لا ينتمي الشاعر محمد بنعيسى إلى أولئك الذين يهرولون باتجاه امتلاك مكانة ما عبر تقديم ما يسمونه «دواوين شعرية «، تلك «الدواوين» التي تظهر سريعا مثل فقاعة، ثم لا تلبث أن تنطفئ سريعا. من هنا، لم يكن طبع ديوان «قاع وردة» سوى خطوة موزونة ضمن مسار طويل من البحث المضني، ومن العمل الكثيف في مجال بدأت عناصر الأصالة تضمحل فيه بشكل لافت، وبدأ نقيق الضفادع ينتشر مغطيا على الأصوات الجميلة. لذلك، لم يكن دافع الهواية المتخففة من كثير من مستلزمات النظر هو الفاعل هنا، بل يتعلق الأمر بشحذ طويل لتجربة شعرية أريد لها أن تترسخ عميقا في تربة، وأن تتعهد بالصقل والانتباه، وكأن محمد بنعيسى كان يستحضر رأي الشاعر الأمريكي اللاتيني الكبير أوكتافيو باث بأن الشعر نشاط حياة أكثر منه تمرين تعبير. ويدل هذا أن صاحب التجربة كان يستشعر حجم مسؤولية الكلمة،وما يقتضيه القول الشعري من جدية تبين أن اختيار الكلام أصعب من تأليفه، وأن تفرد الصوت يتطلب صبرا يصدر عن انشغال ثاقب بهموم قول لا يقدم نفسه خاليا من عوارض التمنع والتأني. ولعل ما يزيد هذا الأمر أهمية ووقعا أن يكون هذا التحسب لمكانة القول الشعري وجسامته صادرا عن رجل لا يرى الحس المشترك أية علاقة بادية له بصنعة الثقافة ومجالاتها. ولكن الديوان الصادر يكذب هذا الظن ليس من حيث صدوره فحسب، بل كذلك من حيث ما تتكشف عنه قصائده من رهافة، ومن عتاقة تمثل، ومن تعلق تليد بأسباب الإقدام على قول الشعر «الكلام غير المباح». لقد حرص صاحب الديوان أن يكون ديوانه إضافة في مشهد شعري ما فتئ يتهدده الجفاف والنضوب، وأن يحمل، في الآن نفسه، دليلا على ما يجب أن يحيط القول الشعري» فصيحا كان أم زجلا «من جليل العناية وجميل الرعاية. ولذلك، جاء الديوان مبينا عن اختيارات إبداعية توضح أن الأمر لم يكن يقوم عند الشاعر على هاجس تكوين ديوان وطبعه وإخراجه، بل أكثر من ذلك على إبراز ما ظل يختمر أحاسيس ولوا عج وتخيلات كانت تبحث عما يوافقها من انتقاءات وتركيبات. ومن ثم، لا يقوم النص، عند بنعيسى، على استعراض لغوي أو موسيقي فحسب، بل يتجاوز ذلك إلى البحث في عمق الدلالات الثاوية فيمالا يلقي له الحس الدارج اهتماما، وهو ما يعلن تناقضا جذريا مع أي نزوع نحو استسهال الكتابة أو تكرار المتداول. إننا نلاحظ، في سطور النصوص، استجلابا لأعماق دلالية تمنح التجربة الشعرية خصوصيتها ونكهتها الدفينة المشفوعة بحس يتأسس على رؤية يؤثتها الشاعر بخطاب شعري زجلي بقدر ما يحققه من إمتاع حمالي، بقدر ما يثيره من انتباه رؤيوي لدى القارئ. وهذا ما يبرزه عنوان الديوان الذي يقيم علاقة سرية مع كل نصوص الديوان حيث لايبقى العنوان مشدودا إلى الدلالة التصريحية التي تفيد اسم حي من أحياء المدينة القديمة بمكناس. وفي هذا الصدد، تضيء قراءة الديوان العنوان «قاع وردة» من خلال دلالتين على الأقل، تقترحان نفسيهما دون أن تستنزفا السيرورة الدلالية المنفتحة في كل نص من نصوص الديوان، وفيما بينها كذلك. تتجلى الدلالة الأولى في أن الوردة النضرة، ذات الرائحة الشادية، هي وردة ذات قاع عفن ونثن، هي وردة ممتدة الجذور في تربة آسنة، إنها وردة من فصيلة خضراء الدمن حيث الحسن في المنبت السوء. ونحن نلاحظ في كثير من قصائد الديوان هذه المقابلة التي نجح بنعيسى في تقديمها محتفظا للشعر بكل سناه وبهائه. وتحيل الدلالة الثانية على أن للوردة امتدادا وجذورا تبقيها حية رغم ما يهددها من عوامل الاضمحلال والانقراض، وما يقف لها بمرصاد الانكماش والذبول. إنها الوردة التي لا تثير بنضارتها فحسب، بل كذلك بامتدادها العميق، وبصمودها أمام عوادي الزمن وهجمات التلوث. ورغم ما يبدو بين الدلالتين من تناقض، فإنهما تشيران إلى ما يحمله العنوان من امتلاء دلالي، وما يميزه من انفتاح تؤكده نصوص الديوان التي يتناوبها هذا التنازع بين المسخ والأصالة. ولعل جزء من هذا البحث في أعماق الدلالات يتجلى في المفارقات التي لا تلقي لها بالا العين الجوفاء، ولا الحس المتبلد، وهي التي تظهر، بقوة، في النص الأول بشكل يجمع بين جمال الصورة وتأبيها على التبسيط: إلى رياض عينو فتح يرتاب ف قماطو ويتوهم هول قماط الشباب ... لعطش في بستان مياهو ملفعة تنساب ما اقوات تبرد الكايلة ف ارواحنا احصايد إن هذين المقطعين، إذ يشيان باختيار مدروس للكلمات ولعلاقاتها،يبينان كذلك عما يسكن الدارجة المغربية من غنى دلالي، وتناغم صوتي، بقدر ما يرتبطان بموروث تاريخي تليد، بقدر ما ينبئان عن انفتاح يتجلى في مختلف أنواع العلاقات التي يمكن أن تقوم بين الكلمات، وهي يعاد تسييقها، وما يمكن أن يكون لذلك من آثار على مستوى الدلالات وإيقاعاتها. ومن ثم، نلاحظ، ونحن نقرأ الديوان، أن القصيدة عند بنعيسى هي استثمار إبداعي لتلك الذخيرة المستورة في الدارجة المغربية التي يستقطر رحيقها الغميس، خاصة في زمن افتقدت فيه هذه الدارجة الكثير من عنفوانها نتيجة مختلف حركات الإفقار التي تتعرض لها تحت ضغط تنميط الخطاب وإفقاده تلك الحساسية الآسرة التي تمنحه تفرده الدال. ليس الزجل، هنا، اختيارا لغويا، على سبيل البحث عن السهولة،ولا حتى اختيارا جماليا متداولا، بل هو استرجاع واع للكثير من الأبعاد الثرية في لغة مليئة بعدة إشارات، لعل أهمها الإشارات الصوفية، وهو ما يظهر رسوخ معرفة الشاعر بمختلف السجلات المرجعية، وكذلك بخصوصية المعجم الذي يؤثث به اختياراته الشعرية الزجلية: لهجات اصوات الجدبه حال من حال ف حرمة سيدو وقوف وسجده يستجديو حقهم في كرايم العز والودادة جات اللطمة جواب دقه على دقه ب لا عداده (ص16) إن هذا الاختيار المفعم بخوض واسع ومترامي الأرجاء في بحر موارد بلا ضفاف، هو ما منح التناص في ديوان بنعيسى خصائص الغور والامتداد، بما جعل نصوص الديوان معرض حياة متجددة للعديد مما أبدعته الدارجة المغربية من ألوان وسجلات، مع ما يكتنف ذلك من جميل الانتقاء الذي يتداخل فيه الفردي مع الجماعي، والنفسي مع الاجتماعي، والتاريخي مع الصوفي، والواقعي مع المتذكر والمتخيل. وفي هذا الاتجاه، يكون خطاب الزجل الشعري الخطاب الأكثر ملاءمة لعبق المحتفظ بعطره من آفاق ماض لا يبقى أسير غياب في زحمة اليومي حيث السيادة المتمكنة لقيم التبادل والاستهلاك. من هنا، نجد ديوان «قاع وردة « لا يقدم نصوصا شعرية فحسب، بل هو حقل حافل بمعجم يأخذ في ثنايا قصائده بعدي صدى الذاكرة بكل غناها، ورحيق الدلالة المتجددة في حياة نابضة بالمعنى، حيث الجمع، في الشعر، بين كثافة التعبير والحرارة في المشاعر: «حدجه، الحال اصطاب، الكايلة، زلال، فنار، رميم العظام، شفعو زلاتها، كلمه برازه، المنجل ساكر، على الحيط تاكت، عشيق الدار...». ما يؤكد هذا الغنى الذي يحفل به الديوان انفتاح قصائده على أقاص دلالية رحبة، مما يفسح المجال لقراءات متعددة يتداخل فيها السياسي مع الصوفي، والاجتماعي مع الحميمي، والظاهر مع الخفي، ولكن مع احتفاظ القول بمسافته قولا شعريا شديد التعلق بألقه وجاذبيته، وعظيم التأبي على الاختزال في المسكوك من الكلام والعبارات. ومن ثم، فإن الانفتاح، هنا، هو جزء لا يتجزأ من الفاعلية الشعرية حيث لا تبنى الكلمات خارج هذا المتطلب الذي يقوم على تفريغ الدلالات، ولكن مع الإبقاء للشعر على كل ألقه المتفرد صوتا وموسيقى وأجواء. وهذا ما يتكشف، مثلا، فيما يلي: خرجنا لمسالك النجا ما وجد نال بابها باب كل ما تم من وعد ب ميثاق و قلاده ما عاد لمفعولو مفعول بالخف تبخر ف السما واتقاضى إن التقطيع الطباعي لهذا المقطع، إذ يشير إلى استدعاء بصري، حيث السطور تختلف طولا وقصرا، وحيث الكلمات توجد لنفسها المواقع التي ترتضيها وتتناسب مع لحظة البلاغ، يكشف، من جهة أخرى، القدرة العالية التي يتسم بها الشاعر على الالتقاط والتأثر، بما يسمح بتعدد دلالي يستضيف، هو بدوره، تعددا قرائيا يمنح تجربة الزجل ذلك العمق الذي يبعدها من أسر السقوط في ترديد المسكوك من القول، ويشير إلى ضرورة الانتباه إلى ما يجري تحت السطح وسماع صوت الأعماق. وبذلك، يتجلى التقطيع الطباعي أحد المؤشرات على توسيع الدلالة، وعلى اكتساب الصوت الخاص، حيث لا يأتي التقطيع الطباعي اعتباطا أو مجرد توزيع عشوائي في فضاء الورقة، بل هو، على العكس، مربوط الصلة بإيقاع القصيدة الموسيقي، والدلالي تحديدا. هذا إضافة إلى كون هذا التقطيع يأخذ، في اعتباره، القراءة الشفوية التي تختار إيقاعها وتريد، هي كذلك، أن تكون إيحائية الكلمات والمقاطع، وهو الأمر الذي يبرع فيه بنعيسى الذي يعرف جيدا قدر الكلام الذي يقرؤه. إضافة إلى هذا، نجد القصيدة تجمع بين اللمحة والصورة الممتدة، وتبرز ذلك الحرص لدى الشاعر على إملاك تركيباته الشعرية امتلاء الدلالة وتجديدها مع حرصه على جعلها شعرية الإيقاع والصدى. لنقرأ المقطع التالي، ولنلاحظ كيف يقيم الشاعر علاقات لا يستحضرها الحس المشترك، وهو مقطع من مقاطع عديدة تشهد أن بنعيسى يمنح الزجل قدرة كبيرة على استدماج آفاق ثقافية ودلالية، وأن يجمع بين متباعدات يلم شملها، ويبين ذلك التصادي والتجاوب اللذين لايلحظهما إلا شاعر عميق الإحساس، لماح النظر: « ف سويعه شميعه تاك لخريف على ربيعها منوما ابقات غير حروف تتساقط» في استعارات مبدعة، تمتد لتتاخم رموزا خفية، يجمع الشاعر بين الشمعة والربيع، وبين الخريف والحروف دون أن يبقى أسير علاقات معروفة ومتداولة، وفي هذا الجمع وما يتدثر به من كلمات وتراكيب وما يكتنفها من وشائج لا تعلن عن نفسها كما في الخطاب العاري، تنفتح الدلالة وتتناسل مسكونة بتحررها من قيود الإرجاع المكرور، وهو ما يلزم القارئ بأن يستحضر كل ذاته، وكل امتداداته لاستجلائها ضمن هذه الرغبة الأكيدة في ألا يبقى مقصورا على لذة السماع، وفي السياق ذاته، تبرز نصوص الديوان ذلك التمازج بين الذات وما يحيط بها، ولكن دون أن تفقد الذات قدرتها على إقامة المسافات المناسبة التي تسمح بالاكتشاف والتحري. في قصيدة «بابا عدي» مثلا، نلاحظ ذلك التكثيف الذي، يمنح القصيدة كل الدرامية التي كثيرا ما تغيب في سديم الأيام، وفي توالي المشاهد المؤلمة «ليام نساية». في هذا التكثيف النابع من رصف موزون ومدروس للكلمات واختيار موقع لها، يكتسب مشهد الإقصاء الاجتماعي كل دراميته، وكل خصوصيته المثيرة التي تتجلى في سقوط الكرامة الإنسانية وتمرغها في وحل الظلم والإقصاء أمام أعين من يتحول ذلك المشهد عندهم إلى مجرد مشهد معتاد، بل يتحول إلى مشهد يحدد معلم المكان: « فين كاين بابا عدي»: بابا عدي قالوا عدي آش فيك ما يعدي جلدك ملاح صوتك بحاح مسا وصباح في تصوير «بابا عدي» الممزوج بتوقيع صوتي لماح، نلاحظ التجلي الفاضح لمفارقات تحكم المشهد الاجتماعي الذي يمثل مشهد «بابا»عدي «الدرامي أحد مشاهده الأكثر تمثيلية، والأكثر إيلاما، والذي يعري كل ما يعمل الحس المشترك على إخفائه أو جعله مألوفا أو إقصائه إلى هوامشه البعيدة. ولا يكمن نجاح الشاعر في نقل هذا المشهد الذي يتماثل مع مشاهد عديدة مشابهة، بل في إخراجه، من خلال صوره وإيقاعه، من هول النسيان، وكذلك منحه جدارة إثارة الانتباه إليه، وعدم المرور عليه مرور الكرام. وبهذا، لا يكون الخطاب الشعري مرادفا لعبارات الدغدغة والوردية، وإنما هو خطاب العمق القادر رؤيويا وجماليا على كشف الخبيء من الأحاسيس والمشاعر. ومن ثم، لا تبقى درامية المشهد مرتبطة به فحسب، بل تتجاوز ذلك إلى كونها ابنة التصوير الشعري القادر على القبض على مختلف مفاصلها، وكذا الإمساك بمختلف علاقاتها الخفي منها والظاهر: وبابا عدي ماذاق مليح وجهو تصريح ناطق صحيح قال : حقي قالوا: ف الريح إننا نلمس ، في كل قصائد الديوان، أن الشاعر يرتقي بمجموعة من المشاهد الاجتماعية، ومجموعة من الذوات إلى دواخل التعبير الشعري ليرفع عنها بهاتة الأيام، وليمنحها الحق في أن تثير الانتباه ليس عبر لغة التوثيق الجافة، وإنما عن طريق استدعاء صور وإشارات الحس والفكر معا، وهذا ما يبين عن الطاقة المتميزة التي يمتلكها خطاب الزجل المسكون، هنا، بإرادة جعله خطابا حاملا لرنين الفن والإبداع. لذلك، نجد أن استعارة لغة اليومي والواقع الاجتماعي تكتسي أبعادا غير مسبوقة، وتخرج عن الدلالة المتكلسة إلى دلالات متجددة في سياق تركيبات شعرية تمنحها وجودا متحررا: «حميدو صغيرانت الوجه باري والقلب محروق ويلي واش من دبا قلبك محروق؟ على أننا نكتشف أن الشاعر حين يتناول قضايا اجتماعية، فإننا لا نجد لديه تلك الخطابية التي تلتهم الشعر وتفقده حرارته. ولعل جزء من هذا المسعى يفسر بكون الشاعر يفهم خصوصية ما يصدر عنه ، وفي الآن نفسه، يعي أن القضية الاجتماعية، وهي تدخل رحاب الشعر، عليها أن تتدثر بدثاره، وأن تكون فيه غير ما هي في غيره. وبذلك، لا يتحول بنعيسى إلى مجرد راصد عادي يسجل الوقائع والعذابات، بقدر ما يريد أن يكون شاعرا لا تكون العين، لديه، إلا بوابة للكشف عما تجيش به الجوانح، وهو ينقل المرئي إلى مصدر للنشاط الشعري الفريد حيث يمنح الصوت كذلك لأولئك الذين فرض عليهم قهر اليومي أن ينحدروا إلى الغياب والعتمة. وهنا، تكمن القيمة المضافة حيث لا يكون الشعر خطابا، فحسب، بل يكون كذلك تعبيرا متميزا يكسر الصمت الذي أقامته علاقات ظالمة تلغي قوة الحق لصالح حق القوة. إن نصوص الديوان تمنحنا، برشاقة ولماحة، اكتشاف الحياة والفن وعيشهما بعمق، وهي تبرز، كذلك، أن حس المعايشة لدى محمد بنعيسى شديد الحضور وبالغ الرهافة، ولكن دون ابتذال أو إسفاف يصدران عمن لا يعرف القيمة الجسيمة للكلمات، ولعمقها الشعري. وحتى حين نجد نمطا سرديا في بعض قصائد الديوان، فإن ذلك لا يقتل شعرية القصيدة، حيث لا تسقط في ابتذالية المثال، بل تعبر عن عصارة التجربة التي لا تفك عراها مع الإنساني في نسغه العميق والممتد، إذ لا تمثل الأشكال سوى تجليات لا تحجب الساكن في الأعماق والمتعالي على العابر خاصة في مدينة تاهت بكثرة أحداثها التي تعمي الحس المشترك بالنسيان وتدفعه نحو سديم تشابه البقر والألوان: « وسط الدخان والألوان ما بين الساق والساق ضو الفجر لمع براق لفت لعيون دار الكاس ودار مشعشع مجنون اعمر واخوى زادهم نشوة وهوى ويامنة ترقص وتغني والخمره فيها ف عقلها ف عينيها تحاول تنسيها الماضي والحاضر» يدل هذا على جد الشاعر في أن يكون بوحه الشعري عنوان ارتباط للكلمة واختيارها بتجربة عميقة تجعل البحث في المعين أحد أهم معالم عيشها. والأمر لا يتعلق بالبحث عن متنفس لغوي أو حتى أدبي عن مشاعر خبيئة بين البصر والفؤاد، بل يتجاوز ذلك إلى أن يكون البحث في الكلمة مساوقا للتعبير عن تجربة لا تأتيها خصوصيتها من عيشها فحسب، بل مما تفجره من طاقات تقطير لغة جديرة بتصوير مختلف عناصر لعبة الوجه والقناع، وبحمل مالا تبديه تجربة يتهددها الموت والفناء خارج لغة الشعر: « الباب صحو فرتاجو ولقفال هتوف بسبعه آش هم البصير إلى ذابت وتقاضات الشمعة؟ كم هو رائع هذا التصوير، وكم هي رائعة هذه الروابط التي يقيمها شاعر يعلم أن ما تتمتع به الدارجة من عتاقة وامتداد لا يحولان دون إعادة تسييقها ضمن ما يمنحها الإثارة بالتأمل والجمال: «اللي ما جابتو محبه برشاقه ما يجيبو تحزار العشق وقيه الوهم قنطار الزواق يطير والصباغه تكشف الله دايم دايم حافظ ستار.» إن ديوان «قاع وردة» لا يحمل دلالة متحقق زجلي سيار، ولكنه يكشف قدرة الشعر، مهما كانت لغته ونسجه، على أن يكتنز آفاقا كثيرا مالا يتم استحضارها في خطابات أخرى. وبالإضافة إلى ما يقدمه الديوان من حرص على حفظ ذاكرة اللغة والإنسان، فإنه يفعل ذلك من جهة تأكيد قوة الخيال. ولعل من أبرز ما يقدمه الديوان، كذلك، تعبيره أن حياتنا اليومية البسيطة مليئة، على بساطتها، بالأسرار والألغاز، وأن الشعر يبدد الكثير من الأوهام ويمنح الصورة التي يراد لها أن تكون مسطحة أبعادا تجعلها تحتوي أكثر من إشارة وأكثر من مدلول. ورغم أن نصوص الديوان قد كتبت في فترات زمنية متباعدة، فإنها تشترك جميعها في امتلاك القدرة على عدم البقاء أسيرة هذه الفترات، وفي امتلاكها، كذلك، القدرة على استجلاء العميق والممتد في الذات المغربية على وجه الخصوص. إن ديوان الشاعر محمد بنعيسى، وهو يمنحنا اكتشاف ثراء لغتنا، وما تصبح عليه من جمال وجاذبية في نصوص شعر تعامل صاحبها مع إقدامه على الكتابة بكل ما يستلزمه هذا الإقدام من مسؤولية وجدية وصبر وحصافة، يبين أن الشاعر الزجال لاينوب عن الآخرين من خلال إلغائهم، وإنما بالتفاعل معهم، والتعبير، بتأمل وخيال وجمال، عما يجيش في عقولهم وقلوبهم من أفكار وآلام وأحلام.