كما لو في فقاعة ديوان شعر للشاعر المغربي المقيم في فرنسا احساين بنزبير. صدر سنة 2014 عن منشورات بيت الشعر في المغرب . صمم الغلاف ، وأخرجه الشاعرعزيزأزغاي ، اللوحة التشكيلية من توقيع أزغاي نفسه . على ظهر الغلاف مقطع من قصيدة وردت في الصفحة 57 . عدد الصفحات 75 صفحة من القطع المتوسط. التصفح السريع للديوان يكشف عن العديد من اللوحات والرسومات بالأبيض والأسود لعدة فنانين ، وعددها ثمانية ، من بينها عمل فني لصاحب هذا الكراس الشعري الجميل ، وقد ورد في الصفحة 47. بعد البطاقة التقنية ، أعترف في البداية بأنني وجدت صعوبة في الدخول إلى العالم الشعري لهذا الشاعر، والاستئناس بنصوص ديوانه . استعصى عليَّ هذا المتن الشعري المختلف في الشكل والجوهر حتى بدا لي كما لو أنه قلعة من قلاع القرون الوسطى . تلك القلاع التي احتاج الفاتحون لها وقتا طويلا من التدبر، والتبصر، والحصار، كما حدث لهولاكو، وهو يحاصر حصون الحشاشين الإسماعليين ، أو محمد الفاتح ، وهو يهم باختراق أسوار القسطنطينية المنيعة. قلت لا حظ لي في الكتابة عن هذا الديوان ، ووضعته جانبا ، ولما جمعتني بالشاعر في غشت الماضي جلسة في مقهى بالدارالبيضاء أخبرته بعدم قدرتي على الكتابة عن ديوانه . اكتفى بالضحك ، ولم يقل شيئا . ولأنني أنطوي على زاد غير قليل من العناد والتحدي والصبر، قررت ألا أستسلم ، وألا أقطع الصلة بهذا الديوان ، وبعد كل قراءة متأنية كلما صفا المزاج بدأت أتلمس بعضا من ضوء أنار لي كوة فهم . تلك الكوة التي اندلق منها فيما بعد ما يكفي من إنارة أضاءت لي حُجُبا وعتمات عاقت الفهم . الشاعر احساين بنزبير يكتب اللاقصيدة ، أي أنه لا ينطلق من المفاهيم الموروثة عن الشعر العربي أغراضا وأشكالا . ينطلق من رؤية تكسر البنيات والقيم الجمالية للقصيدة ، وهو بذلك من زمرة شعراء الحداثة ، أو ما بعدها الذين أدركوا أن القصيدة كشكل لم يعد يستجيب لرؤية الشاعر للعالم والوجود. الشكل لم يعد قبليا وجاهزا ينتظرالشاعرأن يملأه بالمعنى. أصبح الشكل بحد ذاته لغة ، وجزءا لا يتجزأ من المعنى . أصبح دالا معبرا عن الذات الشاعرة ، ولم يعد وسيطا فقط بين الشاعر والعالم ، أو وعاءً جاهزا تُصَبُّ فيه تجربة ما . الشكل في هذه التجربة غير منظم على نحو ما ، شكل ينفر من كل تنظيم لأن العالم بدوره غير مرتب على النحو الذي يليق ، ومن تم يتغير شكل النص تبعا لمزاج الشاعر وهو يُسَوِّدُ البياض . يترك للكتابة أن تشتغل داخل النص بكل الحرية التي تسمح لها بابتكار الشكل المناسب لها ، ولا قمصان قبلية أوجاهزة على مقاس المعنى ، كما هو في الأشكال الشعرية الموروثة . يشرع الشاعر في الكتابة ، ولا شيء في وجدانه غير القبض على إحساس ألح عليه بأن يدونه على البياض ، أو رؤيا هاربة ، وعليه قبل أن تنبت لها أجنحة أن يأسرها في بضع كلمات . الشاعر يترك للمعنى حرية في أن يتشكل تبعا لتشكل اللغة . احساين بنزبير شاعر يكتب ما يرى ، كما عبرعن ذلك في نص مربعات. « في المرسم بصمات سخام . حائط محموم . مدى الضوء. حائط أبيض. إطارات غائبة . أصوات فشل . شمس الحروب . فاشية معاصرة . تخلف الأشكال . أسئلة بحجم سنتيم ، أو نصفه . لست أكتب غير ما أرى .» ص 71 ، لذلك ربما أفصح أكثر من مرة في الديوان بأنه ليس من العائلة ، وكمثال على ذلك أسوق من نص» ملفات « هذا المقطع « لست إيكولوجيا بالولادة . ولست من العائلة أيضا . لهذا السبب بالذات ، انتميت إلى إقليم دخيل : فقاعتي المفضلة «. ص 30 . وفي نص « ليت المغامرة تتهيأ « يقول: « لست أدري أين يركض الحصان . يركض . أقف. يركض . أصور. يركض . أقشر. يركض. أحول. يركض. أفكر. يركض. لون المائدة باب فيه أدخل لأخرج وحدي . لأنني لست من العائلة «. ص 53. هذا السعي إلى حبر آخرغير المألوف في محبرات الآخرين عبَّر عنه بشكل جلي في النص المعنون ب « وحدي أتَيَتَّمُ في اللسان « ، بحيث أدرك الشاعر أنه ينتمي إلى فئة من الشعراء الذين يكتبون ضد التوجه السائد في كتابة الشعر . هذا النص يتكون من اثنا عشر مقطعا هي : وحدي أقول إن المطاط أسود / وحدي أحاول / وحدي أتحرر من عبيد الكلام / وحدي أقيم في ثقب / وحدي مع وجع اللثة / وحدي مع صوتها / وحدي أركز النظر/ وحدي أتكلم في أبو غريب / وحدي لست حسب توقيت غرينتش / وحدي أرسم منطادا / وحدي أشتق منجنيقا / وحدي أمطط الكلام . يقول الشاعر في المقطع الأول : « وحدي . مع الجميع وحدي . أستقل أشكالا. الجدار حجة . أو ربما برهان . ثم أنسى . لما عبرت مع المطاط مزرابا رأيته. الآخرون أيضا . لكني وحدي قلت فيه كلاما ... ص57 .« إن الشعر ليس تمثالا للحرية ، ليس بنكا لغويا وهذا ما قلته في السماعة ليس ما نظن أن يكون.الشعر عنف وغياب ...إنه ربما إرهاب. المغامرة . لذلك قررت أن أتفجر وحدي مع نفسي «. ص52. الشاعر بقدر ما هو حارس للغة ، فهو أول من يفجرها من أجل ولادة أخرى ، يثخَصِّبها بالكنس بحثا عن نقاء في السريرة ، وعن تفرد خاص به ، يكنس كل أرضية قررالاشتغال عليها ، بما في ذلك أرضية الكلام ، أوالبياض. يقول في المقطع الأخير من الديوان : « أجمل ما أفعل: مكنسة بين يدي .أكنس وأكتب. أكنس وأفكر. أكنس وأرسم. أكنس وأجمع. أكنس وأشتم كل ما لا أحب. أكنس وأنبطح في اللسان . أكنس وأركب . أكنس وأفبرك جملا في قارورة مورفين «. ص72. تكرار فعل الكنس هذا نابع في نظري من نبذ النموذج المتعارف عليه ، ودفاعا عن إمكانية أخرى للإبداع خارج المسطر والمقنن في وعي الكتابة عند كل من وجد شكلا جاهزا فركب عليه ، أو جماعة فانساق وراءها . يذكرني هذا بجملة شعرية نبيهة لأوكثافيو باث تقول : عندما تنتهي الطرق أبدأ . الشاعر يشتغل على اللغة من منظوره الخاص، لا يحتفل كثيرا بالمجاز. يحتفي أكثر بالكلمات ، ولا يقصي هذه أو تلك لأنها تخدش الحياء ، أو لأنها عامية ، أودخيلة . يستدعيها كلها ، ويدعوها للرقص بحثا عن المعنى المحتمل ، وليس الجاهز سلفا . الشاعر أيضا فنان تشكيلي ، لذا تحضر بقوة في كتاباته الحقول الدال على الفنون البصرية منها التشكيل خاصة ، ثم السينما ، والفتوغرافيا . في الديوان أيضا خلفية ثقافية غنية ومتنوعة تحيل على قمم في الإبداع همها التمرد على المألوف والمتعارف عليه. من هؤلاء على سبيل التمثيل الشاعر الفرنسي كريستوف طاركوس ، الذي قال عنه الشاعر: في نص شعري نشره بتاريخ 26/8/2008 بجريدة الاتحاد الاشتراكي « أكدس وأفبرك جملا على طريقة طركوس ».