الذي يزور مقر المعهد العربي بباريس، هذا الخريف، يحس وكأن المغرب الفني، احتل جزءا استراتيجيا من عاصمة الأنوار، حتى بدون الحضور الجسدي لعدد ضخم من المغاربة، اذ كفت انتاجاتهم الفنية المختلفة المدارس والأجيال، ليحولوا المقر ذو الطوابق السبع وفضاءات المحطات وموجات الاذاعات لنقاش مميزات الفن التشكيلي في هذا البلد، ومختلف تجاربه الابداعية بما فيها تلك الأكثر حداثة وشبابا. أن تنزل في محطات الميترو الباريسية، الشديدة التنظيم -يركبها أربعة ملايين ومئتي ألف مسافر يوميا-، والتي صارت فخرا للعاصمة الفرنسية، يعني أن ترى بالضرورة اللوحات الاشهارية المخصصة للمغرب في كل مكان، «مغرب العصور الوسطى، الامبراطورية الممتدة من افريقيا حتى الأندلس» في متحف اللوفر، ولوحات أخرى تشهر للمعرض الفني بالمعهد العربي عن «المغرب المعاصر»، وهي الأنشطة التي تنظم بالتنسيق مع المؤسسة الوطنية للمتاحف المغربية، بتمويل من القطاعين العام والخاص بالبلدين. أكثر من ثمانين فنانا مغربيا -فيهم فنانين أجنبين يقيمان في المغرب ويشتغلان على مواضيع-، في أوسع بانوراما للفن التشكيلي المغربي، من مختلف جهات البلاد، بعضهم يحمل أسماء رنانة في عالم الفن، والبعض الآخر لم يسبق أن عرض أو باع أحد انتاجاته الفنية.. ما دفع مراقبين ومسؤولين بمعهد العالم العربي بباريس، يوصفون التظاهرة بأنها الأوسع والأهم في تاريخ المعهد، الذي كان تأسس سنة 1980، بمشاركة بين 18 دولة عربية ومساهمة مركزية للدولة المضيفة، فرنسا، على ضفة نهر السين الذي يخترق المدينة. أن يشدك شيئ ما في المعهد، هو شيء شبه يقيني، اذ اختلاف أوجه الابداع والمدارس الفنية بين المعروضات يبقى أمرا يحسب للساهرين على تنظيمه. عند المدخل الرئيسي ستجد معرضا للصور الفتوغرافية، تحتوي على مجموعة من المعروضات الغرائبية، ويجد الزائر الأجنبي الذي لا يعرف المغرب صعوبة في التمييز بين الحقيقي في الصور وبين المتخيل، خاصة أن البلد -ضمن بقية بلدان الشرق- اقترن عند الكثيرين الذين يسمعون عنه أخبارا متفرقة بمشاهد غرائبية من مختلف أشكال الروحانيات والتصوف والسحر. اذا كنت من هواة الأسماء الكبيرة، فبوسعك أن تجد منحوتات ولوحات لمشاهير التشكليين المغاربة، نماذج دالة فقط، دون أن تستغرق أغلب البناية، على يسارك غير بعيد عن المدخل، لوحات ضخمة لأسماء كبيرة بفضاء واسع، حتى وان كان يتوه الزائر في الفضاء أو يكاد، خاصة الزائر الذي لا يتقن غير الفرنسية! القارئ بالعربية أو حتى بالانجليزية يكون تيهه كبيرا، اذ لا يجد ما يسعفه بشرح بسيط ليفهم سياق التحف إلا لماما، حتى وان كان بجوار مختلف اللوحات دليل مطبوعا مكتوب بالفرنسية. ما لا يتناسب مع العدد الكبير للزوار المنحدين في العالم الناطق بالانجليزية، وهذه ملاحظة قد يؤاخذها المراقب على منظمي التظاهرة. لهواة التمرد الشبابي الشطر الأكبر من طوابق المعرض ومساحاته، اذ سمحت أحد المعايير التي وضعتها لجنة اختيار المعروضات، بتمرير الكثير من المميزة والتي قوامها التمرد ونقد العنف المجتمعي في البلد العارض، ذلك المعيار الذي مضمونه ضرورة أن تكون للفنان وجهة نظر في الحياة ووجهة نظر في البلاد، بما جعل الكثير من الفنانين المختارين أقرب للفنانين «العضويين» اذا رغبنا في استحضار مفهوم غرامشي عن «المثقف العضوي»، عضوية في حالة العارضين ليست تحديدا سياسية، لكنها اندفاع ومواجهة وصرخة ونقد لما يعيشه هؤلاء المبدعون الشباب في اليومي والمشترك بالمغرب. في الأفلام القصيرة مثلا، يتكرر فيديو من انجاز فنانة شابة، أسدلت النقاب على رأسها وجيدها، لكنه لا يستر الساقين والركبتين، وتجولت تتبعها كاميرة مخفية في شوارع مراكش، وتبعها المراهقون في جولتها التي امتدت أربع دقائق، أحيانا يسبونها أو يكفرونها، وأحيانا يبتزونها بطلب درهم أو أكثر، مقابل تركها تتابع طريقها، وأحيانا يتهمونها أنها أجنبية وغايتها تشويه النقاب ونشر الانحلال، وهو فلم عنيف في فضاء يحتوي غيره من المعروضات التي تناقش العنف الذي تتعرض له المغربيات، والتدخل المريع والعنيف في لباسهن ومظهرهن وأجسادهن. وكنموذج مزدوج، للتيه الذي يجد فيه الزائر الأجنبي نفسه، وأيضا للعنف الذي يعبر عليه الفلم، وقف مراسل «الاتحاد الاشتراكي» على محاورة بين طفل شاهد الفلم رفقة أمه، طرح عليها بالانجليزية السؤال: «من هو هذا الباتمان الذي يتجول في الشوارع؟ ولماذا يحاول الآخرون ضربه؟!»، اذ افترض أن الفنانة «المنتقبة» في الفلم بطلا في سلسلة «الباتمان» الشهيرة، وبعد أن لم يستطع تبين اللغة التي يتحدث بها المشاركون في فلم دقيقتين و45 ثانية، لمخرجته نادية بنسلام. وفي تفصيل مالمعايير التي حددت اختيار الفنانين المشاركين، يقول الأستاذ موليم العروسي، أحد المكلفين الاثنين باختيار القطع المعروضة، إن المعايير كانت واضحة، هي انتماء الفنانين لسياقه الوطني والمحلي، وقدرته على التجديد في انجازاته الفنية ويقتضي ذلك عدم تكراره للتيم ولا للطرق التقليدية في التعبير الابداعي، وأيضا أن يكون حاملا لموقف من العالم قادرا على التعبير عنه من خلال فنه. ليؤكد أخيرا «التيمات لم نخترها مسبقا، بل فرضت نفسها علينا». إذا قيمنا المعرض بناء على معايير اللجنة حسب تصريح موليم، نجد أن بعض المعروضات، -حتى وان كان معظمها يستجيب-، يصعب أن نقول أنها تستجيب فعليا، مثلا ماذا يحمل اعادة تصوير «الكارطة» الورق على الزجاج من تجديد في الفن؟ خاصة اذا استحضرنا أنها تحتل حيزا كبيرا، جدارا واسعا لوحدها! وللنقاش والحفلات من التظاهرة نصيب. ليست اللوحات والفنون التشكيلية تستأثر لوحدها بالتظاهرة التي تمتد على مدى ثلاثة أشهر، بل تواكبها برمجة من الندوات عن المغرب، لمغاربة ولفرنسيين يعتبرون أصدقاء للبلد العارض، وأيضا حفلات ولقاءات لفنانين من مختلف الألوان الفنية للبلد العارض ومناطقه وثقافاته، من بينها لقاءات مع شخصيات شهيرة من المغرب، كاللقاء الذي سينظم الخميس يوم 30 أكتوبر، والذي سيستضيف الشاعر المغربي الشهير عبد اللطيف اللعبي. دليل المعرض يقول أنه يشارك أزيد من 700 من الفنانين والمبدعين والموسيقيين والراقصين والمغنين والكتاب والمفكرين... وزرعت أمام مقر المعهد، خيمة صحراوية ضخمة مميزة، تباع داخلها المشروبات والمأكولات المغربية التقليدية، حتى وان كان ثمنها مرتفعا. ن المغربي الحديث والمعاصر ليس الشيء الوحيد الذي تستضيفه باريس، بل ومعه الفن التاريخي المؤرخ لتاريخ المغرب، وتحديدا في بنايات متحف اللوفر المذهلة، اذ تقدم معروضات فنية عن مختلف الحقب التي عاشها المغرب، سواء المنطقة الممتدة في المنطقة الجغرافي الحالية، أو تلك التي امتدت الى اسبانيا وافريقيا، في تشكيلة من 300 تحفة تاريخية.. على الرغم من أن التظاهرة تستضيف المغرب، يلاحظ الزائر أن اقبال المغاربة -بمن في ذلك الفرنسيين من أصول مغربية- يبقى قليلا، مقارنة بالأجانب الفرنسيين أو السياح من بقية بلدان العالم، سواء في مختلف طبقات المعرض السبعة، أو في الندوات المنظمة، على الرغم من أن مختلف الجرائد المغربية كتبت حول المعرض منذ أشهر، ما يستفز لطرح العديد من الأسئلة لتفسير الظاهرة، خاصة أن أعداد المغاربة في فرنسا يبقى مرتفعا، ما يفترض ارتفاعا متناسبا في زياراتهم لمعرض يقال أنه أوسع معرض للفن التشكيلي المغربي خارج المغرب. فرنسا تفاخر بجائزتي نوبل السياق الذي يأتي فيه المعرض هو حصول فرنسيين اثنين على جائزة نوبل، وهما الروائي الفرنسي باتريك موديانو ومواطنه عالم الاقتصاد جين تيرين، ويعيش الاعلام الفرنسي جوا احتفاليا تصادف مع فترة المعرض والدينامية الثقافية التي أنتجها التتويج المزدوج للبلد.. في الواقع يعد حصول فرنسا على جائزتين نوبل في حقلين مختلفين وفي نفس السنة، شيئا نادر الحدوث، اذ قبل هذه السنة التي توج فيها الفرنسيون بجائزتي نوبل للأدب ثم نوبل للاقتصاد على التوالي، كانت آخر مرة سنة 2008، وقبلها سنة 1952، ما جعل حدث أكتوبر 2014، حدثا مميزا أثار فخر قطاعات واسعة من الفرنسيين، الذين استكملوا لحد الآن 58 جائزة من الأكاديمية السويدية في مختلف التخصصات.