الصوت الابداعي المغربي العصي عن النسيان بعد عشر سنوات من رحيله إلى دار الفناء، ها محمد شكري يعود من جديد، في ذكرى انتقاله إلى العالم الآخر، يعود كأيقونة أدبية جعلت من الهامش جوهرة إبداعية لا تبوح بمكنوناتها إلا لكل عاشق تملك القدرة على فك طلاسيمها. ففي ندوة نظمت السبت الماضي ضمن فعاليات الدورة العشرين للمعرض الدولي للنشر والكتاب بالدار البيضاء حول موضوع «محمد شكري: عشر سنوات على الرحيل»، أكد محمد برادة على أن محمد شكري، في روايته «الخبز الحافي»، قدم شكلا جديدا من الكتابة السردية، فيما كانت كتاباته اللاحقة استكمالا لما قدمه في روايته الأولى، مضيفا أنه، ورغم حرصه على الإلمام بكل ما يحيط به، ظل سجينا لماضيه ولم يستطع أن ينفك عنه ربما، حسب تعبيرمحمد برادة، لأن الشهرة التي حققها بعد صدور مؤلفه»الخبز الحافي» أضافت عليه أعباء جديدة، حالت دونه والكتابة، حتى تحول إلى كاتب شفوي، فجل كتاباته كانت عبارة عن حوارات لمحمد شكري، مبرزا أن الراحل، أصر على معاودة الكتابة، ساعيا منه الى تعميق تجربته الإبداعية والتحرر من ترسبات الماضي. فمحمد شكري، بسيرته المغرقة في قساوة العيش ومرارة الحرمان، والموسومة أيضا بقدرة عجيبة على الانبعاث من الرماد، هو كاتب، برأي الناقد والأديب محمد برادة، كسر بجرأته على استلهام وقائع حياتية من الهامش، وأعاد صياغتها في شكل قوالب إبداعية غير مسبوقة،أنتج و أبدع في كل الأنماط التقليدية في الكتابة، أقل ما يمكن القول عنه أنه حمل هم الكتابة و تفنن فيها باعتباره منتميا الى الجيل الذهبي. وتحفل نصوص محمد شكري بصور الأشياء اليومية وبتفاصيلها الواقعية، وتمنحها حيزًا شعريًا واسعًا، على عكس النصوص التي تقوم بإعادة صياغة أفكار أو قيم معينة بأنماط شعرية معينة، شخصيات شكري وفضاءات نصوصه ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالمعيش اليومي. ويعتبر شكري «العالم الهامشي» أو «العالم السفلي» موضوعا للكتابة، فكتاباته تكشف للقارئ عوالم مسكوت عنها، كعالم البغايا والسكارى والمجون والأزقة الهامشية الفقيرة، وتتطرق لموضوعات «محرمة» في الكتابة الأدبية العربية وبخاصة في روايته الخبز الحافي، أو الكتاب الملعون كما يسميه محمد شكري كما تحتل مدينة طنجة حيزًا هامًا ضمن كتابته، فقد كتب عن وجوهها المنسية وظلمتها وعالمها الهامشي الذي كان ينتمي إليه في يوم من الأيام. غير أن الكاتب، أبى إلا أن يجعل المهمشين والمقصيين ليس فقط على المستوى الاجتماعي، وإنما أيضا حتى على المستوى الأدبي، يصعدون إلى القمة صارخين بمعاناتهم، مطالبين بحقهم في أن يكونوا جزء من الصورة الكاملة، لا خلفيات مظلمة قلما تمسها دائرة الضوء. وعن علاقته بشكري، ومجموعة الرسائل المتبادلة فيما بينهما والتي جمعت في كتاب «ورد ورماد»، أوضح برادة أن أول مرة تعرف فيها على محمد شكري كانت في صيف 1972، مضيفا أنه كان قد قرأ له نصوصا بمجلة «الآداب» وسمع أخبارا مليئة بالمبالغات عن حياته الخاصة، غير أنه وجده أبعد ما يكون عن الصورة التي رسمها له، فقد كان شكري رزينا في حواره، عقلانيا في حججه، جريئا في طروحاته ونقده لما يقرأ. وإن كان صاحب «الخبز الحافي» و»مجنون الورد» و»السوق الداخلي» و»غواية الشحرور الأبيض»، قد أسس لنفسه حضورا قويا في المشهد الثقافي المغربي، إلا أنه كان شديد الخوف من الغياب، حتى إنه في محنة المرض طلب أن تحرق كل متعلقاته خوفا من أن يكون مصيرها سوق المتلاشيات. وهو ما دفع محبيه إلى إحداث مؤسسة تحمل اسمه تعنى بالإرث الإبداعي لأديب طنجة حفاظا وتعريفا، وتخليد مسيرته عبر الإشراف على إعادة نشر مؤلفاته وترجمتها إلى عدة لغات، والعمل على المساهمة في كل المنتديات الثقافية العربية والعالمية وفاء لروح الفقيد الذي كان يؤمن بأنه «كاتب كوني». فتنوع أبعاد شخصية شكري، وتقاطع مساراته الإبداعية، جعله يدخل في حوارات وسجالات ثقافية مع أدباء عالميين، لا سيما ممن أغوتهم طنجة، فإما كانوا لها زوارا أو مريدين سكنوا أحياءها وخالطوا سكانها، فكانوا مادة اشتغل عليها شكري نقدا ورصدا لأبرز محطاتهم بالمدينة. ومن أشهر هؤلاء، يقول الباحث والمترجم إبراهيم الخطيب، الأديب الأمريكي بول بولزالذي كتب عنه شكري «بول بولز وعزلة طنجة»، والذي يعتبر مؤلفا فريدا، لا يتضمن فقط سيرة حياة كاتب آخر، وإنما محاولة تقديم قراءة نقدية لبولز حتى في أبسط تصرفاته واختياراته الوجودية. واعتبر الخطيب أن كتاب شكري عن بولز، الذي كان قد ترجم «الخبز الحافي» إلى الانجليزية، جاء مغايرا عن كتابيه عن كل من جان جنيه وتينيسي وليامز، فالأسلوب كان مختلفا، ونم عن اتجاه المؤلف إلى التحليل عوض الاكتفاء بالوصف انطلاقا من معاينة صارمة تكشف بوضوح موقفه من بولز . ففي كتابيه «جان جنيه في طنجة» و»تينيسي وليامز في طنجة»، يضيف الخطيب، وقف شكري من الكاتبين موقف المنبهر، محاولا استقصاء حقيقتيهما ككاتبين وكشفهما لنفسه قبل كل شيء من خلال تتبع وتسجيل كل ما يقولان أو ما يصدر عنهما من تصرفات، في حين أنه في كتابه عن بولز، لم يعد المؤلف إزاء نموذج بعيد عنه، بل كان قريبا منه إلى حد يسهل معه نقده والتعليق عليه من دون انحياز ومساومة. ومن جهتها، أبرزت المترجمة والباحثة رجاء بومدين الجهود التي قامت بها من خلال اشتغالها مع إحدى دور النشر الإسبانية من أجل إعادة إنتاج مؤلفات شكري وطرحها في الساحة الأدبية الناطقة بالإسبانية، عبر معاودة ترجمة «الخبز الحافي» و»زمن الأخطاء» و»بول بولز وعزلة طنجة»، مشيرة إلى أنها وبتعاون مع عائلة الأديب الراحل ستقوم بترجمة وإصدار مجموعة أخرى من أعماله، ومنها «مجنون الورد» و»السوق الداخلي». ونبهت إلى أن شكري ربما كان ضحية للشهرة التي حققتها روايته «الخبز الحافي»، حتى إنه كان يخشى من أن ينعت ب»الكاتب صاحب الكتاب الوحيد»، مبرزة أنه صرح في إحدى حواراته أنه حاول مرارا «التخلص من هيمنة «الخبز الحافي» وسحقه إلا أنه لم يمت». ويعتبر الروائي المغربي محمد شكري، صاحب اللغة القاسية في تعرية واقع مليئ بالزيف والمتناقضات، مبدعا لم يغيبه رحيله، ليبقى ذلك «الريفي الباهر الذي لوى عنق تاريخه الخاص وجعله يستجيب لطموحه الكاسر». *صحفي متدرب محمد شكري ولد محمد شكري في سنة 1935 م في آيت شيكر في إقليمالناظور شمال المغرب، عاش طفولة صعبة وقاسية في قريته الواقعة في سلسلة جبال الريف، ثم في مدينة طنجة التي نزح إليها مع أسرته الفقيرة سنة1942 م. وصل شكري إلى مدينة طنجة ولم يكن يتكلم بعد العربية لأن لغته الأم كانت هي الأمازيغية، عملَ كصبي مقهى وهو دون العاشرة، ثم عمِلَ حمّالاً، فبائع جرائد وماسح أحذية ثم اشتغل بعد ذلك بائعًا للسجائر المهربة. انتقلت أسرته إلى مدينة تطوان لكن هذا الشاب الأمازيغي سرعان ما عاد لوحده إلى طنجة، لم يتعلم شكري القراءة والكتابة إلا وهو ابن العشرين. ففي سنة1955 م قرر الرحيل بعيدًا عن العالم السفلي وواقع التسكع والتهريب والسجون الذي كان غارقًا فيه ودخل المدرسة في مدينة العرائش، ثم تخرج بعد ذلك ليشتغل في سلك التعليم. وفي سنة 1966 م نُشِرَت قصته الأولى العنف على الشاطئ في مجلة الأداب اللبنانية، حصل شكري على التقاعد النسبي وتفرغ تمامًا للكتابة الأدبية، توالت بعد ذالك كتاباته في الظهور، كما اشتغل محمد شكري في المجال الإذاعي من خلال برامج ثقافية كان يعدها ويقدمها في إذاعة طنجة، و خصوصا في برنامجه الشهير شكري يتحدث. عاش شكري في طنجة لمدة طويلة ولم يفارقها إلا لفترات زمنية قصيرة و توفي في 15 نوفمبر 2003.