دجى الحزن و وشائح الألم قراءة في ديوان 'أسد بابل يختبئ وراء تمثال السياب' للشاعر المغربي بن يونس ماجن بداية : كيف حصلتُ على الديوان ؟ هذا سؤال يستدعي الوقوف قليلا للإجابة عنه لا لشيء، وإنما للاعتراف فقط . تفضل الشاعر الكريم بن يونس ماجن ، فأهداني الديوان عبر البريد مشكورا ، موقعا بالإهداء التالي : "عزيزي الأستاذ محمد زريويل مع تحياتي وتقديري ، بن يونس ماجن لندن 2007 " فيا لها من روعة جميلة حين يهديك الشاعر ديوانه ! تكل في البحث عما تقايض به ، فلن تجد غير الشكر الجزيل الذي لا يحتاج لعفو ...
جاءت هذه الورقة المتواضعة مندرجة في سياق حب الشعر والولع به ، وكذلك الانشغال بعوالمه الجمالية والتخييلية ، وبالتالي فهي قراءة تتسم بما أسميه بأفق القراءة الإنتاجية العاشقة ، بعدما اكتشفت عالم بن يونس ماجن الشعري ، تملكتني رغبة جامحة في اكتناه مفاتنه وكميائه الشعري ، قرأت المتن وتتبعت مختلف البنيات الدالة في قصائده ، أخذت أحلل وأفك مناطق الظلال والعتمات ، فوجدته يوظف معجما شعريا فيه الإيحاء والترميز لعوالم تقبع في أمكنة من القصيد وهي واقفة على عتبات الفهم والتأويل ...
" فلست أنتمي إلى نادي السعادة فعضويتي ألغيت ، وحوصرت خارج السرب وأيقونتي بيعت في المزاد العلني ودولابي توقف عن الدوران " المقطع (38) ص (27 28 )
من هو الشاعر بن يونس ماجن ؟ الشاعر بن يونس ماجن شاعر مغربي من مواليد 1946 بعمالة وجدة المغربية ، أكمل دراسته الابتدائية والثانوية بمسقط رأسه ، ثم رحل إلى لندن منذ السبعينيات لمتابعة دراسته الجامعية ، حاصل على شهادة الماجستير في الترجمة ، يشتغل حاليا موظفا بالإدارة العامة في المكتبة الوطنية البريطانية ) The British Library) ، يكتب بثلاث لغات (عربية فرنسية أنجليزية ) ، من دواوين شعره بالعربية ما يلي : مسامات ( دار الحداثة بيروت). لماذا لا يموت البحر؟ الطبعة الأولى ( القاهرة) 2002 . الطبعة الثانية ( وزارة الثقافة الرباط ) 2005 . هم الآن يكنسون الرذاذ ( دمشق) 2006 حتى يهدا الغبار ( دار أزمنة) 2006 . له ثلاثة كتب بالفرنسية وهي : - Cahier d'un immigré (Paris) 1994 Brisures d'ombres (Paris) 1998 - - Valeurs de terres( Londres) حائز على جائزة ناجي نعمان الأدبية لعام 2006 عن مجموعته الشعرية " حتى يهدأ الغبار "
وصف الديوان : " أسد بابل يختبئ وراء تمثال السياب " يندرج هذا الديوان ضمن سلسلة الثقافة بالمجان لدار نعمان للثقافة والتي أنشأها ناجي نعمان سنة 1991 ، الديوان من صنف كتاب الجيب ( Livre de poche ) قياس أبعاده ( 16 سم x 11 سم ) وزنه 25 غراما ، عدد صفحاته ( 59) تسع وخمسون ، ومن خلال نظرة إستيتيقية على الغلاف نلاحظ رسما جميلا بريشة الفنان ( طوني مسعد ) وهو عبارة عن مشهد طبيعي ، طغى عليه الزخرف النباتي والترابي ليطبع الديوان بروح الحياة وحب الوطن ، فوق الرسم جاء العنوان " أسد بابل يختبئ وراء تمثال السياب " موزعا على سطرين ، وهو تراث خلف تراث وخلفهما الشعر ، تمثال وراء تمثال وخلفهما شاعر ... تمثال في بابل وتمثال في البصرة وهما يحرسان الشعر ويحميان القريض الذي لن يضيع أبدا رغم الغزو وموت الشعر في جيكور .
" مات الشعر في جيكور وتمثال السياب ما زال واقفا في البصرة يحرسه أسد بابل " المقطع (40) ص (29)
تناسق اللونان الخردلي والبني فقط واستحوذا على كل القرطاس كما استفردا بجمالية اللون ...الخردلي سند و فرش و بساط ، والبني قلم وريشة وفرشاة ،اللونان المميزان المتجانسان زادا الديوان رونقا وجمالا ، بني على خردلي فراحت العين في سفر بصري مريح ممتطية صهوة القراءة التفاعلية ... على ظهر الغلاف جاءت الصورة الفوتوغرافية للشاعر مكتسحة كل الصفحة وقعها ناجي نعمان بما يلي : " بن يونس ماجن ، تشغله الأرض ، ويشغله إنسانها وهو، في غربته اللندنية ، ثائر في خفر الشاعر المحترم نفسه ، وطوباوية الإنسان المفعم بالإحساس، المرهف الشعور. قراءة بن يونس ماجن تلذ في كل حين ، أسلوبه سهل المنال ، في طيات كلماته فضائل . "
الديوان عبارة عن مقاطع شعرية مرقمة من (1) إلى (64) تختلف في الطول و القصر حسب وحدة السطر الشعري من (02) سطرين إلى (32) سطرا ، ويكون بهذا التوزيع المقطعي قد سهل على المتلقي قراءة الديوان بتهوية نفَسية دون ملل أو ضجر .
صلب الديوان : بن يونس ماجن هوايته وهمه أن يكتب شعرا حزينا و يسافر في مجاهل بحوره، يبحث عن الإلهام في دجى الحزن و وشائح الألم ، ويجعل من الحزن الأكثر تداولا و حضورا في اقترانه المباشر باليومي ظاهرة نصية ذات علامة ودلالة ...
" هذا الجسد المشاكس تجلس على أصابعه تماسيح جائعة و تنمو على جراحه ظلال الحزن كأن الألم يسافر فيه بحس طقوس غبية الألم الذي يختبئ و يظهر حيث الانتظار الطويل (..) " المقطع (42) ص (30 31 )
يكتب الشعر بلغة تستوطن الذاكرة ، ومع كل مقطع يوقع كناش الغربة من محبرة الألم بمداد الحزن ، يتناول جراح الأرض المؤلمة و آلام الوطن المزعجة حتى حدود الإبداع الممتع ، تراه يتأمل ويتألم ، وفي روعة الشعر يتوغل ، يخترق الأفئدة بطيب المجاز ، الشعر موطنه ، عملته الكلمة الحالمة ، نشيده الحب والحياة ، يكتب الأحزان العذبة بحبر الاغتراب ، يقبض على جمرة الشعر الملتهبة المحرقة ثم يدعها تتأجج ، فيعيد القبض عليها من جديد ، إنه الشاعر الذي ينكتب به الشعر ، ويحمل أحزانه وآلامه في دواوينه . في غربته احتك بشعره بتجربته واستثمر قريحته، فصارت القصيدة ورشته . تجربته تلامس الاغتراب والوجدان ، وقصيدته ترتدي عباءة الوحدة وتنتعل خف غربتها فتشهد أن الشاعر لا يدعي شيئا غير إنسانيته الكبيرة ...
" تمنيت لو لم أكن شاعرا إنني أهدرت وقتا طويلا في الحصول على بطاقة إقامة شرعية في جمهورية افلاطون لكي ابني بيتا للشعر في مدينته الفاضلة . " المقطع (51) ص (42)
يكتب الشاعر ساخرا بحكمة شاعر متميز ، وفي شعريته رسائل قصيرة تصل بسرعة رقاص على صهوة براق ، يكتب الشعر الساخر ، وهذا المراس يتطلب رهافة أحسن بالإضافة إلى النضج الكبير ، وقد قال نيتشه : " إن الإنسان القوي ذا الإرادة العالية هو من يضحك من مآسي الحياة " وهو الشاعر الذي يبكي دون أن يذرف الدموع ، ويضحك دون تصنع بحيث لا يعرف الضحك الأصفر موضعا على محياه ، يكتب القصائد بلون الماء ، ويلج الصمت ليكمل البياض ويكلمه .. يكتب الشعر بصدق لا يبرره إلا الوجدان الحقيقي ، لا يكتب ليتجاوز زمانه ، وهو يتألق بين الحزن والألم في الغربة ، يبحث لقصائده عن خصوصيات جمالية تمنح القارئ الهدوء وتقاسم الأحزان .. كما يحسن تصريف التعاطف بالأحاسيس وهو يبذل الجهد الفني والشعري حتي تكون القصيدة في أحسن حال وأطيب مقام ، ومن خصاله الفنية أنه يصدق الشعر، لأن الشعر يتالق مع الصدق ويتنافر مع الإدعاء و الكذب ...شعره نابع من القلب وصوب القلوب يتجه، نصوصه تتولد وتتناسل وتسير نفسها بنفسها وهو المحلق في فضائها ، في سماء القلب ينسج شعره الحزن والألم ويحفر في قرارة المتلقي بدقة متناهية ، هذا ما يجعل قصائده تزخر بما يميزها عن غيرها أسلوبا ومضمونا وهو يقودها عبر التدرجات المختلفة والمدارات الصعبة نحو الوحدة الفنية وتلاحم الأجزاء . ظروف قصائده غير واضحة ، في عاصمة الضباب لندن يكتب القصائد الساخنة ، وفي مدينة وجدة العاصمة الشرقية للمملكة المغربية يكتب القصائد الباردة ، هو الشاعر الذي لا ينهزم ، يحث على الصعاب ، يرضى بالاغتراب ، ولا يستسلم ... تأتيه اللغة من الأعماق ، ومن بلاد الغربة يصلنا صداه ، يكتب الشعر بالقلب والجوارح ، لا بالقلم ومفاتيح اللوحة والأزرار ، نحس به في النصوص منفعلا إلى درجة الحزن والألم ، وقد أعلن مؤخرا تورثه على الشعر الحديث ، فركب حصان الجموح ليبدع شعرا جديدا ؟! الشاعر بن يونس ماجن شاعر ينتصر للحزن والغربة .. شعره مفعم بدخان الجرح والألم ، يخاطب البصيرة ويحاورها .. نعم الحزن يعم القلوب قبل أن يعم الوجود ، يحنط الفرح ويقيم له قداس التأبين في مآتم لا ضفاف لها ، نعم الحزن ديوان وجودي وبلهيبه يصطلي الشعراء. هناك من يتلذذ الحزن والأسى ، ولا يعرف للفرح والسرور بابا ، وهو يشكل لدى بعض الشعراء عاملا من عوامل الكتابة وغديرا من رحيق الإبداع والإلهام ومن جملة هؤلاء الشعراء الشاعر بن يونس ماجن .
" وأنا أدخل عامي الستين أعبر نفق السنين الباقية أعترف أني لست بالوريث الشرعي باءت حروبي كلها بالفشل هذيان حتى الثمالة يتربص العمر بي في نفق ضيق معتم .." المقطع (64) ص (55)
للحزين إحساس لا يتوفر عليه الفرحان ، وله عين يرى بها ما لا يراه المسرور، وبدهشة الانخطاف المبرق أتمنى أن نعود إلى نقاء هذا العالم الذي أطالته الضمائر الطاغية التي تفسد فيه وتتغيا الإثم والعدوان ، وهي من المسببات والمدخلات الساسية التي تجعل من الحزن شبحا عملاقا يجثم على الصدور ، ومن المخرجات يأتي الشعور بالأحاسيس والانفعالات الناتجة عن الشعر المتخن بالحزن والألم والذي تنام القصائد في حضائره . هيا نقايض الحزن بما يشاء الكون ، ولو بقليل من الفرح والسرور... نعم الذات مليئة بالجراح، ومن مشفى الشعر نستقي السرور والفرح ، كل حزين يحب الحياة ويحلم بمستقبل أفضل مادام يكابد صامدا في غم وهم ، وحين نسائل كوامن الذات ، نجد في الحزن حزنا، وفيه كذلك صبر جميل يعلمنا كيف نحزن بقوة التحكم والتحمل ...
كلام الختم :الشاعر بن يونس ماجن أهل لكل اهتمام ، وديوانه " أسد بابل يختبئ وراء تمثال السياب " أهل لكل القراءات ، شعره دائما كما هو مبدع له ، لا يخضع لتعقيد أو تكليف ، وإنما هو سهل ممتنع وبسيط منفلت ، يستظل بشعرية متقدة تُلمح إلى الحزن الذي يشد الشاعر إليه، ويجعل شعره أكثر كثافة و هو يستحضر تساؤلات عدة تروم الوجود وتنطبق على الذات ، تشكل في حد ذاتها حصارا إبداعيا رفيعا سرعان ما يرفع حين تنحت له اللغة الشعرية الهادرة كلمات إنسانية واصلة من توقيع الشاعر المميز بن يونس ماجن .