يتسم المنجز القصصي المغربي بديناميته المستمرة وحركيته المتوثبة، وبحثه الدائم عن هدم الأنساق التقليدية في الكتابة سعيا للمغايرة والتجديد، مما يجسد انحياز المبدع المغربي إلى المغامرة والتجريب بهدف الارتقاء بالكتابة وتجسيد قيمتها الجمالية وسمتها الإبداعية بما هي فعل متحرك ومتجدد، وذلك على مستويات مختلفة منها ما يتعلق بالأدوات الفنية والتيمات والرؤى والتصورات. يندرج هذا النزوع إلى المغايرة ضمن سياق ثقافي واجتماعي حيوي ومتفاعل يتغيا ترسيخ وعي قرائي يستحضر المتغيرات الفنية والرؤى المتجددة،والطرائق المستحدثة في صناعة الكون القصصي وتشكيله ، واختراق العوالم الممكنة للتخييل والحلم ، وآفاق الكتابة المتجددة التي تعب من جمالية الحكي المنفتحة على تحولات ومتغيرات الواقع الذي يمور بالحركية والتجاذب التي تعكس تحولات جذرية ، وثورات عربية ترمي إلى التخلص من إرث ثقيل في المجال الاجتماعي ، ونسق سياسي مغلق ومتخلف ، وواقع ثقافي مزر يعاني من التهميش والمضايقة . بيد أن التجريب في القصة القصيرة ، وإن جسد في حدود معينة، محصلة لحركية اجتماعية وسياسية ملحوظة وبارزة ، فإنه بالمقابل لا يمثل استجابة حرفية ومرآوية ? لمتغيرات الواقع وثوراته .كما أنه ليس انحرافا اعتباطيا عن المألوف ونشازا يطال الكتابة ونسقها المستقر ، وقواعدها المعيارية الثابتة ، بل انه تعيير عن وعي متجدد يستمد أسسه النظرية من طبيعة الأسئلة التي تواجه المبدع في عالم متحرك ، وسياق ثقافي متحول ومنفتح على الصيرورة الثقافية والاجتماعية ، مما يجعل المنجز التخييلي يمتلك ماهية جديدة ونسقا مخصوصا ينهل من آفاق جمالية مختلفة تشمل ما هو سردي وشعري وسينمائي وتشكيلي وغير ذلك من الأشكال الإبداعية والأجناس الفنية التي تؤسس لمنطق سردي ، وشكل فني منفتح قائم على التجريب ، وحافل بالجماليات والرؤى التي تصنع حداثة متميزة ، وذائقة جمالية ناهضة على حساسية فنية مختلفة ومغايرة تنبئ بتحولات عميقة في منظومة القيم وأنماط التلقي ، ونزوع نحو تكسير أحادية النسق التعبيري الجمالي بما يؤسس للتعدد والتنوع ، والتمرد على سلطة الجاهز ، وأشكال المقولبات التي تحد من قدرات الإبداع ، وتجهز على طاقة الابتكار والتجديد ، وتضيق مساحة التخييل بشساعتها المعهودة وآفاقها الرحبة والخصبة. وهكذا ، أضحت القصة القصيرة مجالا خصبا للتطور والإبداع ، والبحث عن البدائل الفنية التي ترضي طموح المبدع في التعبير. كما تجسد مرتعا ومساحة للتعبير عن المواقف والأفكار والرؤى و الاستيهامات، وترسم معالم التغيير في مجالات العلائق والتصورات والقيم والقناعات في مجتمع يخضع لحركية بارزة وتحولات عميقة تمثل قطيعة واضحة مع منظومة قيم تقليدية ، ونزوع حثيث نحو حداثة مفترضة تحد منها معيقات اجتماعية ، وإرغامات سياسية، وذهنية مشدودة إلى نسق تقليدي ، وسلطة ثقافية محافظة مشفوعة بعنف مسلط على طاقات التغيير ، وكابح لإرادة التجاوز والانفتاح. داخل هذه الوضعية الملتبسة النازعة إلى المحافظة أحيانا ، والراغبة في التجاوز والتغيير أحيانا أخرى ، تتسلل القصة إلى عمق المجتمع راصدة رغباته ، ونوازعه واستيهاماته كاشفة أسرار مفارقاته وتناقضاته ، وذلك عبر سلطة التشخيص وآلية التخييل التي تفصح عن المخزون النفسي والوجداني والفكري والقيمي الذي يتحكم في المواقف والاختيارات ، ويفسر طبيعة المفارقات والمتناقضات والاختلالات التي تطبق على الواقع ، وتحول دون تطور المجتمع وارتقائه . وفي سياق الغوص في مكنون الذات الجماعية وعولمها استثمرت القصة القصيرة المتخيل الشعبي بوصفه تعبيرا عن الرؤى والوجدان الجمعي ، ووظفت اللغة المحلية ذات الحمولة الثقافية والفكرية الراصدة لمنطق ومنظور الطبقات العريضة من المجتمع. بيد أن صياغة العوالم التخييلية انزاح عن خصوصية القوالب التقليدية لينخرط في مسار تجريبي يقوم على تحبيكي فني ، ونسيج مغاير من سماته تكسير خطية السرد، وجاهزية الفضاء لصياغة عوالم تخييلية خاضعة لجمالية التشظي ، ذلك أن غواية التجريب دفعت في اتجاه تقويض التناغم ، ومنطق التسلسل والترابط وانسيابية الحكي لتأسيس مفهوم جديد للكتابة يحتفي بجمالية وشعرية التشظي ، وذلك عبر تسخير تقنيات المونطاج السينمائي ، ومقومات التشكيل الفني ، واستيهامات الكتابة الشعرية لصوغ كون تخييلي يستجيب لخصوصية التجريب ، وإرادة انتهاك الأشكال والطرائق التقليدية في الكتابة والحكي. وهكذا ، تحولت القصة إلى لوحة متحركة تنبض بديناميتها وحيويتها الفنية التي تتأسس على كتابة شذرية ، وتحطيم للحدود بين الأجناس ، ونزوع إلى توظيف تقنية التغريب والمراوحة بين الحلم والواقع ، وتعدد الضمائر، وتقابل المستويات اللغوية، والانفتاح على المحيط اللهجي المتنوع وغير ذلك من أشكال التحقق التخيلي والبناء النصي للمنجز القصصي ، بيد أن هذا التحول النوعي في القصة القصيرة تجاوز البناء وخطية السرد ، والتيمات، ولغة التخييل وغيرها من مظاهر التجديد والحداثة التي مكنت من تجاوز القواعد والضوابط التقليدية المتحكمة في صناعة القصة وتحديد مقوماتها.ذلك أن الانعطاف عن المنحى المعياري قادة إلى إعادة النظر في جوهر القصة وماهيتها من خلال استخدام أسلوب «ميتاقصة «الذي شكل آلية فنية للتأمل في ضوابط القصة وقواعدها ، وأنماط تشكلها وانتظامها. وذلك بحثا عن ضفاف أخرى تستجيب لمنزع وغواية التجريب. ومن تم ، فان البحث عن أشكال جديدة ، وتوجهات مستحدثة وأنماط سردية نابضة بالحياة والإبداع ، ومتساوقة مع حركية الواقع ، وسلطة التغيير تمثل ميسما وملمحا أساسيا للممارسة الإبداعية في مجال القصة القصيرة .وهكذا انحازت القصة إلى مقومات الكتابة النافرة والمتمردة التي تحتفي بالمغايرة ، وتجعل الانتهاك أفقا إبداعيا واستراتيجيا عبر توظيف تقنيات مستحدثة كالمونطاج السينمائي، واستيهامات الكتابة الشعرية وعناصر التشكيل الفني ومقوماته ، كما نزعت إلى الانخراط في عوالم الذات واستبطانها عبر حكي يعري الذات ، ويستجلى دواخلها وهمومها ضدا على جبروت اللحظة وإرغاماتها ، حيث تستعيض الذات المبدعة بالأحلام والاستيهامات عن الواقع الذي يبدو قاهرا يحكم الأفراد بسلطته وعنفه المادي والرمزي واستحالة تجاوزه. لذلك تنحو الذات إلى الانطواء تعبيرا عن حالة مزمنة من الإخفاق، ووضعية متفاقمة من اليأس تترجمها نزعة إلى استرجاع الماضي الجميل،والاحتفاء بالذاكرة ، واستعادة العواطف الجياشة التي تحرر الذات من سطوة الحاضر وعنفه . كما أن الحكي الذاتي ينحو في هذا النوع من الكتابة إلى الشفافية الداخلية ، وتفجير المكبوت والمسكوت عنه والمضمر داخل ذات تمور بتناقضاتها وهواجسها وانفعالاتها، وتعيش حالة تصادم بين قيم منشودة وواقع مرفوض يطبق على الذات ويقمعها جاعلا منها رهينة لتقاليد وتصورات اجتماعية متجاوزة وبالية. و تجسد كتابات أحمد بوزفور هذا الرهان الذي يتغيا تذويت الكتابة ، وذلك عبر مقاربة متميزة وفريدة لموضوعات متعددة كاللغة و الإبداع و الطفولة. غير أن حضور الذات في المحكي القصصي لبزفور يندغم في سياق كتابة تجريبية تستثمر آليات فنية حداثية عبر توظيف الغرابة و التشظي ، و المراوحة بين الواقع و الحلم وغير ذلك من المقومات الفنية التي تنأى بالحكي عن الالتقاط المباشر لهموم الذات و استيهاماتها ، ذلك أن الغرائز و المكبوتات يتم تصريفها في قالب فني ينتهك القواعد المتداولة في الكتابة السردية ، ويعيد صياغة المحكي وفق بناء تركيبي بالغ الدلالة و الالتباس الفني اعتبارا لكثافة حضور الصور الرمزية و الأساليب الاستعمارية. و هكذا فإن تسريد عوالم الطفولة و استبطان أعماق الذات لا يقود بطريقة آلية إلى البوح و الاعتراف بقدرما يفجر الإمكانات الإبداعية ، و القدرات الفنية للقاص الذي يستثمر النسق الرمزي و المجازي و الطاقة الإيحائية التي تحرك كوامن القراءة النابهة وقدرات التأويل و الفهم لدى الملتقى لفك مغالق الإبداع وشفراته ، وكثافته الرمزية ، وبنيته الفنية البالغة التعقيد . وعليه ، فإن قراءة المنجز القصصي أضحت تستدعي رصيدا من المعرفة بطرق و أساليب تشكيل الكون القصصي ، وصناعة مخيال هذا الجنس التعبيري ، وآلياته المتجددة في تحبيك و نسج القصة التي انزاحت عن الضوابط التقليدية ، وانعطفت عن المنحى المعياري في صياغة الإبداع و انتاج الكتابة السردية. و من ثم، فإن الشرط الإبداعي يستدعي إعادة تشكيل انتظارات القراء لاستيعاب القيم الجمالية المتجددة في مجال القصة ، وذلك في سياق دينامية تبتغي تجديد الأدوات و المفاهيم و التمثلات و القيم الجمالية التي تشكل أفق انتظار جمهور المتلقين بغية اختراق العوالم المكثفة للإبداع القصصي، واستجلاء معالم التجدد و الحداثة في المتن القصصي على مستوى الأبنية و التيمات ، ولغة التخييل وغير ذلك من المقومات الفنية التي تيسر الاقتراب من الإبداع ، وفك مغالقه ، وترسيخ قيم جمالية حداثية ووعي قرائي متجدد . إن هواجس التلقي تستدعيها لحظات التحول النوعي التي يعرفها الإبداع المغربي ، كما تستلزمها إبدالات و متغيرات القصة القصيرة التي انخرطت في البحث الجدي عن أفق ممكن لتوسيع العوالم وتخصيب الأشكال ، و أضحت بذلك صناعة فنية ونسقا جماليا متجددا يخترق قواعد وضوابط الجنس الأدبي لإعادة صياغة الكتابة القصصية وقواعد السرد و ثوابته. ذلك أن القلق المضاعف الذي يحرك الذوات المبدعة، والذي يجد امتداده في الهم الاجتماعي من جهة ،و النزوع الإبداعي و التجريبي من جهة ثانية سيولد انشغالات الكتابة القصصية الجديدة ممثلة في أقلام مشهود لها بامتلاك ناصية الإبداع ، و ممكنات الانتهاك و المغايرة أمثال : أحمد بوزفور ، و أنيس الرافعي ، وعبد الله المتقي ، وعبد السلام الطويل وغيرهم ممن ساهموا في صياغة هوية جديدة للقصة المغربية ناهضة على ميسم الإبداع ، وكتابة الاختلاف و التمايز. غير أن هذا النزوع الإبداعي نحو المغايرة و الانتهاك لم يفقد القصة طابعها النقدي ووظيفتها الاجتماعية ، ذلك أن الاندفاع التجريبي لم يتحول إلى لهاث شكلاني فاقد للمعنى و الدلالة بقدرما حرصت القصة القصيرة في المغرب على متابعة متغيرات المجتمع ، ورصد اختلالاته و أعطابه ، ومساءلة أوضاعه وتوجهاته بأسلوب فني قائم على السخرية أحيانا ، واستخدام آليات فنية لبنينة الكون القصصي أحيانا أخرى ، وذلك وفق نسق رمزي و إيحائي يمنح للكتابة جماليتها وقيمتها الفنية المتميزة ، وفي سياق ذلك، و بحثا عن إبداعية النص القصصي استثمرت القصة آليات الكتابة الشعرية من خلال شعرنة الكتابة السردية ، واستخدام الرؤيا بالمفهوم الشعري وغير ذلك من سمات الكتابة الشعرية المتدفقة و المشحونة بالأبعاد الرمزية، والصور والدلالات الإيحائية. مما أهل الكتابة السردية لتنسج خيوطها الإبداعية عبر تجسير المسافة مع مختلف الأجناس الإبداعية سواء الكتابية كالشعر أو البصرية كالتشكيل و السينما . نخلص إلى أن القصة القصيرة انزاحت عن النسق التقليدي في الحكي بحثا عن أفق متجدد يبتغي تحديث الكتابة، و يرمي إلى توسيع عوالمها، وفتحها على الأفاق الرحبة للتخييل تجسيدا لواقع متغير و متحرك ، و تعبيرا عن حساسية فنية جديدة قائمة على مبدأ المغايرة و الانتهاك لتكسير أحادية النسق التعبيري و الجمالي بما يؤسس للتعدد و التنوع و يوسع ممكنات هذا الجنس التعبيري ، ويحفز على تفجير القدرات الإبداعية و يغري بالابتكار و الكشف و الدهشة وغيرها من عناصر ومقومات الإبداع الأصيل والمتجدد .