمرأة. اكتفاءً بالتداعيات الدلالية العامة، سرعان ما يتبادر أن العاصفة تُفرغ المكان ل "دخول" المرأة العاصِف. في هذه النقطة، نجد أن المرأة تتحيّز بصفاتها وحالاتها. وأكثر من ذلك، نجد مَحَلّ إقامتها لا يخرج عن إطار البيت، المعهود بغرفه وفراشه وأثاثه. في النَّفَس السّادس، بإمكاننا قراءة مثل هذه الأسطر، البعيدة عن فضاء العاصفة وجَوِّها المشحون: - لم نكن نحب يوم الأحد البعض كان يذهب إلى السينما ليختلس النهود والقبلات جرار العسل وآخرون يقصدون الجبل ليضحكوا بأعلى أصواتهم وآخرون يُخرجون الكراسي ويضعونها أمام بيوتهم12 أو نكتفي بقراءة الأسطر التالية: - لمّا فتحت العاصفة الباب كانت في فمها سيجارة وسِتّ ابتسامات وقبل أن تدعُوَنا لشرب القهوة ردّدَت أمامنا أن قلبَها الأزرق ورقةُ يانصيب13 هل يمكن القول إن الواقع يتعلق بامرأة تقمَّصَت العاصفة، بالنظر إلى التداعيات الدلالية التي يسهلُ التقاطها، ومن ثَمَّ تجميعها بسلاسة؟. تَلَمُّسًا لبعض المسارب، نشير إلى وجود "لوحة" لرجل يقف، بموازاة النَّفَس الشعريّ الثاني، في اتِّجاه بيت مُضاء تُحيط به الأشجار.. بيت للعاصفة/ المرأة؟!. إضافة إلى ذلك، هل يمكن الحديث عن ذات/ رجل، في مقابل موضوع/ امرأة؟. إن أضحى الأمر كذلك، فالرجل يقتصر اشتغاله خارج الإطار، بينما يتكثف اشتغال المرأة داخل الإطار. الرجل يكتفي بالمراقبة، بينما المرأة تَنشغََل بالحركة. الرجل يؤول إلى مجرد عين لاقِطة، عين الشاعر في حدود دنيا، إن صحّ التقدير. -3 منذ السطر الأول، تتقدّم "العاصفة" باعتبارها أول كلمة في النَّصّ. هذا الحضور المتقدِّم، سرعان ما يتعزز عبر الإحالة بالضمير( ضمير المؤنث الغائب). بلغة بلاغية مدرسيّة، يمكن تأطير دلالة النص ضمن حدود الاستعارة، حيث العاصفة تمثل المستعار منه، بينما المرأة تمثل المستعار له. غير أن عدم قراءة الواقع النصيّ، بالنظر إلى ما يتميز به من تعقُّد وتشعُّب، لا يمكن إلا ان ينطوي على تبسيط مُضلِّل. ذلك أن العاصفة هي التي تهيمن نصيًّا، في حين لا يتم استدعاء المرأة إلا باعتبارها مرْجِعا. أهمية المرأة باعتبارها المرجعيّ، لا تتجسد إلا بما توفره من صفات وأحوال، بها يتم "إكساب" العاصفة بعدا، نسميه "إنسانيا". إن قََبِِلنا التّسليم بهذا الافتراض، لابدّ أن يتعرَّض عنصر ارتكازنا للتدمير، بحيث ينقلب الموضوع إلى "العاصفة"، لا إلى "المرأة". ولكن، ما الذي يجعل النّفْس تطمئن إلى أن الأمر يتعلق بالثانية لا بالأولى: المرأة بدل العاصفة؟!. بالعودة إلى النص مُجدَّدا، يُلاحظ أن حضور العاصفة بالاسم لا يوازي حضور المرأة بالصِّفة. - وحين عادت العاصفةُ إلى سابق عهدها كانت ذراعها مضمّضدة وعلى راسها موجة تنظر إلينا بطرف عينها14 ما من شك في أنّ ذلك الاختلال، يؤدي إلى أن تستوطن المرأةُ مركزَ النص وبؤرتَه. هنا، العاصفة تصير مجرد مجال لاستعارة حالات للمرأة، المُنقلِبة انقلاب العاصفة بِعُنفها وغضبها وتدميرها. بغياب المرأة اسميّا، تنتهز العاصفة الفرصة للانقضاض على النص وعلى دلالته. إنه نوع من الالتفاف الاستعاري، الذي يتم فيه تبادل المواقع بين الحقيقة والخيال. والواقع أن النص يلتفّ على دلالته، من خلال الالتواء عبر طريقين التفافيتين: - الأولى تمثلت في تغييب المرأة، في مقابل "تحضير" العاصفة اسمياًّ. وإن كان للأولى من حضور، فهو لا يتعدى الوجود بالصفة مثلما قلنا سابقا؛ - الثانية تمثلت في تغييب العاصفة جزئيا، في مقابل دفع المرأة للبروز القويّ، ولو عبر الاتكاء على القرائن الحالية والوصفية. -4 بالمقارنة مع الاستعاريّ، يمكن الحديث عن التفاف آخر كنائيّ. ويبدو أن منطلقَه العنوان، بحكم أن الإحالة تستهدف ال "بيت" وليس "العاصفة" رأسا. فالعاصفة، بلغة تركيبية، مضافة إلى البيت. وفي ذلك، ما يجعل مَرْتبة البيت، في إطار الإضافة الموصوفة، أدلّ مما لو تمّ الاقتصار على العاصفة وحدها. وفي إطار الإلماح إلى بعض الفروق البلاغية، يمكن القول بأن "الاستعاري" من طبيعة تشابهية، بينما "الكنائيّ" من طبيعة تجاورية15. هاهنا، يكمن المدخل الأساس إلى شعريّة الدّيوان، حيث الالتفاف/ الانزياح يأخذ مستويين: أحدهما جزئيّ بسيط، وآخر مُمتدّ مُتشعِّب. أما بالنسبة لنوعيّته، فإن الانزياح يتأتّى رصده دلاليا، عبر التبادلات التي تنشأ بين المرأة والعاصفة من جهة، وعبر التجاورات التي تقوم بينهما من جهة أخرى. بالنسبة للتبادلات الاستعارية، يمكن رصد تحرُّك المرأة دلاليا، من خلال صورة العاصفة الرائية، المتأهِّبة، المغامِرة، المُتمنعة، المُدمِّرة. العاصفة، بما قبلها وبما بعدها، مصدر خطر مستطير. فحتى في هدوئها، أي قبل أن يولد الغبار، مدعاة لتَوقُّع الأخطر.. - العاصفة التي رأت كل شيء قبل أن يولد الغبار ستُسَرُّ برؤيتنا نصل باكرا ستُطِلّ من فتحة الباب وستبتسم قليلا ستتركنا نطرق طرْقا خفيفا وستُقنِع نفسها بأنها طلقة مُسدَّدة بإتقان إلى كتِف الأرض16 ونحن نتمثَّل المرأة عاصفة، ينبغي تحديد الفضاء الذي تتأطر فيه مختلف التبادلات الاستعارية. هل من فضاء آخر، غير البيت الذي تَمّت الإحالة إليه سابقا، وفي العنوان بالتّحديد؟ من الملاحظ أن "البيت" لا يكتسب هويته الدلالية، إلا في إطار إدراك العلاقة التي تجمعُه بكل من العاصفة والمرأة. وفي ما يخُصّ العلاقة بالعاصفة، فإن البيت يصير مُرادفا للرِّيح التي تسكُنه، والتي لا يقف في وجهها حاجز. إن بيتا من هذا النوع، لا يمكن الاستعانة عليه إلا ب "تربية الأجنحة"، على حدّ ما نقرؤه في الأسطر التالية: - قالت إنها كانت تربِّي الأجنحة في ملابسها وتتغذى بصياح النيازك وأنها قبل أن تُسيء الظّنّ بقلبها كانت تُذيب أعمدة المِلح وتخلِطُها بفُتات النّجوم وكانت كل الطيور تحُطّ على يدها وأنها ظلت تُغرِّد هكذا بلا حرَج17 أما في ما يخصّ العلاقة بالمرأة، فإن البيت يتأثت بما هو معهود في مثل هذا الفضاء. وحين يتمّ تخطّي البيْت، فإن ذلك لا يذهب بعيدا عن السّينما مثلا. وفي النَّفَس السّادس، تطالعُنا أسطر في غاية من الإحالة، إلى ما يمكن تسميته "اليوميّ"، من قبيل: - لم نكن نُحب يومَ الأحَد البعض كان يذهب إلى السِّينما ليختلس النُّهود والقبلات وجِرار العسل وآخرون يقصدون الجبَل ليضحكوا بأعلى أصواتهم وآخرون يُخرِجون الكراسي ويضعونها أمام بُيوتهم18 ما من شك في أن المُراوحة بين الداخل والخارج، هي مراوحة بين المرأة والعاصفة بالأساس. ويمكن قراءة هذه المراوحة من منطلقات بلاغية، حيث يؤول البيت إلى بؤرة للتبادلات الجوارية، بينما يؤول فضاء الريح إلى بؤرة للتبادلات التشابهية. فحين يتم الانطلاق بالمرأة إلى العاصفة، يكون المجال مفتوحا لرصد مختلف الحالات والصفات المشتركة. أما حين تتم إحالة العاصفة إلى المرأة، فإن المجال سرعان ما ينفتح لرصد أسرار المكان، عبر تسليط الضوء على أشيائه ومُكوّناته. -5 في بداية قراءتنا، ألمحنا إلى أن الديوان كُتب بلغة واحدة. ويبدو أن هناك أكثر من اعتبار لذلك، بالنظر إلى أن "بيت العاصفة" جاء في صورة نص، لا يتعدى عشرة "أنفاس"، محدود كلٌّ منها في عدد أسطر19. ومع ذلك، لنُعدِّل من إطلاقية حكمنا الآن، على أمل أن يصير أكثر تعبيرا عن واقع النّصّ. يمكن للقراءة النسبية، من هذه الناحية، الانتباه إلى "النَّفَس السادس" الذي يجنح لأن يكون في مستوى لغة الحكاية اليوميّة. المقطع المُسجَّل، أعلاه، خير مُعبِّر عن طبيعة اللغة المُوظَّفة. ولتتضحَ هذه اللغة، يمكن الإحالة إلى غيرها، أي التي على النقيض منها... على سبيل المُقابلة: - كنا ننصت بكل انتباه حين قبلها برق خاطف ومضى إلى حال وميضه أخبرنا أن الأريكة كانت قبل ان يبرد الحجر في رداء الفلاسفة المخمورين ثلاث عنزات وشجرة واحدة وأن السجاد كان خروفا يتدبر جميع أموره بالثغاء وأن المرآة التي انتهى بها المطاف إلى جدار بارد كانت نارا ازدحمت بحزن يفوق طاقتها فهامت في الصحراء ولم تعد أدراجها وأن الساعة الجدارية التي تقدم بها العمر لم تكن هكذا تتصبب عرقا وتصرخ كلما التوى كاحلها20 من الملاحظ أن اللغة المنتقاة، هي أقرب إلى لغة الرمزيِّين، في طريقة توليفها وبنائها21. ولأنها كذلك، يسهُل إدراك الارتباك الدلالي، الناتج عن تباعد حدود المفارقة بين الأدلة ومدلولاتها. ففي مُقابل لغة الحديث اليوميّ، ها هنا تنهض لغة مُفارقة، تكاد تُجهز على مختلف "أنفاس" الديوان. ومن الطبيعي أن تتعرض الاستعارة، في تصنيفاتها المدرسية، لعمليات تخريب شعرية مُمنهجة. ما الذي يتبقى من هذه الاستعارة في نهاية المطاف؟ أليس مجرد ذكرى عن امرأة/ عاصفة، في ظل وجود لغة تعصف بالمعنى من أساسه؟!. غير أن سيادة اللغة الرمزية، لا يندر أن تنبثق من بين ثناياها لغة "مادية"، متهللة بصور حيّة، مُباشرة وملموسة. ومن تلك الصُّور، ما تضمَّنته هذه الأسطر: - وشعَرْنا أننا نحلبُ الموت من ضرع حافّة وشعرنا أن السماء وحش أعمى يأكل الأرض22 أو تضمنته الأسطر التالية، من نفس "النَّفَس": - وصارت تهتزُّ مثل مرْكب صيْد ونَزَل من كتِفيْها نهْر وعلى الفور طلبت منّا أن نصطاد ما نُريد23 على أساس انبثاق لغة اليوميّ، من لغة الحُلم (الرمزية)، تنهض شعريّةُ الديوان ودلالتُه. فالصور المُباشرة، الجزئيّة والبسيطة في طبيعة تكوينها، تساهم في افتراض سياقات/ مرجعيات، يتمُّ بحسبِها بناء سيناريوهات لعمليات التفسير والتأويل. وفي حين تتميز الصور البلاغية بجزئيتها، تتميز "الرمزية" بطابعها الممتدّ، الذي لا يتردد في اكتساح مختلف "أنفاس" النص/ الديوان. -6 يمنح "بيت العاصفة" إمكانات هائلة لنظر القارئ وخياله. ومما لا ينبغي تفويت التنبيه إليه، ونحن نكتفي بالوقوف عند المدخل البلاغي- الدلالي، أن الديوان غنيٌّ بعناصر غنائية لافتة.24 وإذ نكتفي بالوقوف عند ما سُطِّر، نريد الإشارة إلى تحكُّم العنوان، وما ظل يطرحه من أسئلة، في مجرى طبيعة هذه القراءة. ومن هنا، أضحى الموضوع اقتراح سيناريوهات، في مسعى لفك "معضلة" ما يحتمله ذلك العنوان من احتمالات دلالية.. أيّ بيْت؟ أيّ عاصفة؟ وأي بيت للعاصفة؟ ما نريده بهذا القول، هو تأكيد حاجتنا لقراءة اللغة السّردية في الديوان، إلى جانب قراءة اللغة السينمائية، المتلاحقة بصريّا ومَشْهديّا. إن عودة الكاتب إلى أصله الشعريّ، أثمر باكورة شعرية في غاية من السّمُوّ والجمال. وأعتقد أن عين الشاعر لم تخطئ الكاتبَ يوما، حتّى وهو يمْتهن الصحافة تحريرا وإدارة. غير أنه بإصدار هذا الديوان، يكون "منتسب" قد عاكس مجرى غير قليل من الشعراء، المُتحوِّلين جنسيّا إلى الرواية. وبذلك، استحقّ صاحبنا ميزة الشّاعر، بجدارة لُغته واستحقاق أسْلوبه. بعد ما سَلَف، من حقٍّنا التساؤل: هل استنفذنا معنى النص/ الديوان حتّى الآن؟ يجيب صاحبا "نظرية الأدب"، مُعَبِّريْن عن حدود هذه القراءة، على لسان الواقع: "(...) معنى العمل الفني لا يستنفد، بل لا يتساوى مع، قصد الكاتب منه. كما أن المعنى الكلي للعمل الفني لا يمكن أن يعرف فقط بحدود معناه لدى الكاتب ومعاصؤيه. إنه إلى حد كبير نتيجة عملية تراكم، أي أن معناه يتحدد بتاريخ نقده على يدي من القراء في العديد من العصور".25 على سبيل الخَتْم، أو ليس الشاعر ينْفُخ من نفْسه؟! هوامش 1 - لا يمكن إلغاء معرفتنا الشخصية بالشاعر، خصوصا بالنسبة للعناصر المتعلقة بإضاءة بعض جوانب الموضوع. فقط، تنظيم تلك المعرفة منهجيا، يبقى التحدي العلمي في الدراسة. غير أن اتجاهنا للمقاربة الدلالية، في مستواها البلاغي، يجعل قراءتنا تنتظم في إطار القراءات النصية بالتحديد. 2 - في نظرنا، يمكن رصد "الشاعر" في "منتسب" من خلال مستويين: مستوى القوة، ومستوى الفعل. بالنسبة للقوة، فإن "الشعري"، لديه، ظل يتمظهر في ما استمر ينتجه من مجموعات قصصية، ومقالات صحفية. أما بالنسبة لمستوى الفعل، فإن انطلاقته تبدأ مع خروج سعيد منتسب، حديثا، بديوان "بيت العاصفة". 3 - بالنسبة للجنسين الأدبيين معا، أي النص الشعري والقصة القصيرة، فإنهما يتميزان بحضور الوظيفة الشعرية في كليهما، بحسب مفهوم "رومان جاكبسون"(Roman Jakobson). غير أن ما يجعل الفرق بينهما يتضح، هو مدى هيمنة هذه الوظيفة الشعرية في هذا الجنس أو ذاك. وأكثر اتساعا من ذلك، مثلما نقرأ في مدخل "B. Tritsman"، في فصل الشعرية، فإن ذات "الوظيفة الشعرية يمكن حضورها في في أي نمط من الإرساليات. فبقدر ما تحضر هذه الوظيفة في النصوص الشعرية، تحضر في الشعارات/ الإعلانات الإشهارية". المدخل موجود في الكتاب المشترك التالي: Méthodes Du Texte , Introduction aux études littéraires, dirigé par Maurice Delcroix et Ferdinand Hallyn, Duculot, Paris, 1987, p. 19. 4 - أصدر سعيد منتسب، حتى الآن، مجموعتين قصصيتين: ليلة تشبه رسوم الأطفال (2000)، وجزيرة زرقاء (2003). 5 - في نظر "كِبِدي فاركا"، يبدو غير قليل من النصوص السردية أكثر ارتباطا بالشعر من النصوص الشعرية نفسها، منها بعض محكيات "ألان روب- غرييه". والباحث يقف، وهو يعالج مفهوم الشعرية، عند هذه الملاحظة في كتابه الشهير Varga(A.kibédi), Les constantes du poème, analyse du langage poètique, collection dirigée par Henri Hierche, éd A. ET Picard ? PARIS, 1977, P.19. 6 - المسألة لها علاقة بالقارئ، باعتبار أن تحيينه القرائي للنصوص، هو الذي يجعلها تأخذ هذا المنحى "الجنسي" أو ذاك. وفي عبارة دالة ل "كبدي فاركا"، أيضا، ف :"القراءة التحيينية للقارئ تقرب ما يستبعده التعريف (القاعدة)"، المرجع نفسه، الصفحة نفسها. 7 - منتسب (سعيد)، بيت العاصفة، مطبعة ليمورية، الطبعة الأولى، الدارالبيضاء، 2014. 8 - في تعريفه للشعر، يدرج القيرواني(ابن رشيق) مفهوم "النية"، من خلال قوله "والشعر يقوم بعد النية من أربعة اشياء: اللفظ، والوزن، والمعنى، والقافية، فهذا هو حد الشعر؛ لأن من الكلام موزونا مقفى وليس بشعر؛ لعدم القصد والنية"، العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده"، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، الجزء الأول، دار الرشاد الحديثة، الدارالبيضاء، بدون تاريخ، ص، ص. 119- 120. 9 - الأرقام تعوض العناوين الفرعية، وهو استثمار بصري حديث يناسب النصوص غير الطويلة نسبيا. وللإشارة، فإن هذه الأرقام/ العناوين تتماشى، كثيرا، مع النصوص ذات البناء المقطعي، حيث النص الكليّ ينمو عبر مقاطع. 10 - بالنسبة ل "غاستون باشلار"، فإن شعرية العاصفة تبدو، في العمق، شِعريّةٍ للغضب. يمكن الاطلاع على الإشارة في كتاب: Bachelard(), L?air et les songes, Essai sur l?imagination du mouvement, Librairie, Paris, 1990, p.27 . 11 - بيت العاصفة، ص. 12. 12 - نفسه، ص. 23. 13 - نفسه، ص. 11. 14 - نفسه، ص. 31. 15 - الملاحظ أننا لا ناخذ من تمييز جاكيسون(رومان)، بين المشابهة والمجاورة إلا إطاره العام. وبالمناسبة، فقد تناول الشكلاني المذكور الموضوع، في دراسته ل "الحبسة" (aphasie)، مُحددا إياه من منظور لساني في سياق التمييز بين محورين: محور التأليف (المجاز المرسل/ التجاور/ علاقة خارجية) ومحور الاختيار (الاستعارة/ التشابه/ علاقة داخلية). وقد وردت الدراسة المعنية (Deux aspects du langage Et deux types d?aphasies) في كتاب: Jakobson(Roman), Essais de linguistique générale, éd Minuit, Paris, 1963 16 - نفسه، ص. 9. 17 - نفسه، ص. 16. 18 - نفسه، ص. 23. 19 - والأسطر الشعرية تبدو، بدورها، أقل من حيث عدد المفردات، التي تؤلف كل سطر على حدة. الإحساس باللغة، في الديوان، عال جدا. ومن ثم، فإن اللغة توحي أكثر مما تدل، متجاوزة، في كثير من الحالات، الحدود المرعية في أسلوب الاستعارة بوجه خاص(المشابهة التوضيحية). 20 - الديوان، ص. 12. 21 - نجد ما قاله الشاعر "أرشيبالد ماكليش" (Archibald Macleish) ينطبق، كثيرا، على طبيعة اللغة الموظفة في الديوان: " لا ينبغي لقصيدة أن تدل (signifier)، بل أن توجد(exister)". نقلا عن المرجع السابق، (Introduction aux études littéraires)، ص. 17. 22 - الديوان، ص. 28. 23 - نفسه، ص. 29. 24 - يتخذ الديوان من المتكلم الجمعي "نا/ نحن" الضمير المهيمن. غير أن هذا الضمير، في سياق الدلالة على الحالة، ينطوي على إمكانية ترجمته إلى ضمير المتكلم الفردي. وبشكل عام، فقد جرى كثير من التحويل في "غنائية" الديوان، سواء على مستوى الضمير، أو مستوى الزمن، أو مستوى الفعل. ومع ذلك، فإن الكثافة الموسيقية في الديوان، إضافة إلى قصر نفس المقطوعات، في سياق دلالي- رمزيّ قويّ، يجعلان "الانتساب" إلى الغنائي أمرا مقبولا إلى حدّ بعيد. 25 - ويليك (رينيه) و وارين (أوستن)، نظرية الأدب، ترجمة محي الدين صبحي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الثالثة، الدارالبيضاء، 1985، ص، ص, 43- 44. * أستاذ الأدب العربي، كلية الآداب، الجديدة