تمثل الثنائيات الضدية ظاهرة فلسفية نهل منها النقد الأدبي منهلا واسعا، ولعل جمالية الثنائيات الضدية تنجم عن الجمع بين ضدين في بيئة واحدة، وهذا ما يؤدي إلى تعميق البنية الفكرية للنص بالحركة الجدلية بين الثنائيات الضدية. ومن هذا المنطلق تهدف هذه الدراسة إلى تتبع تجربة إبداعية للمبدعة فاطمة الزهراء المرابط، من خلال مجموعتها القصصية الأولى، انطلاقا من جدلية الحضور والغياب، وخاصة تيمتي: الحب والألم. لا يعرض المبدع عن تيمتي الحضور والغياب في إبداعه، حيث يغدو الغياب تحطيما لعادة الحضور، وتحريكا لنوازع الشوق. فعلى أساس وجود هاتين الموضوعتين، تشتغل التيمات المختلفة في التحليل الموضوعاتي؛ كون هذا الأخير يقوم على التتبع المطرد للتيمة الواحدة أو لمشتقاتها ومرادفاتها عبر ظهورها واقتفاء معانيها ودلالاتها في كل الصور. ومن ثم فقوام هذه الدراسة شرح لغوي، وتفسير وتأويل للمعاني التي تسهم التيمة في تجسيدها في سياق ما يرسمه التتالي الظهوري لها عبر النصوص/ القصص، دون أي افتعال منا أو تغيير في الترتيب. فكيف يمكن للتجربة الشعورية لهذا المُنْجَز الإبداعي أن تُخْتَزَل في كلمتين اثنتين هما: أغنيات الحب والألم/ الحزن؟ 1- العائلة الأولى: (عائلة الحب) يستدعي الحب – موضوع العائلة اللغوية- البحث عن مشتقاته ومرادفاته، ثم صفاته (اشتقاقا وترادفا)، ثم آلياته التي تعمل على تجسيده، وعناصر كل سمة مرتبة فيما بينها حسب الكم الظهوري. إذ يرى سعيد علوش أن البحث في الموضوعاتي هو بحث عن النقاط الأساسية التي يتكون منها العمل الأدبي، وأن مقاربة الكشف عن النقاط الحساسة التي تجعلنا نلمس تحولاتها، وندرك روابطها، في انتقالها من مستوى تجربة معينة إلى أخرى شاسعة (سعيد علوش، النقد الموضوعاتي، ص. 12). يكتسي خطاب الحب في الأدب العربي عموما مكانة متميزة، إذ كانت العرب تدرك جوهر العشق وتجله، فكثرت لديها أسماؤه وصفاته. من هنا يتبين، بعمق، مفهوم المرأة والأنوثة ونوعية الحضور الذي يمثله داخل العمل الإبداعي، فالمرأة في صورتها الوجودية الخاصة هي تكثيف للجمال الكوني، وليست مجرد جسد يخضع لمنطق الرغبة والمتعة الجنسية. لأن ما يميز السر الأنثوي هو كونه مظهرا أسمى لجمال الكون برمته. ويتجسد حضور الحب داخل المتن المدروس في الصورة التالية: آآآآه من الحب، تهمسين وتتنهدين بعمق (قصة أيام الباكور، ص. 79) وهذا الحب ناجم عن الجمال الأخَّاذ، تقول الكاتبة: «أنت امرأة فوق العادة …» (قصة أيام الباكور، ص. 73). نلمس، في هذه الصورة، وصف الجمال الفاتن الذي يأسرالأفئدة ويقهر القلوب المتعطشة للوجد، والإحساس بالجمال شعور موجود لدى الإنسان مهما اختلفت ثقافته ونظرته إلى الكون من حوله، فهو موجود في كل مكان وفي كل شيء، والإنسان يحسه ويدركه إذا شاء، لأن الرؤية الجمالية تتمركز من خلال ما ينتجه الإنسان ضمن فضاء ثقافي واجتماعي متنوع ومتغير، حيث يلعب المخيال الدور البارز في إظهار مظاهر تمثل الجمال في الحياة اليومية والأعمال الفنية الكبرى والصغرى على السواء. ومن أجل استمالة المتلقي ودفعه إلى الاستئناس بتجربة الحب، لجأت الكاتبة إلى رمز الغزل العذري، لأنه يقوم على أسمى المشاعر الروحية وهي الحب الذي يصبح غاية في ذاته. وهذا ما يتضح بجلاء من خلال هذه الصورة التالية: «خيالي المجنون يسافر بي بعيدا عن اللحظة، وأنا أفكر في حكاية اللون الأحمر والحب الأحمر والدم الأحمر، تذكرت روميو وجولييت، مع أن اللحظة لم تكن تسمح بذلك، وأسئلة كثيرة كانت ترقص في خيالي وأنا أبحث عن رمزية الأحمر، وسر ارتباط الحب بالأحمر، لمَ لمْ يتخذ لون البياض والنقاء؟ هل لأن الأحمر رمز الثورة والتمرد، والحب ثورة على الذات والجسد … ؟ (قصة ضباب، ص. 99). اشتد الوجد بالعاشق الولهان فأورثه السقم والوهن، ولذلك يجب عليه أن يحافظ على تجربته في الحب، حتى ولو كانت تجربة قائمة على الحرمان والألم والإقصاء. غير أن هذا العاشق مهما صدَّ عنه محبوبه ولم يبادله الهوى والجوى، فإنه لا ييأس من بلوغ الهدف المنشود، فالصبح قريب، وهو لا يكفُّ عن الرجاء، مهما تكاثفت الدياجي وتلاحقت الظلمات، فالحبيب سيدنو منه وسيفوز بلقائه، وسينهل من مورده العذب ما يشفي غليله، ويزيل حزنه وشجنه. ويصبح الجحيم نعيما وربيعا باسما حين يفوز الولهان بوصال أو لقاء أو زيارة، فإن الدنيا تشرق من حوله، وتصبح بهجة وسعادة خالصة، وهي سعادة لا ينالها إلا بالتعب والصبر الطويل، وأحيانا عن طريق الحلم الذي تفصح عنه هذه الصورة: «هي تعلم أن الأحلام الوردية لا تحط الرحال بسمائها، لكنها تحلم وتحلم، ترسم لنفسها صورة أسطورية، لا توجد إلا في خيالها، صورة قد ينقشع بريقها يوما لتصير عارية تماما، مثل الجدران المنسية في زمن منسي ووطن خنقته الصور الوهمية» (قصة أبواب مفتوحة، ص. 69). ورد عند غاستون باشلار على لسان الباحثة «ماري بونابارت» في دراستها ل «إدكاربو» أن هناك أغنية عميقة تشد الإنسان إلى البحر، ولعل السؤال: ماذا تحكي أيها البحر؟ يشير إلى تلك الأغنية التي تعزف على أوتار الفؤاد وتخلب الأذهان. تقول الكاتبة: «هل رحلت؟ همستُ بألم، وألقيت جسدي المتعب على كرسي حجري، أتأمل زرقة أمواج البحار المتلاطمة، أطياف ترتفع أصواتهم على الشاطئ»( قصة وردة، ص.46). غير أن الانجذاب نحو البحر ليس هو الوحيد الذي يوقظ لدى الإنسان الحنين إلى ذات المحبوب، فسمو الطبيعة أيضا يقوي ذلك الحنين ويجذره. ومن هنا يظهر التلازم القوي بين الحنين إلى الاتصال بالمحبوب، وبين الحنين إلى الاتصال بالطبيعة. ولهذه الصور جميعها (المرأة والجمال والبحر) روابط موضوعاتية، تشيد انسجاماتها وتوافقها، ليقدم العمل الإبداعي تجربة عميقة في امتزاج الروح بحركية الأشياء والمعاني داخل الإنسان. ومن ثمة تولد صور غير معيشة من قبل، وتدعو الآخر/ المتلقي ليعيشها لأول مرة، لأن الأمر يهم عيش غير المعيش، والانفتاح على رحم اللغة. 2- العائلة الثانية (مقولة الألم) تستهل الكاتبة موضوع الحزن الذي يورث الألم بالفراق: « كآبة اللوحة، تتسلل إلى أعماقي المثقلة بالأحزان» ( قصة أمواج، ص. 41)، إن الموضوع متعلق بمشاعر الحزن التي جعلت الكاتبة تكابد لواعج الألم، ومن ثم تغدو لهذا الأخير دلالته في سياقات الظهور الموضوعي، مما يبعث على التساؤل: «هل هي حزينة على تشرذمنا …؟ أم حزينة على المدينة العتيقة ورونقها المتلاشي أمام زحف العمران المستورد من الضفة الأخرى؟» (قصة أمواج، ص. 41). يعد الحب –عند الكاتبة- غاية تصبو إلى تحقيقها وهذا ما جعلها تعاني من الوحدة الاغتراب فتلجأ إلى البكاء. لأن الوحدة سر الشقاء أو هي افتقار يشحن النفس بالشجن والأسى، وهذه الوحدة تتجسد من خلال العبارات التالية: «تذكرت وحدتها، وغربتها المتجددة مع الأيام المتشابهة، وهي تدفن حنينها بين الأوراق المتناثرة فوق سريرها البارد، وتطفئ شوقها بين لوحة المفاتيح الدافئة» (قصة عبور، ص. 117). ومن ثم وجب نشدان العوض والامتلاء في فعل العودة. لكن الاتصال بالمحبوب – حسب المتن موضوع الدراسة – تطبعه مجموعة من الصفات أهمها: التيه والسقم والاستغناء عن الطعام ثم الاحتراق بنار العشق. تعاني الكاتبة من الافتقار الذي تستعيض عنه بزمن آخر هو زمن الحب والامتلاء، بوساطة آلية الرؤية الخاصة. لهذا يحيرها التساؤل التالي: «هل ستحبي يوما …» ؟؟ (قصة أنت القصيدة ص.07). فإزاء قسوة الحاضر وجفائه واستحالته إلى مجرد فرجة، تنهض آلية الحلم/ الخيال، ومن خلال ظهور الموضوع كفاعل، واستعاضته عن عالم الواقع بعالم آخر هو الشوق والحنين. تقول الكاتبة في قصة أيام الباكور: «جلست على السرير وأطفأت المصباح. نظرت إليه قائلة: «ماذا تريد؟؟، «اشتقت إليك» همس لك وجسده يهتز من تأثير الخمر» (قصة أيام الباكور، ص. 78 – 79). إن حسن الإصغاء لوقع الظهور الموضوعي على المعنى في السياق الحادث يقتضي حسن الربط والتأويل الدال في إطار استمرارية المعنى والدلالة وهكذا يمتثل التحليل الموضوعاتي لمغامرة الظهور الموضوعي، الخاضع ليس لمنطق النص الصغير، أو للإرادة النوعية للمبدعة، ولكن لمنطق خفي هو منطق النص الكبير (ماذا تحكي أيها البحر؟) من ناحية، ولمنطق العقل غير الواعي للمبدعة في رحلة الإبداع. كسفر في كون فسيح، وليس وقفات موزعة بين الأكوان (الأمكنة) والفترات (الأزمنة). ومن ثم نستطيع القول إن المجموعة القصصية ماذا تحكي أيها البحر؟ مكون إبداعي/ تخييلي غير محدود، وزمانه أيضا لا نهائي، تنتفي فيه كل الأبعاد، وتتجسد فيه الرؤية الممتدة إلى ما لا نهاية. على سبيل الختم نستخلص، مما سبق ذكره، أن الكاتبة فاطمة الزهراء المرابط استطاعت من خلال هذا المنجز الإبداعي أن تتفاعل مع موضوعات متباينة، وتتجاوب معها، فراحت تتغلغل في أحشائها وتسبر أغوارها لتصل إلى ما تحب من جمال وجلال وتفرد، أسعفتها في بلوغ هذا المرام العسير، قدرات إبداعية متميزة وملكات فنية هائلة، زيادة على رقة العاطفة وصفاء المشاعر والروح. ولعل تعدد موضوعات المجموعة القصصية (ماذا تحكي أيها البحر؟) يدل دلالة قوية على شمولية مجالات تعبيرها، مما يجعلها مأوى لتجربة روحية ذوقية، ولطموح إبداعي يطمح إلى التميز والتفرد.