تحلّ في هذه الأيام الذكرى الحادية عشْرة لرحيل الأديب المغربي العالمي محمد شكري، الذي شكّل تجربة إنسانية وإبداعية مائزة على أكثر من صعيد. إذ إنه عاش حياة صعبة وقاسية في كنف أسرة عانت من تسلط أبٍ عنيف سكّير، كما يروي شكري نفسُه، بعدما استوطنتْ طنجة فارّةً من بلاد الريف؛ لِمَا كانت تعرفه، في أعقاب الحرب العالمية الثانية، من مجاعة وجفاف واستعمار إسباني غاشم، مشيا على الأقدام. يقول شكري، في حوارٍ معه، شاهداً على هذا الحادث الذي احتفطت به ذاكرته: «لا أذكر كَمْ دام مَشْينا على الأقدام لكي نصل إلى طنجة الفردوس! آنذاك كنتُ في السادسة أو السابعة من عمري، غير أني أذكر الناس الذين كانوا يسقطون أحياناً موتى، وأحياناً مَرْضى. رأيتهم يُدْفنون حيث كانوا ينهارون». ولكن شكري لم يَجِدْ طنجة، وقتئذٍ، نعيماً وفردوساً، بل أمضى فيها طفولة صعبة، مَيَّزَها البؤس والألم والتشرد؛ فانتقل، رفقة عائلته، إلى تطوان، قبل تَرْكِها لمتابعة رحلة التيه والبحث عن حياة أفضل، التي قادتْهم إلى وهران، وهناك اشتغل شكري في مزرعة معمِّر فرنسي، لكنه سَرْعانَ ما ترَكَها مُؤْثِراً القُفولَ إلى طنجةَ معشوقتِه، رغم معاناته فيها؛ بحيث امتهن داخلَها مهناً وأنشطة تجارية وضيعة، وتشرَّد بين دروبها وأزقتها، ومارس التهريب واللصوصية وغيرهما لتوفير دراهم يُحسّن بها ظروف عيشه. وقد أخّرَت حياتُه القاسية البئيسة هذه التحاقَه بالمدرسة إلى حين بلوغه سنَّ العشرين، عامَ 1955؛ حيث سيدخل مدرسةً بالعرائش للتعلم ومحاربة جَهله بأصول القراءة والكتابة. وبعد سنواتٍ من التمدْرُس، سيتخرّج شكري، ويُعيَّنُ بسلك التعليم الابتدائي مدرِّساً للغة العربية. وظل كذلك إلى أن استفاد من التقاعد النسبي؛ فتفرّغ للكتابة والإبداع. وقد كان محمد شكري عصاميا في تكوينه العلمي والأدبي، واسعَ الاطلاع على الأدب العربي والغربي، قديمِه وحديثِه، ولم يحْصر اهتمامَه بالسرد قراءةً وإبداعاً. يقول الكاتب الأردنّي أمجد ناصر موضِّحاً سَعَة اطّلاع شكري هذه: «يتوقّعُ مَنْ يقرأ كتابات شكري أن يكون أمام كاتبٍ ليس لديه سوى الحكايات التي رواها في كتبه، ليكتشف أنه أمامَ مثقف عميق ومتنوع المعارف؛ ينقلكَ من ديستويفسكي إلى تينيسي وليامز، ومن المتنبي إلى أبي العلاء المعرّي إلى شعراء قصيدة النثر في المغرب، مُروراً بعددٍ من شعراء الحداثة العربية الكِبار». لقد كان منتَظراً جدّاً أن يلتصق إبداع شكري ب»العالَم السُّفلي»، ويعبّر عنه وعن كائناته وأشيائه ومظاهره المختلفة، وأنْ يجسّد معاناته التي كانت العنوان الأبرزَ لطفولته ومراهقته، قبل أنْ يشتهر أمْرُه، ويتخطّى إبداعُه حدود الوطن على يد صديقه بول بولز؛ عاشقِ طنجة. ولذلك، فقد اتّسمت كتاباته الإبداعية، في الرواية والقصة والمسرحية، بمَيْسَمها الواقعيّ، الذي لم يَخْلُ من نبرة انتقاد واحتجاج، وبشفافيتها وصِدْقها مضموناً وشكلاً. وحافظت على صبغتها هذه؛ فكانت لساناً ينطق باسم «المجتمع» الذي ينتمي إليه، أصلاً، شكري؛ مجتمعِ الكادحين والمهمَّشين والبؤساء، رغم تغيُّر ظروفه الحياتية، ماديا ومعنويا، لاحقاً. وإنّ اختيارَه الارتباطَ بهذه الفئة الاجتماعية الهشّة المحرومة، والكتابة عنها، لَدَليلٌ صارخٌ على «وفائه لجِلْده القديم»، الذي لم يستطع التملص منه إطلاقاً. وهذا ما تكشفه قراءة أعماله في الإبداع السرديّ، التي تنقل الواقع الذي عاشه مُبْدِعُها وأبناء مجتمعه المُعبَّر عن حياتهم، في فضاء طنجة خاصة، ولاسيما في سوق الداخل «الذي كان يَحْيا ليلَ نهار، دون أن ينام إلا من زبائن نائمين على الكراسي بمقهى «الرّقّاصة»، الذي كان يرتادُه شكري كثيراً، أو بمقهى «سنطرال»، رغم ما يعجّ بالمكانين من صَخَب وعنف»؛ على حدّ قول الكاتبة فاطمة بتغراصا في مقالٍ لها عن محمد شكري وتجربته في علاقتها بالعالم السفلي المعبَّر عنه. وتتبدّى لنا هذه العلاقة بالواقع المَعيش منذ أول نصٍّ إبداعي ينشرُه شكري، عام 1966، ويتعلق الأمر بقصته القصيرة «العنف على الشاطئ». وتتقوَّى من خلال عمله السردي الذي اشتهر على نطاق واسع، وبه عُرف شكري أكثر داخليا وخارجيا، وهو روايته السيرية «الخبز الحافي»، التي كان مؤلِّفها يصفها ب»الكتاب الملعون»؛ نظراً إلى ما جرّه عليه من نقد كثير، ولاسيما من الفقهاء والعلماء المُحافظين. فهذا الأثرُ السرديّ مكتوبٌ، في أوائل السبعينيات، في أوراق متناثرة، أطْلَعَ شكري الكاتبَ الأمريكيّ بولز ? الذي كان له الفضل الأعظم في بروز اسم شكري على ساحة الأدب العالمي، حتى قيل: لولا بول بولز لَما كان شكري كاتباً ? عليها؛ فأُعجب بها، متناً وخطاباً، فعمد إلى لملمتها، وإخراجها في تأليفٍ، بالإنجليزية، بالعنوان المذكور، عامَ 1973. ويذكر شكري أنّ هذا العنوان من اقتراح الكاتب المغربي المعروف الطاهر بنجلون، وأنه كان يَنْوي عَنْوَنَة عمله بعبارة «من أجل الخبز وَحْدَه»، متمثلاً عكسَ مقولة المسيح «ليس بالخبز وحده يحْيا الإنسان» (من الصُّدَف أني قرأتُ مؤخّراً مقالاً في الملحق الثقافي الأسبوعي لجريدة «الاتحاد الاشتراكي»، عدد 10851، بتاريخ 7/11/2014، للمبدع والناقد محمد بودويك بعنوان «ليس بالخبز وحده..»). ولم يظهر الكتاب باللغة العربية إلا سنة 1983، وقد طُبع على نفقة شكري الخاصّة. غير أنه تعرّض إلى المنع بضعةَ أسابيعَ فقط عقب ظهوره، ويذكر شكري أنه كان على رأس الفاعلين المؤثِّرين الذين أسْهموا في هذا الحَظْر رئيس رابطة علماء المغرب آنئذٍ، وعددٌ من الفقهاء والعلماء والمفكرين؛ فتحرّكتْ أجهزة وزارتي الداخلية والأوقاف لسحب نُسخ الكتاب من المكتبات. ولم يُرْفع المنعُ عنه إلا في أواخر التسعينيات. وظلّ الكتاب، طَوالَ فترة الحظر، يُنسَخ بشكل شبه سِرّي، وينتقل بين بعض الدارسين والمهتمّين من يد ليدٍ؛ ممّا زاد من جاذبيته، وجعل الإقبال على طلبه وقراءته يتزايد. وتُرْجم العملُ إلى الفرنسية سنة 1980، وإلى الإسبانية. وممّا قيل عن الرواية حين ظهور الترجمة الأخيرة ما كتبه خوان غويتيصولو مِنْ أن «هذه الرواية تشكّل أول سيرة بيوغرافية عربية، عفيفة صريحة وحقيقية؛ إذ من النادر أن يعلن المرء على الملإ جوانبَ ضعفه ورذائله». ونُقلت الرواية نفسها إلى لغات أخرى كثيرة، وحظيت باهتمام نقدي واسع في إطار أبحاث أكاديمية، ودراسات تحليلية، ومقالات صِحافيّة. لقد صوّرت «الخبز الحافي»، بكثير من الشفافية والأمانة، طفولة شكري البئيسة الصعبة، ونقلت الواقع المرير الذي عاشه في طنجة التي أوَتْ إليها أسرته عند فرارها من الريف، سنةَ 1942 .. هذا الواقع الذي ترك أثراً غائراً في شخصية الكاتب، وحدّد ملامحها المستقبلية. وامتدّ أثره، كذلك، إلى عالم الكتابة وأسلوبها في الرواية؛ إذ إنه «كان حافيا جدّا إلا من روحه نصف المقدّسة نصف المدنّسة. فهنا عالم قاسٍ وفظّ وعدائي. وهنا كتابة جَريئة مباشرة وجارحة، وكأنّ الكتاب مكتوب بالسكين لا بالقلم؛ سكّين تكشط وتغوص في أحشاء عالم قاتم، ولا تتلكّأ عند أطرافه وحواشيه» (أمجد ناصر). وقد واصَلَ شكري كتابة فصول أخرى من سيرته، روائيّاً، في عَمَليْه «زمن الأخطاء» (أو «الشطار»)، و»وُجوه». بل وفي نصوص قصصية عدة، ران عليها النَّفَس الواقعي؛ كما في أضمومته الأولى «مجنون الورد»، التي صدرت عن دار الآداب، ببيروت، عام 1979، بتقديمِ صديقه المبدع والناقد المغربي المعروف محمد برّادة، وكان ممّا قاله فيه أنه «على العكس من معظم كُتابنا الآخَرين، تعلم محمد شكري لغة الأشياء العارية القاسية، قبل أن يتعلم الكلمات «المعبِّرة». لذلك تظل حياته اليومية في الأساس، وتغدو الكتابة، بالنسبة له، إدماناً جزئيا يرفض أن يجعل منه قناعاً للتجميل، أو مطيّة للارتقاء في السلم الاجتماعي». وصدرت للكاتب، في أواسط الثمانينيات، «الخيمة»، و»السوق الداخلي». وصدر له، خلال عقد التسعينيات، جملة أعمال في السرد وغيره، بدءاً ببعض مذكّراته التي كتبها عن أصدقائه، من الكُتّاب الأجانب، الذين عاشوا في طنجة، فلقيهم شكري، ونسج معهم علاقات صداقة متينة عبَّر عنها في «دفاتر» نشرها، بالتتابع، انطلاقاً من أوائل التسعينيات؛ مِنْ مثل «جان جينيه في طنجة» (1993)، و»عزلة بول بولز في طنجة» (1997)، وكتب كذلك عن تينيسي وليامز وآخرين. ولعلّ آخرَ ما صدر لشكري كتابُه الموسوم ب»غواية الشحرور الأبيض» (1998). وكانت له مراسَلات مع محمد برادة صدرت، لاحقاً، في كتابٍ بعنوان «ورد ورماد»، وقد أعادت يومية «الأخبار» المغربية المستقلة نشْر تلك الرسائل، مؤخراً، ضمن «فسحة الصيف». وتجْدُرُ الإشارة إلى أن برادة كان له إسهام مميَّز، من موقعه كناقد، في تبلور تجربة محمد شكري الإبداعية، وتبوّئها مكانة رفيعة في دنيا السرد العربي الحديث. وكان بمُكْنَةِ الراحل أن يُتْحِفنا بأعمال أخرى راقية وباذخة، لاسيما وأن الظروف كانت مُهَيَّأةً له تماماً لذلك، ماديا ومعنويا، إلا أنه توقف عن الكتابة الإبداعية ? أو عن النشر بالأحرى ? في سنوات حياته الأخيرة ليتحوّلَ إلى «مُحترِف حوارات» تلفزية وإذاعية، مدارُها حول تجربته في الحياة والكتابة؛ كما قال بعضهم. وكان لشكري حضورٌ في المجال الإعلامي، أيضاً، من خلال برامج ثقافية كان يُعِدُّها ويقدّمها على أثير إذاعة طنجة، وفي مقدمتها برنامجه الشهير «شكري يتحدّث». والواقع أنه رغم كثرة كتابات شكري المنشورة وتنوعها، إلا أن شهرته، في الداخل والخارج، اقترنت بفاتحة ثلاثيته السِّيرذاتِيّة «الخبز الحافي»، وبها ولَجَ سِجِلَّ الأدب العالمي حين ترجمها بولز إلى الإنجليزية. ويعترف شكري نفسُه أنه أبدع سُروداً بعد هذا العمل أنضجَ وأرْقى جماليا وفنيا، وإنْ تمَحْورت أيضاً حول تصوير الواقع، والتعبير عن حياة المبدع القاسية والمتحرِّرة معاً في كنفه، إلا أنها لم تستطعْ منافسة «الخبز الحافي» في الشهرة والسَّيْرورة، ولم تُفلح في لفْتِ النظر إليها بقوة، بل ظلت «الخبز» راسخة في أذهان المثقفين والناقدين، وحافظت على موقعها المتميّز لديهم، ولم تنلْ من مكانتها، في تمثلات القراء، الأعمالُ الأخرى قيد أنملة. وهذا الأمر يذكّرنا بكتاب عالميين كبار آخرين أبدعوا أعمالاً عديدة، إلا أن شهرة أحدها سحقت البقية، وغطّت عليها؛ كما هو الشأن، مثلاً، بالنسبة إلى رواية فلوبير الموسومة ب»مَدَامْ بو?اري»، التي يكاد يعرفها قراء الأدب في كل البقاع، دون أعماله الأخرى. ويمتاز نص «الخبز الحافي»، الذي يأبى الموت، رغم مرور عقود على ظهوره، بواقعيته الطافحة، وبالتصاقه الشديد بالمحلّي والمعيش اليومي، وبجُرأة أسلوبه وشفافيته التي لم تُفْقدِ الرواية جماليتها وفنّيتها، وبطابعه الصّادم للمعايير و»للحسّ الخُلُقيّ الجماعي» كذلك. وهي كلها خصائصُ ضَمِنَت له السيرورة على نطاق شاسع، والحياةَ بعد رحيل مبدعه. ثم إنه عملٌ انبثق من رحم المعاناة والحرمان والبؤس والتهميش، وجاء عاكساً، بصدق وافر، سيرةَ كاتب اكتوى بلظى هذه الحياة القاسية، في طنجة، أساساً، التي عاش فيها شكري الجحيم والشقاء، قبل أن ينعم فيها بحياة أجمل وأرْفه وألذّ. وتشارك الأعمالُ الأخرى التالية «الخبزَ الحافي» في جلّ هذه المميِّزات التيميّة والفنية، وإنْ لم نقل جميعها. إنها ? كما تقول فاطمة بتغراصا ? «كتابات مُغايرة؛ كتابات منغرسة حتى النخاع قي قاع المدينة السفلى، بكائناتها المسحوقة المهمّشة؛ من متسكّعين ومنحرفين ومهرِّبين وعُشاق مضطَهَدين وبائعات هوى. الأديب الصّعلوك، كما أُطْلِق عليه، المنتمي إلى هذه الفئة المغمورة لم تكن تهمّه الاعتبارات والقوالب والرّوادِع. كان يكتب بمبدإ «خالِفْ تُعْرَفْ»؛ فكشَف المستور، وعرّى المسكوت عنه، وخَرَق بعض الطابوهات، خصوصاً في ما يتعلق بمُحَرَّم الجنس».