صدرت للقاص أحمد بوزفور مجموعة قصصية بعنوان « نافذة على الداخل « منشورات طارق 2013، وهي تتكون من اثني عشر نصا قصصيا، موزعا على مساحات نصية تختلف من حيث الطول والقصر، ومرتبة ترتيبا موضوعاتيا ، حيث منح المؤلف السارد لكل مساحة نصية عنوانا دالا يلخص مضمون القصة، و يفتح شهية القارئ للتعاون مع منتج النص في بناء المعنى ، و تشييد عوالم سردية طافحة بالإمتاع و المؤانسة. ( المكتبة شخصيات خاصة جدا، التعب، الوحشة، الحزن، البكاء، الحب، الفرح، الصمت، الظل، الشك، الكهف). إنها مساحات نصية طافحة بدلالات عميقة تلملم جراح الذات المبدعة، التي تضمر نقدا خفيا للأنساق المعرفية، والثقافية السائدة، ومن ثم ينبغي قراءة هذا العمل باعتباره نصا واحدا لا يقبل التجزيء، لأن كل قصة ستمارس غوايتها على القارئ باصرار وعنفوان ولا غرو فالقاص أحمد بوزفور يعد بحق وحقيق الأب الروحي للقصة القصيرة، تربى في كنفها وارتوى بمائها ، بل إنه من الكتاب الأوائل الذين نسجوا علاقة خاصة مع اللغة التراثية، والأنساق السردية والثقافية، التي تتفاعل في قلب وقالب هذه اللغة، إن على مستوى الكتابة النقدية أو الكتابة الإبداعية، القصصية منها على وجه التحديد وتأسيسا على ما سبق فإن القارئ المؤهل لتأويل المقاطع السردية التي يحفل بها هذا المتن القصصي هو القارئ الذي راكم سجلا موسوعيا حول القصة القصيرة بكل تجلياتها و تفاعلاتها . إن السارد في هذه المجموعة القصصية ? نافذة على الداخل- قد أجاد رسم ملامح الشخصيات، والفضاءات، وأخضع المساحات السردية لمنطق السرد ، واعتنى بالمحكي الإطار والمحكيات الصغرى في نص متناغم ومنسجم . وكل مقطع سردي يدخل في حوار عميق ورصين مع أحداث مفترضة نتفاعل بدورها مع عوالم تخييلية غائضة في عوالم نصية تحفل بالعجيب والغريب، وتجد سندها في المتناقضات والصراعات التي يحفل بها الواقع في فضاءات معروفة جدا ( العمالة، البلدية ، المحكمة ، الكوميسارية ، الشركات ، المكتبة...) إنها فضاءات قصصية بهية ومائزة تفتح شهية القارئ للتعاون مع منتج النص في بناء المعنى و تشييد القوانين الداخلية التي تشكل البنية العميقة للسرد . إن المتلقي لهذا العمل الجاد سينخرط عبر فعل القراءة العالمة في لعبة السرد عبر صوغ أسئلة مستفزة لهذا المتن القصصي البهي والممتع ، فهو يقترح بشكل ضمني مؤشرات وعلامات ، وأيقونات تأخذ بيد القارئ المفترض لإعادة بناء النص ، وتحيينه وتحقيق فعل السرد. نقرأ في القصة المعنونة « المكتبة « ما يلي: ( كتاب غريب، حين قرأته لأول مرة، كان يحكي قصة السندباد ، و أعدت قراءته في الغد فوجدته يتحدث عن قصص الأنبياء ، ثم وجدته في اليوم التالي يستعرض سيرة الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور . كتاب سحري يتجدد كل صباح ، ربما لذلك كان عنوانه الذي لا يتغير أبدا هو « المكتبة « ، لم أكن أرتاح إلا وأنا أفتح كتاب « المكتبة « فأجد في كل مرة عالما جديدا كتاب لا يقرأ مرتين... كالموت.... و خرجت إلى الدنيا حيث كان لي في كل يوم كتاب أكتبه بجسدي ، و أنا أصارع الأخطبوط من أجل لقمة العيش...- ص6 -8. هذه بعض المقاطع السردية التي لا تكتفي بالنقد والسخرية، بل إنها تبحث عن وعي ممكن يشيده القارئ انطلاقا من المؤشرات النصية التي وفر لها المؤلف السارد كل مقومات النجاح وهو يشيد عوالم نصية في تفاعلها مع الذات المبدعة التي تصارع الأخطبوط من أجل لقمة العيش ، وتدخل في حوار عميق وهادئ مع عمرو بن عبيد ، بل إنها تتوغل عميقا في منعرجات قبيلة التانكا أو سولارو باحثة عن مسميات لاسم واحد، والقارئ الفطن هو الذي سيبحث عن تحولات الاسم ، ولا يكتفي بالتحول من سولارو إلى هواء الذي سيتسرب إلى رئتيه? كما سيتسرب إلى رئتيه ، كما تسرب إلى رئة السارد مع الأوكسجين. إن مقصدية المؤلف السارد في هذه الأضمومة القصصية يمكن في التعبير عن مضمرات الذات المبدعة القلقة عبر صوغ أسئلة وجودية مبطنة بالأحزان والهموم الثقافية والحضارية الراهنة في فضاء زمني يتسم بالتوتر. ومن هذا تأتي أهمية هنا العمل القصصي الذي يؤصل لتجربة ذاتية في الكتابة الإبداعية، جديرة بأن يستفيد منه جمهور القراء في حقب زمنية مختلفة، لأن الأمر يتعلق بمراس طويل في الكتابة القصصية، مراس سكن الذات المبدعة فارتادت مسالك السرد الوعرة، تحفزها على ذلك غاية إنسانية نبيلة ولا غرو، فأحمد يوزقور عاشق للقصة، وقارئ نموذجي للعوالم القصصية البهية والممتعة،وأهل مكة أدرى بشعابها ، لذا عبر عن تجربة عميقة تختزل نظرتها إلى الوجود وفلسفتها في الحياة، إن القصة القصيرة قد أعادت للذات الساردة لتنطلق بكل عفوية وتلقائية في إثارة الحسن البصري، وجعفر المنصور، والمحافظين، والانتهازيين، والضحايا، والمضطهدين والمطرودين، وإشراكهم في لعبة السرد. إن الذات المبدعة قد استوعبت الأنساق الممثلة لروح العصر وطوعتها للتعبير عن تجربتها الخاصة ، والتصدي للأنساق الثقافية والحضارية التي تراها عديمة الجدوى في إغناء مفهوم السرد. إن انفتاح الذات المبدعة على الأنساق الثقافية التي تمثل روح العصر مؤشر قوي على رغبة السارد في إشراك المتلقي المفترض في الكشف عن هذه الأنساق، وما تضمره من تناقضات، ومفارقات، وظواهر ميزت الزمن الحاضر. إنه إحتفاء جميل ورائع بالقارئ باعتباره قطبا أساسيا يعيد للعمل القصصي بهاءه ورونقه يقول السارد : ( دخلت المدرسة متأخرا وأنا متزوج ، لكني كنت قد قرأت كتبا كثيرة من قبل ، وكان كتابي الأثير الذي لا يفارقني هو سيرة اينشتاين ، كنت أحلم بأن أكون عالما مثله وحين قرأت في سيرته: ( هذا الاحتقار للسلطة لم يحببه إلى معلميه الألمان بالمدرسة ، ونتيجة لذلك أعلن أحد مدرسية أن وقاحته جعلته شخصا غير مرغوب فيه ، وعندما أصر انشتاين على أنه لم يرتكب أية مخالفة، رد المعلم : هذا حقيقي ، لكنك تجلس في الصف الأخير وتبتسم ... وهذا يفسد احترام الفصل لي). حين قرأت ذلك نفذته على الفور : أخذت أجلس في الصف الأخير و ... أبتسم والمعلمون يغتاظون ...» (ص63). إننا أمام متتاليات سردية تلخص لحظات زمنية دالة في حياة السارد في علاقته بانشتاين الفيلسوف المشهور ، ومن ثم فان القارئ سينجز عملا استدلاليا للربط بين المفاصل الزمنية على اعتبار أن النص القصصي هو نسيج من الفضاءات البيضاء والفجوات التي تنتظر من يملأها. اخترت هذا المقطع السردي السابق لأبين فقط أن القصة القصيرة هي إوالية تعيش على فائض المعنى لأن وظيفتها جمالية تترك للقارئ المبادرة التأويلية لخلخلة معنى الزمن في مختلف أشكاله ، أي إن البعد الزمني في هذه المجموعة القصصية يحتاج إلى من يساعده للاشتغال. إن السجل الموسوعي للقارئ ينبغي أن يستضمر قوانين اللغة الشعرية لإعادة صوغ الأفعال السردية من منظور جديد يعيد للفضاءات القصصية بهاءها ورونقها لأنها تسلط مزيدا من الضوء على نفسية الذات المبدعة المتأزمة التواقة إلى كتابة الكتاب بالجسد ، ومحاوره سكينة بنت الحسين كما يحاور المبحرون على الشبكة العنكبوتية أدب غوغل ، وكافكا ، وعبد القادر وساط. إن نصوص أحمد بوزقور القصصية تشيد لسرديات الزمن الحاضر ، وما يحيل عليه من تناقضات ، ومفارقات ، وصراعات ، مجتمعية ، وفضاءات خاصة بالإنتاج والتلقي ، وهذا يدل على أن الذات المبدعة قد استوعبت عوالم ثقافية في امتزاجها بعوالم تخييلية تخترق فضاءات العولمة بمختلف تجلياتها وأنماطها. إن الكتابة عند أحمد بوزقور قد استوعبت خطاب البوح بألم الكتابة ...وحرقتها ، وطوع هذا الخطاب للتعبير عن هموم العصر الذي نبع فيه ، بعد أن امتلك وعيا كبيرا بالقيمة الرمزية والأنطولوجية للغة ، واحتكم إلى سلطته الفكرية والعقلية لتأثيث فضاءات الكتابة في مجموعته القصصية « نافذة علم الداخل « مؤسسا لكتابة سردية تنشد فضح الواقع الذي أفرز تناقضات حضارية ، وهذا يدل على أن الكاتب قد استوعب مختلف الأنساق المعرفية والأدبية والفلسفية ، المشكلة للنسق السردي في الثقافة المغربية. إنها كتابة ذاتية يجد فيها المتلقي بعضا من طموحه وأحلامه، إنها بنية سردية تتقاطع فيها الأنساق الثقافية التي تتفاعل مع شؤون المجتمع وقضايا العصر توجهها رؤية سردية واسعة مكنت الذات المبدعة لتنخرط بشكل تلقائي في نقل أحداث تتصل اتصالا مباشرا بالمعيش اليومي ، وتدين بقوة مظاهر الزيف المتفشية في المجتمع، وتسائل في العمق شرائح اجتماعية تجد نفسها مرغمة في الانخراط في ما ينعت بروح العصر.