وأمر الغناء عجيب، يفضي بك إلى ردود أفعال متنوعة، فهو قد يميلك طربا، وقد يطير بك محلقا في الأعالي، وقد يفضح دموعا راقدة في الأحداق فتنساب خجلى، وقد يحيلك على زمن عصفت به الحوادث فولى، فتستحضر في شوق وحسرة كل ما يؤثثه ويميزه، وأشهد أنني كلما سمعت صوت محمود الإدريسي تذكرت الأندلس وهي تزهو بأيام بني أمية، وترفل في رياضها الخضراء وقصورها الفخمة، وتنتشي بليالي السمر والرقص والأنس، وزرياب بشدوه يملأ الآفاق. لصوته شجى لا حدود له، شجى يحفزك إلى شكره، إلى عناقه، والى حبه، لقد بدأ الإدريسي حياته الفنية مرددا مع الكورال ثم أصبح مغنيا يغزو صوته جل الملحنين، ليتحول إلى ملحن لنفسه ولغيره. ومع أربعة ملحنين لمع صوته، اثنان منهما قدماه في القصيدة، فبدأ صوته مقتدرا في التعامل مع اللغة المتينة وفي أداء الألحان الرصينة، وأول الاثنين عبد النبي الجراري الذي لحن له (يا نائما لابن زيدون) و(أسرار الجمال للشاعر الكبير محمد الحلوي) وتعد هذه الأخيرة من الدرر المجهولة للأغنية المغربية، وثانيهما هو عازف الناي الشهير عبد الحميد بن إبراهيم الذي لحن له (لون الذهب) و(يا غزالا). والآخران قدماه في الأغنية الزجلية الشعبية فكان أيضا صوته جميلا وهو يترنم على إيقاعاتنا الأصيلة وأهازيجنا المحلية، الأول منهما هو عبد القادر الراشدي الذي قدم له طبقا ثلاثيا من لذيذ النغم (محال واش ينساك البال – جميل الأوصاف – سألتك لله) والثاني هو محمد بن عبد السلام الذي لحن له أغنيته الشائعة على كل الألسنة (عيشي عيشي يا بلادي ) وأغنية (الشمعة) وغير ذلك. وللإدريسي بصمة خاصة في الأغنية الدينية، فهو أحد الذين أثروا هذا المجال صحبة إسماعيل احمد وعبد الهادي بلخياط، ومن تحفة نذكر (عاشقين سيدي رسول الله – نبدا باسم الفتاح – يا خاتم الرسل – يا من يرى ما في الضمير – وقفت ببابك – دعاء وابتهال)، وفي فن الموشحات أنشد الإدريسي (يا ليل طل – نعشق للشمائل – قل للمليحة – شكونا …). في القصيدة أو الزجل، في الغناء العاطفي أو الوطني أو الديني، أو في الموشحات، صوته هو صوته، صوته يحمل معالم التاريخ العريق.