«الساهر كالعنف» هو عنوان أول إصدار قصصي للكاتب والشاعر موحى وهبي، الذي رأى النور في أواخر سنة 2009، ضمن طبعة أنيقة من القطع المتوسط عن المطبعة والوراقة العصرية بمدينة مراكش . و تضم المجموعة بين دفتيها ثلاثة عشر نصا نعرض عناوينها تباعا كالتالي: الكدية طلسم أرسطو الأقواس يانوس الساهر كالعنف العرض الأخير النقار البيديون دم المتنبي زيارة الشيخ الوعدوي وما يتصل بها من أخبار وأحوال جماجم ومرايا زكاة عيد فطر الحمام السجود للساق. و يستأثر باهتمام القارئ عادة في أي عمل سردي أو قصصي تركيبة عوالمه المتخيلة (1)، لذلك ينشغل فعل صيرورة قراءته باقتناص المتاح من مدلولات صور هذه العوالم، حتى يؤطرها إبداعيا وجماليا، هذا مع رسوخ مسلمة مفادها أن النص لن يؤول كما أراد له مبدعه، بل وفق ما ترتضيه مشيئة القارئ وإرادته. و على هذا الأساس إذن، سأحاول أن أدنو من نصوص مجموعة»الساهر كالعنف» مقاربا مظاهرها في التسريد، وما تشيده من صور متخيلة، مع استبار دلالاتها الممكنة والمؤسسة، وذلك في ركاب تواشجها الحميم مع أسئلة الكتابة القصصية والرؤية التي تنتظم فعلها برمته. فحين نمضي ممعنين في اسقراء مظاهر الانتظامات التسريدية والنصية، نلمس حضور آثار حساسية مشوبة بكثير من الحذر والحرص، إنها حساسية مفرطة في الوعي بأدوات الإبداع القصصي، التي تدار بحنكة الصوت القاص وخبرته، فثمة حبك دقيق ومتين لعناصر غائرة التفاوت والتنوع في خضم تركيبة متخيل متعدد الأبعاد و الدلالات (2). يتراءى كل نص في المجموعة نازعا عن كيانه صفة النص الموقع،في حين يتأكد تجدر انتسابه جينيالوجيا لطينة النص الأهوائي، إذا جاز لنا أن نستعير هنا التوصيف النصي الدريدي. إن مجموعة «الساهر كالعنف» لا تخفي معالم انفتاحها واستحالتها إلى ملقى نصي كبير هادر بالتعددية الصوتية والحوارية العميقة بين الخطابات واللغات، لحد إغالها في منطقة الهجنة، التي تكسر استتباب الأحادية الأجناسية، وتنزع عن النص رداء وقاره المتحصن، إذ تبدد الهجنة صفاءه الأجناسي، وتهدد نقاءه النوعي، إنها دون شك خنثوية التركيب والبناء القصصي، وذلك بما يطفو على فضائه من صخب التجاذب والتفاعل والتحاور بين شتى الشظايا الوافدة من أجناس تعبيرية أخرى،أو من أرخبيلات خطابية، أو سجلات لغوية وكلامية مختلفة. فمنطقة الهجنة هي بامتياز منطقة التجادب بين مؤتثاث التخييل ومسترفداته من المرجعي التخييلي(النصوص السابقة) أو المرجعي الواقعي، أو بمكنونهما معا من أمكنة وأزمنة وأسماء ومسكوكات، وفي هذا الحيز أيضا تتكشف التوترات والمفارقات التي تفضي إليها تركيبة الهجنة آن بنائها للمتخيل القصصي. وتجترح مجموعة»الساهر كالعنف» عبر اشتراطات الجنس القصصي موضوعات متنوعة، مستثمرة الهجنة على مقاسات ونبرات وإبدالات مختلفة. فما كان مؤسسا لانتظام التسريد في هذا النص، لن يكون ذاته بالضرورة في نص قصصي آخر. فإذا انطلقنا من نص»الكدية» الذي صدرت به المجموعة سيتبدى من الوهلة الأولى أن جنس هجنته ينهض على توظيف خاص لإطار حكاية محاكمة جاليليو من طرف السلطة الدينية للكنيسة، باعتباره خلفية مرجعية لها امتلاؤها ومضاعفاتها الثقافية والتاريخية، فالمحكي القصصي لا يستنسخ السياق المرجعي حرفيا من خلال تفاصيله، ضمن استراتيجيته في التدلال، بل ينأى عن تكراره باسقاط أجزاء هامة من تفاصيله الحقيقية. وبهذا ينجلي وجه اللعبة التجادبية بين التخييلي والواقعي. فالاسترفاد لا يتعدى حدود إطار الحكاية عبر دلالات الأسماء: جاليليو ريتشيليو الكرادلة النبلاء الجمهور أو الأفعال: المحاكمة التجربة الإختبار وهذه الاستعارة من المرجعي توحي بتبني بلاغة سردية قطبها المجازي مشدود لعلاقة النص المستعار بالنص المستعارله، أو المشبه بالمشبه به، بين الماضي والحاضر، كما سبق وأنبأ عنوان المجموعة بذلك، ولم يكتف السارد بسكب كيان تخييلي في رحم حكاية جاليليو، بل استدعى إحالات وتلميحات من مرجعيات أخرى مختلفة ومتباعدة عبر الأسماء حينا: أرسطو ابن رشد ابن زهر...أو الأمكنة حينا آخر: مراكشجنوب إيطاليا بلاد الشام قناة السويس...مؤثثا بهذه الشظايا مادة تخييلية تشيدت داخل إطار حكاية جاليليو، حيث تبدو نتوءات تراجيع صدى الشظايا حاملة لفائض المعنى الحكائي والتخييلي. و إذا كانت محاكمة جاليليو بإيحاءاتها القوية إلى سلطة الكنيسة المصادرة لحق حرية الفكر والاجتهاد العلمي، فإن هذه الصورة سرعان ما يتجاوزها المتخيل القصصي الهجين، بحلحلة مصداقية المادة المرجعية في سياقه، الذي تتخلله نبرة ساخرة نلامس أعطافها في تقويمات السارد البارودية المحاكية للموقف اللفظي العادي لوسط اجتماعي موال لسلطة الكنيسة، وهو ذاته خطاب هذه السلطة التي تحاكم جاليليو. ويبقى مآل محاكاة السارد البارودية مستهدفا تنسيب حقيقة خطاب السلطة الكنسية، ومعها رأي اللغة الجارية، أو الرأي العام، الغفل، كي تقعر سلطة الخطاب الرسمي المجرُمة و دعاويها المستبدة. وتتصاعد النبرة الساخرة بنتف المفردات المستمدة من سجلات لغوية مختلفة:الجيكو دبح حلوف من حلاليف دير القديسة «جان» المقص الكرطيط.. تتمدد إذن أطروحة المتخيل عبر الصوغ الهجين، الذي تتحرك فيه الشظايا في اتجاه بعضها البعض، كي تمنح الانسجام المطلوب لرؤية قصصية احتفالية بارودية مجاوزة لقيد اشتراطات الزمن والمكان والشخصيات، متقصدة فضح وتهديد ونبد كل سلطة دوغمائية بشتى صورها، التي تجرم حرية الفرد في التفكير، أو تحاكم فكره المخالف والمختلف. وفي إبدال آخر للهجنة القصصية نقف عند نص» الأقواس»، الذي انطلق فيه مجرى الحكي بتآلف الصور الوصفية والسردية للإمساك بتلابيب مشهد حركة اليد، وهي ترسم أقواسا وأشكالا، ومن خلال هذا المشهد يستدرجنا السارد إلى التفكير في وشائج العمارة بإحساس الفنان، ويجري الاستدراج استطرادا، إذ تتفاقم نبرته سرديا عبر حكاية الوزير الذي طلب من أكبر مهندسيه و أعتاهم أن يبني له قصرا بمواصفات خرافية: كأن يكون القصر لا ظل له في الليل والنهار، وفاضحا للدسائس والمؤامرات، وشفافا تختفي فيه تلك الدسائس كليا وبالمرة، يرى فيه الكل الكل ولا يرى منه الوزير أحدا من هذا الكل. إن موقع هذه الحكاية المستطردة في مجرى الحكي القصصي لا يخلو من روح الدعابة والسخرية الشفيفة. و تستدعي صراحة حكاية طلب الوزير بملامحها العجائبية استحضار تلك المرجعية المتخيلة والثقافية،التي شيدت جوامعها النصية ألف ليلة وليلة، وكليلة ودمنة، وهذا النص الأخير تمت الإحالة عليه في قصة «الأقواس» ضمن ما استشهد به العبد المساعد للمهندس من كلام منقول عن الأسد في باب القرد و الغيلم، وذلك لتأكيد استحالة البحث عن هندسة المثال المطلوب، وتجدر الإشارة إلى أن المادة المنقولة في هذا الاستشهاد خضعت للحذف والإضافة والتغيير،فلم يعد انتماؤها للنص الأمثولي سوى بذكر اسم الباب لا غير، لقد أحال التسريد القصصي مزيج شظاياها إلى محاكاة نصية بعينها، قصد السارد أن تكون متقاربة من حيث صبغتها العجائبية، وبهذا كان المحكي القصصي في «الأقواس» يحاكي نبرات نصوص عجائبية في تركيب هجنته وبالتالي متخيله. ويخترق خط الاحتفاء بالتاريخ المنسي قصص عديدة ونمها» النقار»، التي استعاد فيها الحكي القصصي ما كان يمارس في البادية من حرف، وتحديدا حرفة تعيين مواطن حفر الآبار. إذ يدنينا النص منها من خلال سيرة ثلاث شخصيات متفاوتة عمريا، مقتنصا ملامحها وطباعها وأمزجتها، وصورها في متخيل سكان القرية وعاداتها. و يمتد النص على مساحة تتلاحق فيها لحظتان: الأولى تحيل على مجد حرفة» تنقارت»، والثانية حيث اندثار حرفة النقار. وعلى خلاف ما انتهينا إليه في البناءات المهجنة في القصص السالفة، كان نص»النقار» مهجنا في لغته، التي رقشتها سجلات الكلام الدارج و الأمازيغي، إلى جانب السجل الخاص باللغة الفصيحة، ومن الشظايا التي صار انوجادها في المحكي هجينا تلك اللقطة التي شاهد فيها الكاتب الضمني على شاشة التلفزيون الوطني جريمة قتل ترتكبها امرأة ودمية. و هذه اللقطة وظف فيها السارد القوسين، وربطتها من الناحية السردية علاقة تجاور، من جهة، مع محكي قصصي صغير يروي كيف تحولت غابات اللوز إلى فحم، لكنها من جهة أخرى دلالية تعضد قصدية تخييلية قصصية تستجلي تاريخا منسيا ومهملا، لا يعدو مجازيا أن يكون مهددا بالموت و الانطمار. ولقد استثمر النص بغزارة معطى الهامش لإثبات الشروح أو التعليقات أو التوضيحات أو لترجمة سجل اللغة الأمازيغية إلى العربية أو العكس، وأحيانا يتحول الهامش إلى إمكانية للنبش في معجمية الألفاظ الواردة في السجلات الكلامية، وبهذا تتنضد اللغة القصصية في شكل نبرات تستدعي مخزونها أو تحيل عليه. فتفضي الهجنة على مستوى تركيب السجلات الكلامية وفق منحنى التفاعل إلى هجنة تخييلية في صورنة لا تستقر فيها الدلالة السردية على بعد واحد، بل تغدو صاخبة وضاجة بما علق في طياتها من احتمالات المعنى، في ركام الاستدعاءات التي يقتضيها عنصر البحث، بحسب البرامج متنافية ومتقابلة وأحيانا متضاربة، وهنا مكمن اللعبة البوليفونية، التي يأخذ فيها كل صوت حيزه الممكن في رصيد الاحتمالات. ويعبر التجاذب في السياقات والإحالات والأشكال في قصة»زيارة الشيخ الوعدوي» عن نمط دقيق في تركيب الهجين، حيث يجري تسريديا احتواء تدبير الكثرة النوعية لا الكثرة العددية، فاشتباكات النص واضحة مع عينات ليست شظايا نصية حرفية، بل أطياف وأصداء وظلال ابتكرتها آلة السارد من خلال عناوين تعاقدية، صار بموجبها النص القصصي هجنة مفتوحة على إتيروكليتية المروي الشفوي، ولغة التلقين والتقارير والتوصيات والوصايا و اليوميات واللصق/الكولاج، وتتقوى درجة نبضها وحضورها بوسمها بطابع العجائبية المغشاة بالسخرية، التي جعلت من حكاية اعتقال الشيخ الوعدوي وتعديبه حتى الموت، حكاية متعالية عما يتسع له الواقع، حتى وإن كانت هي نتاج تشعب علاقاته وتضاربها، وبما أن السخرية موقف فكري، وامكانية أسلوبية تستهدف توريط و مخاتلة البلاغة في صورة تحقق المعنى وتشكله، فإن فينومينولوجية الساخر تقرع أجراس الاستهزاء من واقع يفتقد للمصداقية في تفسيراته وتعديلاته. وإرجاء حكاية الوعدوي إلى متحكمات متخيل عجائبي ساخر، يتسع لنقد الواقع والاستهزاء منه، ومن اللامرغوب فيه، ومن السائد والبديهي، ومن المهيمن والمبتذل، منتحيا في خطابه درجة في الوعي النقدي مبطن بالسخرية. هكذا إذن تشتغل الكتابة القصصية عند موحى وهبي على تصادي سائر الأجناس والخطابات والسجلات، إنها كتابة تنهض على مبدإ النص المنفتح و الأهوائي الضاج بالشظايا، والهادر بتجاذبها وتحاورها وتفاعلها، بما يفضي إلى إغناء المتخيل القصصي وإخصابه باحتمالات ومضاعفات مختلفة في التدلال و بناء الصور. إنها كتابة احتفالية تعيد صوغ المرجعي و التخييلي وفق استراتيجيات الرؤية القصصية، ولعبتها النازعة إلى توسيع إمكانات اشتباكاتها ضمن تعدد نبراتها و بناءاتها الهجينة المدمرة لصفاء جنس الكتابة القصصية نفسه. و بهذا تؤسس كتابة القصة عند موحى وهبي مرونة بلاغتها السردية، بوعي إبداعي وجمالي يكشف عن نظرة متميزة تلاحق تناقضات الواقعي و المعيش من شرفة الذاتي والغيري، متقصية أدغال المنسي والمهمل والمبتذل في طياته. مولدة من هذا الفعل عددا من البرامج والزوايا والرؤى إن في مناحي اللغة القصصية، أو في الأصوات المنبثقة عنها. وهنا ميسم الحوارية الفاعل المخصب في خلق مناطق التجاذب والتفاعل والتماثل والتجاور، وذلك بحسب درجة الاختلاف في خارطة القيم وطبيعتها والمواقف والمواقع المتخذة منها. هوامش: 1 أقام جيلبير دوران فهمه للمتخيل على أساس ينطلق من ذلك الجواب عن القلق الوجودي المرتبط بالتجربة السلبية مع الزمن، وفي ظل التقابل بين المكونات الداخلية و الأنثروبولوجية والمجال الكوني، يغدو المتخيل آلية لتصوير الأبعاد المتمفصلة عن البنيات النفسية و الاجتماعية و الثقافية و غيرها، أو بالأحرى الوعاء الأنثروبولوجي لكل التمثلات الممكنة: انظر: - Gelbert Durand : -Les structures anthropologiques de l imginaire,ed :puf,Paris ,1960,. 2 يمكن أن ينعطف المتخيل بصوره ورموزه فيشكل جامعا نمطيا من البنيات التصويرية لها أصولها وتنظيماتها وتصنيفاتها وطروحاتها وأبعادها الخاصة.. (*) بول ريكور: نظرية التأويل (الخطاب وفائض المعنى)،ترجمة:سعيد الغانمي، المركز الثقافي العربي، ط 2003. تعمل هنا الوجوه الإستعارية والمجازية على تأمين صرح إضافي لمبدأ تأويل العلامات اللغوية.