أن يكون فضاء اللقاء هو مسرح عبد الرحيم بوعبيد، وأن يكون المحتفى به هو عبد الرحمن اليوسفي (بمناسبة صدور مذكراته في 3 أجزاء)، وأن يكون قراء ذلك المتن هم الباحث السوسيولوجي والمتخصص في العلوم السياسية محمد الطوزي، والباحث في مجال التاريخ الطيب بياض والمناضل الحقوقي أحمد شوقي بنيوب، فإن ذلك يقدم ما يكفي من التوابل كي يكون ذلك اللقاء حدثا كبيرا بكل المقاييس. وهو الحدث الذي كان الفضل فيه للكتابة الإقليمية لحزب الإتحاد الإشتراكي للقوات الشعبية بمدينة المحمدية. كانت ليلة من عمر فعلا، في تلك المدينة العمالية، التي ذاكرتها تتعالق تاريخيا مع محطات حاسمة من مسيرة الحركة الإتحادية، منذ إنشاء أول معمل لتكرير البترول بالمغرب في نهاية الخمسينات «سامير»، بقرار من الرجل الذي يحمل أكبر مسارحها اسمه: «عبد الرحيم بوعبيد» حين كان وزيرا للإقتصاد والمالية في نهاية الخمسينات من القرن الماضي، إلى مرحلة تسيير مجلسها البلدي لدورات 3 متتالية من قبل أبنائها من المناضلين الإتحاديين. وليس اعتباطا، أن كلمة سي عبد الرحمان اليوسفي، قد توقفت عند هذه التفاصيل بالتحديد، كنوع من إعادة قراءة لمسار سياسي نضالي كامل. الكلمة التي تجاوب معها الجمهور الغفير الذي ضاقت به جنبات المسرح، ووقفت لتحيتها مطولا، رسالة على أن المشروع الإتحادي لا يزال كامنا في العمق المجتمعي المغربي، وأن سؤال السياسة في بعدها الأخلاقي بسقف وطني منتصر للأمل في بناء مستقبل دولة الإنصاف والعدالة، دولة المؤسسات والمحاسبة، لا يزال طازجا في وعي أجيال المغاربة اليوم. تأتيث الخشبة كان احترافيا بدرجات عالية من الجمال والإبداع، ما جعل الحضور الكثيف يتفاعل حتى وجدانيا وجماليا مع الطبق الثقافي والفكري والسياسي الذي قدم أمامه. وهو الطبق الذي أشرف عليه فريق من شبيبة الحزب ومناضليه وعماله، من الكتابة الإقليمية للإتحاد بالمحمدية، يتقدمهم الأخوان المهدي مزواري وعبد الحميد جماهري. ورغم تعب السنين (94 سنة)، كانت حماسة سي عبد الرحمان اليوسفي، وسعادته بالإحتضان الكبير الذي خصته به جماهير المحمدية، بلا ضفاف، ما جعله يصر على أن يقف ويقدم كلمته البليغة سياسيا وتأطيريا (أنظر نصها الكامل ضمن هذا العدد). مثلما أن الفرح الذي كان ينضح من نظراته، قد جعل الرجل أشبه بعريس في احتفال وفاء لسيرته وقامته ورمزيته. ولعل في مداخلات الأساتذة المشاركين في ذلك الإحتفال، الكثير من الرسائل على ذلك. حيث أخد الحضور الباحث محمد الطوزي، إلى ما يمكن وصفه ب «الأيقونات اليوسفية» الخاصة في مجال الممارسة السياسية بالمغرب، التي جعلته يجزم على أن «الصمت» سلطة عند اليوسفي، لأنه يمنح للرمزية أن تكون بمقاييس رجالات الدولة، وأن ميزة مذكراته كامنة في مزاوجتها بين البوح والوثيقة، أن بين الحكاية السيرية (التي تكمن قوتها في البياضات التي تركت بشكل مفكر فيه ضمنها) وبين الخطاب المفكر فيه والدراسة، التي هي وثيقة تاريخية. ما جعل تلك المذكرات في النهاية بالنسبة للطوزي: «سيرة موثقة»، وهذا نادر في مجال المذكرات السياسية بالمغرب. معتبرا أن قوة الرجل كامنة في أنه كان من صناع الفعل السياسي الوطني بالمغرب المعاصر، وأنه حتى من خلال تجربة التناوب (التي لا يحبذ تسميتها ب «الإنتقال الديمقراطي»)، قد عمل على تجويد «ديمومة المؤسسات» التي هي أصلا قد تمت إعادة بنائها على عهد الملك الراحل المرحوم الحسن الثاني بما يمكن وصفه ب «نفس إمبراطوري»، أي روح تقليدية. ولقد توقف الطوزي مطولا، عند قيمة ما تمثله الأجزاء الثانية والثالثة من ذلك المتن اليوسفي، الذي نجح باقتناصه وترتيبه وتجميعه رفيقه في النضال السياسي والحقوقي مبارك بودرقة، المتضمنة ليس فقط لخطب وكلمات وحوارات سياسية ودراسات حقوقية، بل فيها نوع من «السيرة الموازية» للفعل السياسي المغربي في سنوات الإستقلال. هنا يقول الطوزي تكمن القيمة الكبرى لوثيقة مماثلة، لأنها تقدم مادة خام جد غنية للدارسين سواء في مجال التاريخ أو في مجال العلوم السياسية. متمنيا أن يكون ذلك حافزا لأطروحات جامعية، تسمح للباحثين بإنارة مناطق الصمت الكامنة فيها. أستاذ التاريخ، الطيب بياض، توقف من جهته في مداخلته، عند ما وصفه بالمداخل الممكنة لإعادة موضعة مذكرات اليوسفي ضمن خانة التاريخ السياسي للمغرب الحديث والمعاصر. معتبرا أن المتن غني ليس فقط بما كشفه من تفاصيل غير مسبوقة، وبما قدمه من تفسيرات جديدة للعديد من الأحداث والوقائع والمحطات، بل بمزاوجته بين الشهادة والوثيقة التاريخية. وهذا بالنسبة للمؤرخ، يقدم تجربة في المقاربة غير مسبوقة في مجال التعامل مع الشهادة السياسية للفاعلين السياسيين وللزعماء التاريخيين، بالنسبة لعالم التاريخ. لأن السيرة هنا مزدوجة، سيرة الفاعل وسيرة الفعل، وأن القصة التاريخية تغتني، من خلال المزاوجة بين سيرة الحياة الخاصة وسيرة الحياة العامة، أي بين سيرة الفرد وسيرة المجتمع. مع تسجيل معطى تواصلي مهم، هو أن مداخلة الأستاذ بياض الحريصة على الدقة الأكاديمية، تستوجب القراءة مكتوبة، حتى يقف المتتبع عند بنائها المعرفي بشكل أدق وأعمق. وأن ما قدمه المؤرخ في مداخلته، شكل فقط مداخل لإعادة بنينة مثن تلك المذكرات ضمن ما تفرضه القراءة التحليلية لعلم التاريخ. تواصليا، نجح الأستاذ أحمد شوقي بنيوب، في أن يكون منهجيا في شد انتباه الجمهور إليه، من خلال مداخلة قيمة حول السيرة الحقوقية للأستاذ اليوسفي، تلك التي يتحقق فيها التكامل بين المعرفة والجرأة في الفعل (بل لربما حتى الذكاء في الفعل). مقدما خطاطة تفصيلية عن الدور الذي لعبه الرجل، كقامة حقوقية وسياسية، في مجال «العدالة الإنتقالية» بالمغرب، التي تشكل اليوم مرجعا فريدا من نوعه في العالم، لأنها تمت بقرار سياسي للتحول والإنتقال الديمقراطي، دون أن تكون نتيجة قطيعة سياسية مثلما حدث في دول أمريكا اللاتينية أو جنوب إفريقيا. وأن اليوسفي قدم دوما مادة دراسية حقوقية شكلت المدخل للعديد من الإنعطافات الفاصلة في مسار التحولات الحقوقية جمعويا ومؤسساتيا في العالم العربي وفي المغرب، من خلال إحالته على دوره الحاسم في تأسيس أول منظمة عربية لحقوق الإنسان، وكذا دوره في تأسيس المنظمة المغربية لحقوق الإنسان (وحرصه على أن لا يشكل الفريق الإتحادي ضمنها سوى 10 %). ثم أخيرا دوره في أن نصل إلى مرحلة «العدالة الإنتقالية» من خلال تجربة هيئة الإنصاف والمصالحة، التي ترأسها وقادها بحنكة المرحوم إدريس بنزكري (وصفه الأستاذ بنيوب ب «مانديلا العرب»)، التي هي تجربة تحقق فيها التكامل بين الدولة والمجتمع السياسي الوطني والتقدمي، ضمنيا بروح العلاقة الإيجابية المنتجة التي كانت دوما بين الحركة الوطنية والقصر (رمزيتها كامنة في روح «ثورة الملك والشعب»). وأن ذلك هو ما جعل المغرب ظل ولا يزال، يقدم خطاطة مختلفة في مجال التدبير السياسي للتحول الديمقراطي والمؤسساتي، بمنطق التراكم السلمي البناء. وأنه ضمن محيطه العربي، الذي تتفتت فيه دول وتسقط أنظمة، يقدم مسلكا آخر مختلفا، هو الذي يجعل لقاء مثل لقاء مسرح عبد الرحيم بوعبيد ممكنا، عنوانا على الأمل في الفعل السياسي كقيمة أخلاقية لخدمة الصالح العام. اللقاء، الذي أدار فقراته بخلفيته التواصلية والمسرحية، وبخبرته السياسية وبرصيده المعرفي التقدمي، الأستاذ رشيد فكاك، والذي حضره أيضا الأستاذ مبارك بودرقة، شهد حضور كل الأطياف السياسية الوطنية والتقدمية بالمغرب، يتقدمهم المناضل الوطني الكبير محمد بنسعيد آيت يدر، والأمين العام لحزب التقدم والإشتراكي الأستاذ نبيل بنعبد الله، ورئيس جهة الدارالبيضاءسطات، الأستاذ مصطفى الباكوري، وأطر من حزب الإستقلال واليسار الإشتراكي الموحد والعدالة والتنمية وفعاليات نقابية وجمعوية متعددة. مثلما شهد أيضا إلقاء كلمة باسم الكتابة الإقليمية لحزب الإتحاد الإشتراكي بالمحمدية، ألقاها الكاتب المحلي للحزب بالمدينة المهدي مزواري، التي كانت ذات حمولة سياسية دالة وهامة، أكدت على أن «من الدلالات الرمزية التي يمنحها فضاء اللقاء، الحافلة بالمعنى، التي لاشك أن كل الحاضرين قد التقطوا مغزاها العميق، هي أن السي عبد الرحيم بوعبيد هو من يستقيل اليوم كذلك السي عبد الرحمان .عبد الرحيم وعبد الرحمان، التوأم الذي ساهم في بناء الحركة الوطنية، وامتدادها التقدمي فيما بعد، تم مشروع الحزب الحامل لقيم وأفكار ومبادرات التغيير والديمقراطية والتقدم والأفق الإنساني». موجها رسالة إلى المستقبل مفادها: «أن استضافة السي عبد الرحمان، وإستحضار السي عبد الرحيم، هو في العمق احتضان لفكرة التقدم و للافق الإنساني الرحب لنضالنا الثقافي و السياسي و الاجتماعي الوطني والتقدمي والحداثي. فنحن كأجيال جديدة نغتني بتاريخنا المشترك بغاية صناعة المستقبل. هذا قدرنا التاريخي وعلينا أن ننجزه بكل مسؤولية»..
كلمة المجاهد عبد الرحمان اليوسفي شكرا لكم على تنظيم هذا اللقاء الاحتفالي، الخاص بالأجزاء الثلاثة من مُذكراتي وخُطبي السياسية والحقوقية، التي أنْجَزَهَا أخُونا مبارك بودرقة. ولاَ أُخْفِيكُم أن سعادتي مُضَاعَفَةٌ أَنْ أَحْضُرَ هُنا مَعَكُم، لاعْتِبَارَيْنِ أساسيين مِنْ بَيْنِ اعْتِباراتٍ أُخرى مُتَعَددَةٍ. أولها، أنكم اخترتم أن نلتقي في مسرحِ يَحْمِلُ اسم أخينا وعزيزنا الكبير عبد الرحيم بوعبيد رحمه لله. فهذا لوحده عُنوان اعتزاز خاص بالنسبة لي، كَوْنُنَا نَلْتَئِمُ تحت خَيْمَةِ واحدٍ من رجالاتِ الدولةِ الكبار، ومن مناضلي الحركة الوطنية الأفذاذ، ومن مُؤسسي الصف الوطني والديمقراطي التقدمي والتحرري بمغرب الاستقلال، وَكَانَ في طليعة مُناضلي الحركة الاتحادية، الذي خَلَقَ مدرسةً سياسِيةً في النضال، ظَلتْ تَنْتَصِرُ للأخلاق في الممارسة السياسية، وتَعْتَمِدُ الوُضُوحَ الإيديولوجي وتَلْتَحِمُ بأحلام وطموحات أوسع الجماهير المغربية، مِما مَكَّنَ تِلْكَ الحركةَ الاتحادية من اكتسابِ مِصْدَاقِيَّةٍ في الداخل وفي الخارج، لاَ تَزالُ إلى اليوم مرجعا سياسيا عند كل الأطياف المغربية، سواء في الدولة أو في المجتمع. ثانيها، أننا نلتقي في مدينةِ المحمدية، المدينةِ العماليةِ المناضلةِ، التي نجح فيها أخونا عبد الرحيم بوعبيد بالبرلمان، والمدينةِ التي ظلت اتحادية لعقود، حيث تمكن إخوتنا من المناضلين الاتحاديين الشرفاء بها، من كسب ثقة الساكنة لرئاسة مجلس المدينة البلدي لثلاث دورات متتالية، في التسعينات، غَيَّرَتْ وَجْهَ المدينةِ بالكامل، وَوَضَعُوا الأساس لما أصبحت عليه اليوم، في مجالات عدة، أكتفي منها بِخَلْقِ المنطقةِ الصِّناعية بِجَنُوبِ المدينة، وكذا فَكِّ العُزْلَةِ عن أحيائها الهامشية، وبناء دُورِ الثقافة والشباب وتعبيد كامل أزقة وشوارع المدينة وبناء هذا الصرح الثقافي والمسرحي الكبير الذي يحمل اسم أخينا عبد الرحيم بوعبيد، الرجلِ الذي اقترن اسمه، أيضا، بهذه المدينةِ منذ بداية الاستقلال، حين هَنْدَسَ وأَنْشَأَ بِهَا معمل تكرير البترول سامير، بشراكةٍ مع الإيطاليين، ضِمْنَ مُخَطَّطِهِ الوطنيِّ وَهُوَ وزيرٌ للاقتصاد والمالية في نهاية الخمسينات، لِوَضْعِ أُسُسِ الاستقلال الاقتصادي والمالي والطاقي للمغرب. لهذه الأسباب كُلِّهَا أنا سَعيدٌ بالتَّواجُدِ معكم، وأشكركم على جميلِ الاهتمام بِمُذكراتي، التي ليست سوى جزءٍ من سيرتي، أتمنى أن تكون حافزا لتنوير الأجيال الجديدة بتاريخ وطنهم، وبتاريخ الحركة الاتحادية، مدرسة نضالية أسست لممارسة سياسية بالمغرب، ذات سقف وطني، واضحة المنهج والأداة النضالية السلمية البناءة، القوية بمصداقيتها التي تعززت بسيرة رجالها من المناضلين الأفذاذ، الذين كان أبناء مدينتكم المحمدية في الطليعة ضمنهم. فشكرا لكم، وشكرا للمحمدية وأهلها الكرام من خلالكم، وشكرا للأساتذة الكرام الذين شَرَّفُونَا، جميعا، بِحُضُورِهِمْ الكريم. والسلام عليكم ورحمة لله تعالى وبركاته.