-1بين يدي المجموعة: صدرت للكاتبة المغربية فاطمة الزهراء المرابط مجموعتها القصصية «ماذا تحكي أيها البحر…؟» عن الراصد الوطني للنشر والقراءة في طبعتها الأولى شتنبر 2014. تقع في 124 صفحة من القطع المتوسط، في طبعة أنيقة جدا. يتكون غلافها من صورة فوتوغرافية لامرأة تسير حافية القدمين منحسرة الثوب إلى ركبتيها، نحو البحر الذي تنظر إليه بشغف وحب، وهو يقبل نحوها بشغف وحب أكبرين، هل رأت بين موجه رجلا هلاميا يلوح لها من بعيد (قصة عبور ص:117) أم إنها تريد أن تسلم روحها للبحر بدل أن تسلمها لرجل يدفنها في البيت وهي حية شبقة؟ هذا عن المكون الأيقوني. أما المكون اللغوي، فيشمل الغلافُ اسمَ المبدعة وعنوان المجموعة وجنسها، وشريطا أبيض تظهر عليه دمغة الناشر، وعلى ظهره نقرأ مقطعا قصيرا من القصة التي تحمل عنوان المجموعة من الصفحة 51، إضافة إلى عبارات أخرى غير ذات أهمية إبداعية. أما جناحا الغلافين، فالأول منهما فارغ، فيما يحمل الثاني صورة المبدعة، ونبذة قصيرة عن نشاطها الجمعوي والإبداعي. صدّرت هذه المجموعة بإهداء «إلى من يشاركني عشق الحرف» ما يعني أننا كلنا معنيون بهذا النص كُتابا نعشق الحرف، وقُراء نعشقه أكثر. تتكون مجموعة «ماذا تحكي أيها البحر…؟» من تسعة عشر نصا، جاءت عناوينها حسب ترتيبها في المجموعة كما يلي: أنت القصيدة- انتظار- سفر- لعنة- معاكسة – أمواج – وردة- ماذا تحكي أيها البحر…؟ – S.M.S – نوستالجيا – التباس – أيام الباكور – شمعة – أبواب مفتوحة – ضباب – ثرثرة – برج الهوى – عبور – تلك الشقراء. تحتل "ماذا تحكي أيها البحر…؟" المرتبة الثامنة، وتأتي بدءا من الصفحة 45، اثنتا عشرة قصة عنوانها كلمة مفردة نكرة، وجاءت عناوين خمس قصص كلمتين مركبتين إما تركيبا إضافيا أو وصفيا، على أن الاستثناء في عنوان قصة "ماذا تحكي أيها البحر…؟" الذي جاء جملة إسمية تامة، وكذا عنوان قصة "S.M.S» الذي صيغ مختصرا بلغة أجنبية للدلالة على رسالة هاتفية قصيرة. ونلاحظ أنه ليس اعتباطيا أن تأتي قصة «ماذا تحكي أيها البحر…؟» استثناء، فهي التي وسمت المجموعة كلها، بمعنى أن فيها من العمق الفني والبعد الدلالي ما جعلها تحظى باختيار الكاتبة فتوشح بها جيد القصص كلها، ألا تكون واسطة العقد في القلادة التي تفننت الكاتبة في ارتدائها، في تنميقها وتدبيجها، بلغة عربية سليمة موجزة مكثفة، خالية من الغموض والتعقيد، معبرة موحية قادرة على الغوص في أعماق الذات الإنسانية الأنثى وسبر أغوارها، بكل طلاقة ومن دون أي تكلف أو تصنع، أو تعنت؟. وما قيل عن القصة واسطة العقد، يقال عن بقية القصص التي تطفح بحضور أنثوي جذاب ومغر من جهة، وحضور أنثوي مضطهد ومسلوب من جهة ثانية، وسأقتصر على الوجه الأول منهما في هذا المقال. 2 -أنثى البحر: الحضور المغري المتحرر لماذا جعلت الساردة أنثاها في كل قصص المجموعة شقراء، تتمتع بحضور أنثوي جذاب ومغر، بل لماذا جعلتها أنثى؟ وأنا لا أستعمل هنا كلمة امرأة، لما فيها من حمولة ثقافية قد تنبو بي بعيدا إلى مزالق فأخالف الكاتبة في تصوراتها، وأنا لا أبتغي ذلك، بل أسعى إلى إبراز تلك الصورة الإيجابية التي تطفح بها أنثاها في المتن السردي للمجموعة. إن لهذه الأنثى حضورا لافتا منذ أول نص قصصي وهو «أنت القصيدة…» [لي عودة لهذا النص لاحقا]، وفي «انتظار» وبالرغم من أن بدايتها تلامس أزمة اجتماعية يعانيها الرجل العاطل عن العمل، إلا أن حضور الأنثى الشقراء ذات القد الممشوق يطالعنا، وقبل ذلك يتناهى إلى سمعنا وقع خطواتها المتناسقة التي تشبه الموسيقى، لتجعل البطل يقع في مفارقة منطقية وهو يقارن بين أنثى البحر الرشيقة وزوجته البدينة، الأنثى التي دخلت على الرئيس من دون أن تتحايل عليه كما فعل البقية من المنتظرين من الرجال، ما جعل القصة تنتهي بالاحتجاج على هذا السلوك المشين. العجوز في قصة «سفر» طبعت قبلة على فم الشاب المسافر، قد تكون الأنثى قد شاخت، وبقي في نفسها الإعجاب الذي تحمله للرجل المسافر/العاشق الذي يكثر من السفر، ليكون لطعم اللقاء مذاق خاص. تعود الموسيقى لترافق رحلتنا مع أنثى «لعنة»، وترافق القصيدة كذلك، ونحن لا ننسى أن الأنثى قصيدة، إنها حسناء ترتدي سروال جينز وسترة سوداء، وشعرها مبعثر على كتفيها (ص:26) متبرمة مرتجفة، تلقي القصيدة/ تلقي نفسها على مسامع الرجل الذي لا يصغي بل يمسد شعره، ويعبث بشاربه، إنه يلعب، فيم الأنثى/ القصيدة تتحرق لترضي لامبالاته، لم يتجاهلها وحده، بل كل من كان في القاعة فعل، تتحول الأنثى الحسناء إلى حكيمة تردد بينها وبين نفسها العبارة المسكوكة «من يملك بيتا لا يرمي الآخرين بالحجارة…» (ص:27) بعدما تيقنت أن ما ألقاه الشاعر الرجل الذي انتقدها من قبل مجرد ترهات بالرغم من زينته المفبركة، البذلة وربطة العنق والبيريه. أنثى البحر في قصة «معاكسة» مغرية بكعبها العالي وتمايلها في مشيتها، طيف عابر، حلم يقظة، يستهوي الطاهر الحاج ذا الوجه الشاحب والتجاعيد والثروة الهائلة، فشل في المعاكسة الأولى، وكاد أن ينجح في الثانية لولا أن صوته خانه، فلم يخرج من فمه، إنه طيف أيضا أو حلم هارب. في «أمواج» تقرر الساردة الأنثى أن تبدو على غير ما عهدناها عليه، فتقرر التمرد على يومياتها البائسة، وانكتاباتها المتكررة، التي تقدم صورة نمطية عنها، إنها تود أن تكشف لنا جانبا آخر من شخصيتها لم نتعرف إليه بعد، إنه عشق البحر، الذي ليس إلا رجلا تتحسسه بعمق، وتهيئ له من اللباس والمظهر ما يبرز أنوثتها المنسية، التي نسيها الرجل الحقيقي الذي من لحم ودم. إنها أنثى شبقة، مهووسة بالعري، «تخلصت من الحذاء الصيفي» (ص:35) أمام البحر الذي يتراجع ويتقدم نحو عريها، رماله تدغدغها، ورطوبته تنعشها، وشمسه تحرق بشرتها، بحمرة الخجل على وجهها القابع خلف أبواب الحرمان الموصدة. صورة البحر هذه تناقض تماما صورة المكتب المظلم الذي تشتغل فيه، فالشمس لا تزوره وجدرانه كئيبة، وسماؤه غيماء، ومستعدة للبكاء (ص:35) إنها بمقابل البحر لا تملك إلا أن تمد يدها فتلامس موجه/ يده، إن تماس الجسدين يحمل الأنثى إلى تخوم الذكرى، وليس إلى البحر، لتعيش سعادة الطفولة التي مرت بها مذ كانت طفلة، حيث كانت أعماقها مثقلة بالأحزان. (ص:41) السارد في «وردة» ليس أنثى، وهذا أمر مؤسف، لكن ما يبحث عنه ليس إلا أنثى باسم وردة، فهي تشترك معها في بياضها وخفتها وعطرها الفواح، إنها تنتصر على السارد في إبقائها على صورتها في مخيلته، واعترافه أنه لا حياة له بدونها. يقول «لا حياة بدون وردة» (ص: 45) فهو يحتفظ بأنفاسها وطيفها. وجسدها الأبيض العاري ما يزال يغريه، بل إن نظرتها إليه ذنب لم يقترفه، يقول الشاعر العربي: وترمينني بالطرف أي أنت مذنب *** وتقلينني، لكن إياك لا أقلي إن السارد يتأرجح بين القتامة والصفاء، قتامة قهوة الصباح السوداء، وصفاء صورتها العالقة في ذهنه، لا يمكن أن تعود فقد عانقت البحر لتموت «سأرحل .. سأموت..» (ص:46). في «ماذا تحكي أيها البحر…؟» توهمنا الساردة في الأسطر الأربعة الأولى أن البحر/الرجل يسحبها نحوه، يطوقها، يسجنها بين ذراعيه، وهي تجاهد لكي تتخلص منه، لكن ذلك كله من فعل السرير الذي ترقد عليه، فيسخر منها وتزيد الضحكات المجلجلة التي تخرج من صفحتها على الفيس بوك من حنقها، وسخطها، فتقرر التخلص من جهاز الحاسوب ورميه في البحر [قد يتحول البحر هنا إلى رجل غريب ترغب الساردة في أن تتخلص فيه من حكاياتها/قصصها غير المكتملة]. وإذا كان هذا الجهاز يخشى البحر وموجه، فإن الساردة بالمقابل تتغلغل فيه بكل ما أوتيته من عري وثبات واشتعال الشفاه بأغان رومانسية واتقاد الشمس لهيبا، يكتمل هذا التوغل بإغراق الجهاز وملامسة أمواج البحر لقدميها العاريتين، على الصخور، فتدغدغها، وتند عنها صرخة مكتومة. في هذه اللحظة تبدأ الغواية، وكأننا نتلصص على عاشقين عاريين يهمسان لبعضهما نبرات الحب. إن الساردة لا تفطن إلى أن ذلك مجرد هذيان، لكنها تفطن إلى أن جسدها يغادرها بعيدا، منسابا مع زرقة الماء، فتبحث عن جهازها الذي تفتت موسيقى وحروفا، قبل أن يستحيل رجلا/عاشقا يمسد على خصلاتها بحنان الشوق والعودة إلى حضن المبدعة. في «التباس» ذات المرأة الشقراء بسيجارتها الشهباء، إنها هنا كاتبة لا يشق لها غبار، صاحبة القلم الذهبي، الحالمة دوما، المحبة للشهرة، المسافرة لحضور الملتقيات، إنها تثير الشاب فيطلب منها توقيع روايتها له، ويدعوها لقراءة نصوصه الإبداعية، التي ينشرها على صفحته في الفيس بوك، توليه ظهرها وتغادر، ويفاجأ المسكين بقصته القصيرة تنشرها باسمها على جريدة. في «أيام الباكور» أنثى البحر امرأة فوق العادة كما يبدأ السارد النص تماما، لأنها بكل بساطة «صورة مغايرة لأمك وجدتك وجارتك رقية» (ص:75) فهي امرأة متحررة، ليست وظيفتها أن تكون ربة بيت، «لم أولد لأكون ربة بيت…» (ص:75) هي حرة، حالمة، تقبل بالزواج من رجل يلتقي وإياها في كثير من القضايا والمبادئ، لكنها أيام الباكور التي تمر سريعا، فلا يبقى منها غير مذاقه العسلي والذكرى، والوحدة المثقلة بالفراغ، فتكتشف صحة موقف صديقتها، هي نفسها التي أسلمت روحها للبحر، وحقيقة أن الحب من أكبر الأوهام، لقد تحول كل شيء، وتقدم بها العمر، وتخلت عن كل شيء. إن العبارة السالفة تختزل طموح الأنثى في المجموعة ككل، إنها أنثى متحررة، وحتى إن ظلمها القدر أو أغراها الرجل فتزوجت منه، ولزمت البيت كراهة، فإنها قادرة على الصراخ، والصراخ بداية الحرية والانعتاق ثم الإبداع والاكتمال، وعلى أن تعيش على ذكرياتها التي تسعفها في التغلب على معاناتها على أنها تؤمن بأن «الزواج يقتل الحب» (ص:46). يطالعنا لقاء أنثى البحر بعاشقها في قصة «ضباب» ذات صباح ضبابي وهي ترتدي الأحمر الفتان، تنتظره على رصيف القطار، فيخرج مزهوا في حمرته كذلك، إنهما عاشقان يحتفلان بعيد الحب، قبل أوانه، القبلة التي ارتشفها من شفتيها على مرآى المسافرين كانت أكبر دليل على ذلك، هذه القبلة وقعت كذلك في قصة «عبور» (ص:116) حيث تتذكر قبلته الأخيرة ذات قطار، وكذا في «ثرثرة» يحضر البحر هنا صديقا للساردة التي تثير غيرة عاشقها، الذي يدعوها إلى ليلة ساهرة كل شيء فيها أحمر حتى البحر نفسه. في «ثرثرة» تعود الأنثى الشقراء موضوعا لتأمل الرجل المسافر، وشبقا ينغل في عروق دمه الساخنة «هل تفكر في لون تبانها، وحمالات صدرها؟ أم تفكر في بياض ردفيها وفخذيها». (ص:106) إنها عشيقته القديمة التي فرق القدر بينهما، وجمعهما مرة ثانية أمام باب مقصورة القطار. «برج الهوى»، تستعيد الأنثى أنوثتها، وتبدع في إبرازها لأن لها موعدا هذا المساء مع فارس خيالها، ذاك ما قالته لها صفحة الأبراج في جريدتها، «سأرتدي تنورة سوداء تبرز أنوثتي، وأطلق العنان لشعري الأشقر، اليوم ليس ككل الأيام» (ص:111) فارس خيالها مميز جدا، له مواصفات يندر أن تجتمع في الفرسان، بيد أنها لم تستطع أن تحدد ملامحه بدقة، بقيت متعثرة بين صور خيالها، فبالرغم من أنها استبعدت أن «يشبه أستاذ مادة التربية الإسلامية» (ص:111) وفي خضم كل ذلك تعود خائبة من جولة البحث عن الهوى. في «عبور» إجابة صريحة عن غلاف المجموعة، فمن البحر يخرج الرجل العاشق، الذي غاب عن أنثاه وانتظرته طويلا، يخرج من بين الموج، ملبيا نداء نما في خاطرها «متى ستعود…؟». (ص: 117) «تلك الشقراء»، أرى أن أنثى البحر هنا تغار من أنثى البحر نفسها، «تلك الشقراء تحيرني، توترني، تبعثر أفكاري، وتشتت أحلامي الوردية» (ص:121) «تلك الشقراء تلغي وجودي» (ص:122)، إحساسها هذا وجد صداه في قلب الرجل الذي فضل الشقراء الغائبة على أنثاه الحاضرة بين يديه دوما، ففتح الباب في وجهها، ولم تغادر بل أولجت في الغرفة تغلق على غيرتها إلى الأبد. -3 الخاتمة: لا تسعفني هذه الورقة لأمد يدي فأتناول جانب اللغة، والأسلوب، والصور الشعرية التي تطفح بها المجموعة، وكذا تقنيات الوصف والحوار والسرد، وعنصر المفاجأة الذي يخرق في كل مرة وفي كل قصة أفق توقعاتنا نحن القراء، ويجعلنا نعيد قراءة النص مرة ثانية مهيئين أنفسنا لتقبل المفاجأة، والتصالح مع انتظاراتنا. لن أكون مجحفا في حق المجموعة، فقد عملت جاهدا لأضيء جوانب من أنثاها هذا إن كانت واحدة خيطا ناظما لكل تمفصلات القصص. إنني قادر على أن أعيد رسم معالم أنثى البحر وتشكيلها من جديد وفق تصوري الخاص، معتمدا على ما تناثر من صورتها وصوتها وعطرها وشبقها في قصص المجموعة، وهكذا فهي أنثى شقراء، صوتها دافئ وعطرها قوي، وفستانها أبيض ضيق، تقصي الساردة بحضورها القوي، وتلغي أنوثتها، وترغمها على أن تعيش وحيدة من دون رجل، وهي لا تكون في النهاية غير القصيدة نفسها، أليست القصيدة رشيقة، فاتنة، بريئة، تختبئ في لواعجها الباطنية براكين قد تثور في أية لحظة. إن أنثى البحر قصيدة حداثية تتجرد من صرامة البيت التقليدي وسيميتريته الحادة، لتتحرر من ربقة الزمن الثقيل، وتنساب كما الموج في البحر، لا تأبه لعريها لأنها امرأة خلقت لتتعرى للبحر وللرجل على حد سواء. تقول الكاتبة : «طيف امرأة شقراء يسكن القصيدة» (ص:8)، وتقول: «سكنت القصيدة، وكل الدواوين الأخرى» نفس الصفحة. غير أن الساردة تشكك في الشبه بين أنثاها والقصيدة، بل إنها تبحث عن أسطر القصيدة في ثنايا جسدها، ربما بدا لها النهد صورة شعرية، أو السرة منزلقا استعاريا، من يدري غيرها.