كان التطرف الديني وعلاقته بالإرهاب موضوع المحاضرة التي ألقيتُها بمنتدى الاتحاد التاسع بأبوظبي يوم الثلاثاء الماضي. وبالطبع فإنّ للإرهاب (على الاختلاف في تعريفه) أسباباً أخرى إلى جانب التطرف الديني. بيد أنّ هذا النوع من التطرف يحتلُّ المنزلة الأولى في اعتبارنا واعتبار العالم اليوم. أما بالنسبة لنا فلأنه في الأصل (أو هذا هو رأيي على الأقلّ!) ناجمٌ عن انشقاقٍ في ديننا. وأما في اعتبار العالم، فلأنه في وجهة النظر السائدة الأكثر ضرراً على أمن الناس واستقرارهم. وأُضيف أمراً ثالثاً أنّ هذا الإرهاب الناجم عن التطرف الإسلامي مخيفٌ أيضاً لأنّ المسلمين واسعو الانتشار في العالم، ودائماً في العقدين الأخيرين على الأقلّ يظهر أفرادٌ بين أجيالهم الشابة في الغربين الأوروبي والأميركي، يستخدمون العنف ضد المؤسَّسات والجمهور بحجة نصرة الدين أو الانتقام للظلم المزعوم الذي نزل بهم باعتبارهم مسلمين! لقد رأيتُ في المحاضرة المذكورة أنّ هناك ثلاثة أمورٍ يمكن التفكير فيها والعمل عليها لمكافحة التطرف الديني في أوساط الشباب، وبالتالي مكافحة انتشار العنف باسم الدين. وأول هذه الأمور: الاهتمام بالمؤسسات الدينية بحيث تستطيع استعادة قوتها ووظائفها ومهماتها في قيادة العبادات، والتعليم الديني، والفتوى، والإرشاد. وقد تحدثتُ في هذا الموضوع مراراً وقوبلتُ بتشكيكٍ كثير ولأسبابٍ متناقضة. من مثل القول إنّ ذلك لن ينفع لأنّ السلطات تستتبع المؤسسة، أو لأنّ المؤسسات مخترقة من الأصوليات، أو لأنها جامدة ولا تملك فكراً جديداً. وكنتُ وما أزال أرى أنه بغضّ النظر عن المرحلة الماضية؛ فإنّ الدول مهتمةٌ جداً بإخراج الدين من بطن الدولة، أو الخروج من الاشتباك مع الدين الذي اصطنعته الحزبيات الدينية عبر العقود الماضية. ولذلك يمكن أن يقوم تعاوُنٌ وانسجامٌ لأنه بقدْر اهتمام الدول بالخروج من الاشتباك والعنف ضد الدول والمجتمعات؛ فإنّ عقلاء رجالات المؤسسات الدينية مهتمون بإنقاذ دينهم من العنف المنتشر فيه وباسمه، ومن سوء العلاقة بدولنا ومجتمعاتنا وبالعالم. ولذا فإنه إذا جرى الاقتناع بجدوى عمل المؤسَّسات الدينية على هذا الأمر، فإنّ التعاون الوثيق بين المؤسسات الدينية، والجهات المعنية في إدارة الدولة ممكنٌ ومحبَّذٌ وواقع. أما الأمر الثاني المفيد في مكافحة التطرف، فهو النهوض الفكري والتصدي لعمليات تحويل المفاهيم وتحريفها والتي »أنجزها« الأصوليون والإحيائيون الصحويون في قلب الدين خلال عدة عقود. وذلك مثل مفاهيم الجماعة والجهاد والمعروف والمنكر والدولة وعلاقتها بالدين، والخلافة، ورؤية الآخَر. وقد استطاع أيديولوجيون ومسيَّسون صنع انقلاباتٍ في هذه المفاهيم التقليدية والثوابت بحيث تخدم أغراضهم في مواجهة الآخرين وفي الوصول للسلطة. لقد حولوا الإسلام إلى أيديولوجيا نضالية لا عمل لها غير هدم الدول وتكفير المجتمعات ومواجهة العالم. إنّ هذه المهمة، أي مهمة التصدي لتحويلات المفاهيم ليست مهمة رجال الدين فقط؛ بل هي مهمة المثقفين بشكلٍ عام. لقد انصرف عشرات المثقفين العرب في المرحلة الماضية إلى نقد الموروث والتقليد؛ بحسبان أنّ الأصوليات المعاصرة ليست أكثر من استمرارٍ للتقليد الجامد والمتخلف، والذي كافح ضده الإصلاحيون والسلفيون منذ أكثر من مائة عام. لقد تحطم التقليد بالفعل، لكنّ الذين حلُّوا محلَّه ما كانوا من الإصلاحيين، بل حلَّ محلَّه السلفيون الجدد، والإحيائيون الإخوانيون. والأمر الثالث الذي يُخرج من التطرف، ومن أوهام الدولة الدينية، هو الإصلاح السياسي، الذي يؤدي إلى قيام أنظمةٍ للحكم الصالح أوالرشيد بدلاً من الطغيانيات العنيفة التي تمارس ضد شعوبها عنفاً مماثلاً وأفظع أحياناً من عنف الداعشيات. وإذا كان هذا العامل يُسهمُ في إسقاط »محاسن« الدولة الكهنوتية في قلب كل دولة. فإنّ المنظومة العربية مكلَّفةٌ بتطوير قدراتها الشاملة بحيث تستطيع صَون المجتمعات من الحروب الطائفية، وحروب التدخل الخارجي، مثلما تفعل إسرائيل وإيران الآن مع المجتمعات والدول العربية. ذلك أنّ التعرض للمسجد الأقصى، وقتل الناس في غزة وسوريا والعراق واليمن، كلُّ ذلك يبعث لدى الكثيرين من الشبان الحساسية إحساساً بضرورة الحفاظ على الدين، من طريق النضال الجهادي، حيث لا تقوم المنظومة بواجبها في التدخل لصَون الدين والدولة! الوضع صعبٌ جداً. وقد فشل الأميركيون عبر عقدٍ ونيفٍ في إخماد هذا العنف بالقوة. فلا بد من وسائل أُخرى لصون الدين والمجتمع والدولة في العالم العربي. ولا وسيلة أجدى من النهوض الفكري والديني.