بعد مرور مستعجل وطارئ بالأراضي الجزائرية والتونسية التحقت وبالصدفة ،ذات عطلة صيفية من سنة 1989 بفلول المهاجرين المتوجهين إلى الديار الايطالية، عبر جزيرة صقلية .لم أكن أتخيل قط أنني سأقضي ليلة استثنائية في بلاد الأغالبة التي ما فتئت أحببها لتلاميذي في دروس التاريخ. في مدينة باليرمو بالذات ، قضيت ليلة كاملة متأهبا متوثبا ،أضرب الأخماس في الأسداس حريصا كل الحرص على ألا استسلم لرمشة عين وألا أقع ضحية عصابات الأفاقين والمقامرين واللصوص المردة الشياطين الذين يحكى عنهم أنهم يطلعون من حيث لا تدري في الأوقات الحرجة، مدججين بعدة الترهيب وأساليب الذعر، ليسلبوك أمنك وأمانك أولا وما غلا لديك ثانيا . مدينة كان مجرد ذكرها يثير فينا الرعب ونحن صغارا نشرّح أحداث فيلم للمافيا تحليلا وتعليقا. كانت باليرمو تثير في قلوبنا الاشمئزاز والخوف ونحن في أقصى الدنيا على السواحل الأطلسية.طوح بي القدر بلا موعد أن أمضي ليلتي بمحطة القطار وقلبي في فمي دون أن يرف لي جفن بلا سبب، إلى أن امتطيت القطار أخيرا باتجاه روما دفعة واحدة، ولم أكن أدري أن القدر يخبئ لي مرة أخرى موقفا مدهشا ما كنت سأعيشه لا في الأحلام ولا الأفلام .من بلاد الاغالبة طفق القطار ينهب الحديد في تحد كبير لبلوغ نقط بعيدة جدا قاطعا المسافات الطوال الطوال .بعد مدة زمنية أحسست بشعور مريب وكأن مقصورات القطار تصطدم ببعضها ويتوقف القطار كلية عن المسير. حدثت جلبة بالمقصورات والممرات ، ليس هذا مشهدا من مشاهد أفلام المافيا.نزّ مني عرق غزير ، بقيت لوحدي لابدا متسمّرا بمقعدي تسكنني الوحدة والارتياب ،غير مدرك ما الذي حصل.عاركت أنفتي وعاندت نفسي ألّا أسأل فلول هؤلاء المهاجرين .-الذين في اعتقادي - لا يعرفون حتى من أين أتوا وإلى أين هم ذاهبون .تمسكت بموقفي على علته.طللت من خلال النافذة لأرى قطارا آخر توقف بجانبي.حتى أجلوَ غمتي وأبدّد دهشتي هرعت من المقصورة إلى الخارج،ما عثرت على إسفلت محطة ولا أرض لا سماء لا أخضر ولا يابس وإنما اكتشفت مباشرة أثناء خروجي ومغادرتي القطار، أن المسافرين يصعدون أدراجا ففعلت مثل ما يفعلون .ويا لهول ما اكتشفت . لم أدر ما الذي حصل.وجدت نفسي يا سادة أصعد سطح سفينة عملاقة بل عبّارة أسطورية نادرة ، وعلى ظهرها انتشر المسافرون من كل الاجناس ،يدخلون ويخرجون -في هرج ومرج - من وإلى مقاه ومطاعم غاية في الرونق والأناقة، يكرعون البيرة ويعضّون على السندوتشات..يا إلهي أأنا في البر أم في البحر؟ أأنا في حلم أم في علم ؟ ما الذي حدث إذن بالضبط؟؟؟ أنا في القطار ، نعم القطار توقف، والبابور في اليم ّ .تبين لي فيما بعد أنني كنت ضحية جهل بما يقع أثناء اجتياز القطار ومغادرته للبر من الجزيرة إلى البر الثاني من ايطاليا.بالرغم من كل ما اقتنيته من مظاهر الشياكة والتأنق في الملبس والمظهر وبالرغم بكل ما سمعته وقرأته ، وبكل ما يعج في رأسي من أخبار الأولين والآخرين، فقد اكتشفت تأصل الدّابّة الجاهلة في أعماقي. تضخمت بداوتي. أحسست بالغبن والغربة .بدأ يصلني نداء عميق من بواطني.كانت كل خطوة أخطوها وكأني أضع قدمي في غور سحيق لا قرار له.كان قلبي دائما دليلي، به أرى وأسمع، وميزاني وبصيرتي وبوصلتي، ولأول مرة اكتشف اليوم أنه خانني .علمت يا سادة أن القطار - وهو على حافة البحر- وجد هذه الباخرة العملاقة تتربصه على مرافئ ميسينا لتبتلعه و تقلّه دفعة واحدة إلى مرافئ ريجيو كالابريا .وقيل أيضا إن القطار انشطر نصفين وابتلعته الجارية .سألت نفسي فوجدتها عاجزة على إدراك ما وقع لي .اجتاحني شعور غريب مبهم لشيء حدث لي ما كان في الحسبان.تحملت بمشقة الأنفس وقع الضربة العنيفة والصدمة المفاجئة .العين بصيرة والتجربة قصيرة.كلهم كانوا يعلمون وعلى علم مسبق بالذي سيحدث ،وحدي أنا لم أكن أعلم متى انزلقنا داخل بطن السفينة ومتى أقلعت .ولكي أغالب خجلي وأداري بلادتي وبداوتي وقلقي ، مكثت على السطح أتفرج، في تأمل بوذي عميق ،على عروض شيقة لأسراب الدلافين وهي تستمتع بقفزها المتناسق ،وهي تمخر معاندة عباب تلال الزبد الذي تخلفه محركات ومراجل الباخرة من جراء القصف المتوالي للأمواج.أعرف أن هذه العبّارة ليست في مهمة لشحن وتفريغ فحسب، وإنما في مهمات ملاحية أعظم وأخطر من أن تبتلع ? وهي في طريقها ? قطارين أو حتى ثلاثة دفعة واحدة . في الوقت الذي ودعنا فيه فريق الحوت الغواص، استقبلتنا رائحة الميناء وضجيج البحارة وأسراب النوارس بعدما أثارها وأثارنا صفير الباخرة المدوي، لنودعها للتوّ متسابقين في حركة سريعة كالنمل للعودة من جديد لمقصوراتنا بالقطار . قدمت من» تراباني» إلى باليرمو إلى «ميسينا» ، ثم من مسينا لتتقيأه ب»ريجيو كالابريا» ،بعدها انشق بطن البابور، ثم انسل القطار ،كثعبان لانهاية له، متماديا في غطرسته يعانق السكك ويستأنف ابتلاع الحديد وينهب المسافات نهبا .ما كنت أعرف أن البواخر تبتلع القطارات في الموانئ ،لتقذف بها ومسا فريها، بموانئ أخرى قصية. تركنا الوحش رابضا على مرافئ» ريجيو كالابريا» ولم أدر بعد ذلك ماذا فعل به الزمان كما يقول العرب .