صدر مؤخرا للشاعر عبد الهادي روضي مجموعة قصصية تحت عنوان “تماثلاث “، جاءت بعد تخصصه في الشعر والنقد؛ إذ أصدر ديوانيين شعريين على التوالي: “قليلا بعيدا” و”عزلة النهر” ثم كتابا نقديا “أحفاد القصيدة” . وإذا دققنا النظر في هذه المجموعة القصصية نجد أن الشاعر لم ينسق وراء لغة الشعر التي نحتها في ديوانيه؛ إذ دفع باللغة الشعرية إلى حدودها القصوى فاتلا جل قصائده بأسلاك من المجازات والاستعارات والصور البليغة، فكانت لغته هنا سردية شفافة تتناسب مع السرد الذي ينأى عن اللغة الغامضة، وينحو منحى اللغة السردية المنسابة والشاعرية التي تتناسب و تقنية كتابة القصة. وسنروم في هذه الورقة تقديم مقاربة تداولية لهذه الأضمومة لاستجلاء بعض خفاياها.
1-1:ملخص المجموعة القصصية: تنتمي جل قصص المجموعة إلى العالم الواقعي، بعيدا عن كل ماهو غرائبي وعجائبي، فالكاتب نجح، إلى حد بعيد، في فتح المتخيل الإبداعي على العالم الواقعي وما يمور فيه من ظواهر غريبة تسللت إلى المجتمع الذي تآلف معها حتى ترسخت في المخيال الجمعي الهامشي وأضحت مألوفة وعادية. حاول المؤلف ببراعة، في هذه المجموعة القصصية، وضع الأصبع على مكامن الخلل الذي يشوه الواقع، وذلك بالاستناد إلى عالم التخييل الذي تتمثل قوته في ذلك البعد المعرفي الضمني الذي يتضمنه ولا يمكن إدراكه مباشرة. وفي هذا السياق يرى الدكتور سعيد جبار أن العلاقة بين الواقع والتخييل لا تتحدد فقط في الجانب المعرفي الذي يمرره خطاب التخييل،” بل العلاقة بينهما تبقى وطيدة وعلى مستويات مختلفة ومتداخلة. فالتخييل يستلهم عوالمه من الواقع، ويقصد إلى إعادة بنائه في صورة يعتقد المرسل أنها النموذج الذي يجب أن يكون عليه. ومن ثمة فإن عوالم التخييل تتداخل فيها الكيانات التخييلية والكيانات الواقعية. وإذا كانت الأولى تكتسب مشروعيتها من خلال ما تحمل من دلالة إيحائية ضمنية حول الواقع، وما تعبر عنه من حقائق، يعتقد المرسل في صدقيتها، ويعمل على إقناع المتلقي بجدواها وفاعليتها، فإن الكيانات الواقعية التي تتسرب إلى عوالم التخييل تكون من جهة داعمة لهذه الدلالة الضمنية التي يقصدها المرسل، وتفقد في غالب الأحيان من أجل القيام بهذه الوظيفة، العديد من ملامحها الواقعية الحقيقية، لتكتسب ملامح جديدة تتلاءم وعوالم التخييل التي تتحرك فيها. التخييل إذن محيط معرفي ممتد الأطراف تتحرك فيه الذاكرة الإنسانية لتبدع من خلاله ما تعتقد أنه يلامس الحقيقة في بعض جوانبها، وترى فيه نموذجا لما تطمح إليه وترغب في تحقيقه”. وعلى هذا الأساس اختار الكاتب “تماثلات” عنوانا لمجموعته القصصية، وهو كما يظهر جاء عبارة عن وحدة معجمية واحدة فقط، معتمدا َإضمارا وحذفا من أجل التبئير على لفظة العنوان. إنه يحمل معاني شتى وتأويلات دلالية متعددة. فهو يحيل على وجود أشياء تتماثل وتتشابه مع أخرى ، ومن ثمة نفترض وجود شيء أصلي وشيء مشابه له. جاء في لسان العرب: “مثل : مثل : كلمة تسوية . يقال : هذا مِثْله ومَثَله كما يقال شِبْهَه وشَبَهه بمعنى ، قال ابن بري: الفرق بين المماثلة والمساواة أن المساواة تكون بين المختلفين في الجنس والمتفقين؛ لأن التساوي هو التكافؤ في المقدار لا يزيد ولا ينقص ، وأما المماثلة فلا تكون إلا في المتفقين، تقول : نَحْوُه كنَحْوِه وفِقْهُه كفِقْهِه ولونُه كلونِه وطعمُه كطعمِه، فإذا قيل : هو مثله على الإطلاق فمعناه أنه يسد مسده ، وإذا قيل : هو مثله في كذا فهو مساو له في جهة دون جهة ، والعرب تقول : هو مثيل هذا وهم أميثالهم ، يريد أن المشبه به حقير كما أن هذا حقير. والمثل : الشبه . يقال : مثل ومثل وشبه وشبه بمعنى واحد” 2-المقصدية الإخبارية: يتحدد مفهوم المقصدية الإخبارية في ارتباطه “بما قيل، أو بالدلالة الطبيعية، وتتحقق هذه المقصدية بصورة تلقائية ومباشرة عندما يستقبل المتلقي الخطاب ويستوعب ذهنيا كل معاني الجمل والعبارات المرسلة، ويعيد تنظيمها من جديد في ذاكرته أو حافظته”. وبالتالي تتحقق هذه المقصدية بواسطة الصورة التي يرسمها المؤلف ويتمثلها القارئ وهو يتلقى الأحداث. وبالدخول إلى المتن القصصي، الذي يضم خمس عشرة قصة هي على التوالي: “الجائزة”، “ملهاة”، “تماثلات”، “بائعة الهوى”، “نون التوكيد الشديدة”، “وردة الآتي”، “جثة هامدة”، “اشتباك”، “مشاهد متقطعة”، “تقتفي خطو زوربا”، “وبقي السؤال”، “نون النسوة”، “حسرة”، “فراغ”، “انتحار”. فإننا نجد أن هذه القصص ترصد جزئيات مجتمع القاع وتخبطه وتيهه في زمن التيه، إنه يعاني على كل الأصعدة، فشخصيات قصصه محتاجة لكل شي ولأي شيء، تحتاج الإنصاف والعدل والكرامة إنها ضحية للاستغلال و التخلف والتقليد الأعمى …حتى لاتكاد تسأل هل تقسو عليها أم تتعاطف معها. في القصة الأولى التي تحمل عنوان “الجائزة” يومئ الكاتب ويغمز لأهلية من يحصل على الجوائز التقديرية التي توزع بناء على الولاءات وليس الكفاءات؛ يقول السارد في قصة الجائزة: “استيقظ صقر الوهم. دعك عينيه في صباح مبحوح. اتجه صوب دورة المياه. أزال سرواله بسرعة البرق، تبرز بأناقة ديك. أجال نظره إلى البعيد. ارتسمت في لاوعيه جائزة دسمة، تمنحها صقور حرص على ترويضها، ويحيط بها أشباح لا يتوانون عن رد جميل التربية. لا احد يستطيع الاقتراب من الجائزة. أذيع إعلانها في الصحف، والمواقع الافتراضية، تراجعت صقور أخرى عن أمر المشاركة، وهي تدرك رباطة جأش الصقر الكبير، وخوارقه في إقناع لجينة التحكيم، والفيتو الذي يملكه مريدوه.” ثم يكتب “بدا مقدم النشرة متلهفا لزف النبأ. مشاهدينا الكرام. هذه أبرز العناوين: تتويج صقر القبيلة بالجائزة، وقد جاء في تقرير اللجينة: “النص الفائز تتوفر فيه المواصفات كلها لغة وبناء ومتخيلا، والأهم أنه حظي بتزكية وإجماع الأعضاء كلهم، فاصل قصير ونعود..لاتذهبوا بعيدا”” . ونسأل من توجه بالجائزة؟ أليس المجتمع التحتي الخاضع ثقافيا هو من حمله على أكتافه إلى منصة التتويج. وفي موقع آخر ينتقد الكاتب مسألة تأثير الأفلام المستوردة في فئات عريضة من المجتمع، فنحن نعرف أن الأدب والفن يقترح بديلا وحياة أخرى تحمل معاني السمو والنبل والمثالية… لكن شخصيات القصة تتماثل حد التماهي مع شخوص مسلسلات قادمة من وراء البحر فنجدها تائهة تعاني انفصاما خطيرا بين واقعها المعاش والواقع التي تشاهده عبر الشاشة وتحلم به بل تطبقه، فنجد الزوج على علاقة محرمة مع جارته صديقة زوجته، وأخرى تركت الدراسة وتعاطت لعبة استعراض مفاتنها وهي تذرع الشارع جيئة وذهابا بعدما كانت متفوقة في الدراسة، وتلك خرجت للقاء صديقها لتعود بعدها بجنين في أحشاء بطنها. لنقرأ في قصة “بائعة الهوى”: “ونحن نخطو مسرعين باتجاه قاعة الطبيعيات.”اصطدم بعضنا بحارس المدرسة وهو يتأبط رزمة ملفوفة بإحكام. قال الأستاذ: هذه المفاجأة هدية لك منا جميعا-كان يقصد أساتذتها ومدير المدرسة-خذيها يا سلوى، لا تخجلي تستحقين أكثر، خذيها لا تترددي ثم واصلي التميز”. وفي موضع آخر من القصة يطلعنا السارد على تميز سلوى ثم المصير المأساوي الذي آلت إليه، يقول:” العزيز طارق هل تذكر سلمى الريماوي؟منذ برهة التقطتها عيناي وهي تمتطي الشارع الرئيسي في وضعية مشبوهة. لم تعد بالمواصفات التي سحرتك.صدرها يتراءى عاريا. شفتاها منمقتان بأحمر الشفاه، مفاتنها السفلى أكثر جاذبية. إنها سلوى نفسها حتى الحارس الليلي بالشارع المذكور يوافقني، سلوى نفت العالم من تفكيرها ووجدانها. صارت عنيفة وانفعالية ومادية. ذهبت مع الريح المبادئ والقيم”. ويواصل الكاتب تعرية بؤس المجتمع وما آل إليه من تخلف و ضياع؛ إذ نقرأ في قصة “ملهاة”:” “سلمها ورقة بعدما لم يستطع كبح جماح ارتباكها، واختفى كالبرق. عادت لمياء متأخرة بدقائق عن بداية المسلسل المدبلج(أنت أولا أحد) متوهجة المشاعر. تابعت بأحاسيس جياشة مشاهد وحركات بطلي المسلسل. تفاعلت مع الأحداث بعفوية ساذجة حد البكاء، تحسست الورقة التي زجت بها داخل صدرها، التحقت بدورة المياه فور انتهاء الحلقة. أخرجتها. تأملت بعناية ما كتب بخط رديء: (لمياء حين فكرت بالحديث إليك، كنت مضطرا لاختيار هذا الحل. أحبك بجنون. بجنون أحبك. إلى اللقاء في انتظار لقاء). طوت الورقة ثم مشت في تثاؤب إلى غرفة نومها، طيلة الليلة لم يخالج جفنيها النوم. تخيلت نفسها رفقة عماد في مشهد عاطفي أسوة بالبطلين…” ولم يفت الكاتب توجيه نقده اللاذع لترييف المدن وتشويه جماليتها، وإفراغ أهلها من قيم الفضيلة والخير والجمال؛ إذ أصبحت حاويات قمامتها تضم حتى البشر، يقول السارد في قصة “تماثلات”، والتي اختارها الكاتب عنوانا للمجموعة القصصية ككل: “*مؤسف ما يحدث في المدينة التاريخية؟ -ماذا يحدث بهذه المدينة؟ استجمع أنفاسه. تنهد بقوة وأردف: لم أتخيل يوما منذ أن وطأت قدماي هذا العالم، أنني سأشاهد حدثا بهذا الشكل المفجع..تصور معي…طفل لم تمض على ولادته إلا سويعات، رموا به في كيس بلاستيكي وسط الأزبال..كان حيا يرزق، هذا هو ما تحتشد حوله تلك الجماهير..ما رأيك؟”. 2-المقصية التواصلية: على عكس المقصدية الإخبارية، تستدعي هذه المقصدية “الانتقال من مستوى الإخبار إلى مستوى التمثيل، أي تجاوز الدلالة الطبيعية إلى الدلالة غير الطبيعية، ومن أجل ذلك يجب البحث في مجموعة من المرتكزات الخطابية والسياقية التي تنقلنا من المستوى الأول إلى المستوى الثاني. فالطابع التأويلي لهذا المستوى يفرض بالضرورة آليات مغايرة، ومقاربة دقيقة تضع يد القارئ على العناصر الضرورية التي تسمح بتجلية هذه الدلالة الخفية للخطاب”. وأقول دون أن أبتعد عن مضمون المجموعة القصصية التي تومئ ولا تشير،إنها جائحة الاستلاب الثقافي التي غزت المجتمع المغربي، بداية التسعينات مع مسلسلات نشرت البلادة والتسطيح والتفاهات والترهات لتصنع لنا جيلا أشبه بقصبة جوفاء فارغة؛ جيل يستلذ ثقافة الآخر و ينبذ ثقافته، التي أضحى لا يعرف عنها شيئا. إن الانفتاح على ثقافة الآخر شيء مطلوب ومستحب شريطة التشبع بثقافة وهوية الأصل، وضبطها وتشربها باعتبارها الضامن الرئيس في حفاظ المرء على خصوصيته والمجتمع على فرادته وحضارته. لقد نجح الكاتب إلى حد بعيد في تسليط الضوء على خبايا المجتمع الهامشي وما يعتوره من آفات ابتلي بها بفعل فاعل، بعد انهيار شبه كلي لأسس المجتمع على أكثر من صعيد. فلم يكن من قبيل الصدفة أن يستهل الكاتب “عبد الهادي روضي” مجموعته بقصة “الجائزة”، والتي وضع فيها الأصبع على مكمن الداء بشكل صريح وقوي على ظواهر خبيثة تسللت إلى الحقل الثقافي من قبيل:المحسوبية،الزبونية،التملق،النفاق،التبعية العمياء،وموالاة الزعيم دون القدرة على إبداء الرأي والنقد في مؤسسة ثقافية يفترض في المنتمين إليها تجديد الفكر و طرح بدائل ورسم تصورات فكرية بديلة بإمكانها تنوير المجتمع و انتشاله من بؤسه الفكري الغارق فيه حتى أخمص قدميه.إن انهيار الصرح الثقافي يتبعه آليا انهيار الصرح الاجتماعي والحضاري… لقد عرت هذه القصة البؤس الفكري الذي نعيشه، فجاءت كل القصص التي تلتها تنضح بؤسا ويأسا وانحلالا واضمحلالا…فإذا فسدت الثقافة فسد المجتمع.فالمثقف الذي يفترض فيه أن يكرس لمفاهيم القيم والنزاهة والشفافية والحب والخير ومبدأ الاستحقاق…نجده يحشد الأتباع بالترهيب والترغيب لتلميع صورته و تضخيم أناه في تواطؤ من لدن المقربين الطامحين في الحظوة والقرب لنيل مكانة غير مستحقة. صفوة القول،إن هذه المجموعة القصصية عملت على رصد بؤس المجتمع المغربي الذي يتسع يوما بعد يوم، بعد فراغ الساحة الثقافية أو بعبارة أدق،بعد تمييعها وإفراغها من قيمها التي وجدت لأجلها،ولأجل ذلك كان لزاما أن ينهار المجتمع. إن “تماثلات” إدانة لتوجه خاطئ يسلكه المجتمع، ويتمثل في تسطيح الوعي و نشر التفاهة، وتشييد الحجر دون الاستثمار في بناء البشر. إنها ناقوس خطر للرجوع من الحافة. هوامش -سعيد جبار: من السردية إلى التخييلية.بحث في بعض الأنساق الدلالية في السرد العربي.منشورات ضفاف.دار الأمان،الرباط.الطبعة الأولى:1433-2012.ص:61 – ابن منظور،لسان العرب .المجلد الحادي حشر.دار صادر،بيروت.ص:610 – سعيد جبار: من السردية إلى التخييلية.بحث في بعض الأنساق الدلالية في السرد العربي.منشورات ضفاف.دار الأمان،الرباط.الطبعة الأولى:1433-2012.ص 96 – عبد الهادي روضي:تماثلاث. مطبعة النجاح الجديدة-الدارالبيضاء.الطبعة الأولى.إديسيون بلوس.ص:6 – المرجع نفسه.ص:8 -عبد الهادي روضي:تماثلات.مرجع مذكور.ص:21 – عبد الهادي روضي:تماثلات.مرجع مذكور.ص:22 -المرجع نفسه.ص:10 -عبدالهادي روضي:تماثلات،مرجع مذكور.ص:17 -سعيد جبار: من السردية إلى التخييلية.بحث في بعض الأنساق الدلالية في السرد العربي.مرجع مذكور.ص:98