يكاد عدد الدّراسات المعاصرة، المنشورة، حول الأدب الأمازيغي بمنطقة الأطلس المتوسّط أن يكون على رؤوس الأصابع، فإذا استثنينا بعض أعمال محمّد شفيق ومحمد الطّايفي وفاطمة بوخريص، وأقلام أخرى، نشر لها المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية دراسات متفرّقة، فانّه يمكن القول إن هذا الأدب لم يحظ بعد بما يستحقّه من الدّرس والعناية لأسباب مختلفة، الأمر الذي يجعل المنتوج الكولونيالي، في هذا الإطار، في صدارة اهتمام الباحثين والمهتمين خصوصا، وانّه وفّر عبر الجمع والتدوين نصوصا إبداعية كانت ستندثر لولا عملية توثيقها . وبالتالي فان مؤلّف الأستاذ والباحث الجامعي سعيدي المولودي، الصّادر حديثا تحت عنوان: مداخل إلى الأدب الاْمازيغي بالاْطلس المتوسط (**) سيملأ لا محالة بعض الفراغ الذي يشكو من هوله البحث والتأليف حول هذا الأدب بالأطلس المتوسط تحديدا . وقد قسّم الكاتب موادّ دراسته هاته إلى أربعة مباحث أو بالأحرى مداخل وهي : المدخل التاريخي، والمدخل الاجناسي، والمدخل الجمالي، والمدخل الموضوعاتي، وكأنه يحاول التعرّف والتّعريف بالفضاء الدّاخلي للمجال المدروس سالكا مداخل الأبواب التي تتيحها الجهات الطبيعية الأربع التي تقود حتما إلى عمق واحد يشكّل فيه الجبل بعلوّه ورمزيّته و»قدسيته» مركزا مفتوحا على العالم من حوله .غير أن المجال المشتغل عليه، وكما تدلّ على ذلك المفاهيم والأدوات المعتمدة في قراءة وتفكيك النّصوص الإبداعية التي استدعاها متن الدراسة لا يتحدّد كامتداد جغرافي فقط أو كفضاء يقطنه الإنسان – الأطلس المتوسط – بل انه يتحدّد أيضا بوصفه لاشعورا فرديا وجماعيا وبصفته نمطا من الوعي الإنساني الذي يشتغل عبر آلية التّخييل، وبتعبير أخر فالمجال المدروس هو ذاك الذي يسكن مخيلة الإنسان الأمازيغي بالأطلس المتوسط متّخذا شكل صور إبداعية وتمثلّات للوجود وللعالم يتمّ تصريفها في الحقل الثقافي والاجتماعي على شكل مقولات وسلوكات يوميّة . من هذا المنطلق فانّ أول هاجس معرفي شغل الكاتب هو البحث في تاريخ الأدب الاْمازيغي بشكل عام حيث تم تشخيص الصعوبات التي تكتنفه بسبب اتّساع شبكة العلاقات التي نما فيها ، خصوصا وانّ جزءا من تاريخه يوجد في تاريخ آداب أخرى (اليونانية ، اللاتينية ، البونيقية ، العربية ، الفرنسية …) كما أن الطابع الشّفاهي المميز له وما نجم عن ذلك من فجوات وحلقات مفقودة يؤكد «أن عملية التأريخ للأدب الأمازيغي ليست على الإطلاق بالأمر الهيّن» (1). وبالتالي فانّ ماضي هذا الأدب يمكن البحث عنه على الأقل بالنسبة للمجال المدروس في النصوص الإبداعية التي قاومت النّسيان وظلت تمارس حياتها في النسيجين الثقافي والاجتماعي وذلك وفق اختيار منهجي واضح لدى الكاتب قاده الى مساءلة ماضي وارتقاء الإشكال الأدبية بالأطلس المتوسط عبر سلك المدخل الاجناسي بل وجعل هذا المدخل مدخلا رئيسا بحكم اتساع الحيز الفضائي الذي شغله في مساحة البحث ككل . حيث سيتمّ انطلاقا من النصوص الأدبية الشفهية التي تم استحضارها تصنيف الأشكال الشعرية بالأطلس المتوسط إلى السلالات التالية : «أفرّاذي»، و»ْايزلي» ، و»ثاماوايث»، و»ثايفّارث»، وهي سلالات متشابكة ومتداخلة لا تسير على خطّ نموّ مضطرد يفضي فيه البعض إلى الأخر ، أو تنقرض على مساره سلالات وتنشأ أخرى، بل إنها تتعايش وتتبادل بعضا من مقوّماتها وان كان كلّ شكل شعريّ يتمتّع بخصوصيات دقيقة، ك «البساطة والخفة» التي تميّز»أفرادي» والغنائية التي تميّز «ايزلي» و»الاسترسال الايقاعي المضاعف» الذي يميز « ثاماوايث» والنضج» المستوفي لكلّ عناصر وطاقات البناء أو الأداء الشعريّ «المميّز ل «ثايفّارث» كشكل شعري يعتبره الكاتب في سياق رصده للخصوصيات الدقيقة المميّزة لكلّ نوع إعلانا عن انفصال الشعر عن الغناء وانطلاقه في اتجاه تأسيس كيانه ووجوده المستقلّ (2). أمّا في دائرة النّثر فقد تمّ التطرّق للمثل والحكاية بتفريعاتها المختلفة التي تصبّ في السرد الخرافي والأسطوري والشّعبي كما تناول بالبحث الأحاجي والألغاز، وهي أجناس أدبية تبدو اليوم فاقدة لسياقاتها غير أنها مع ذلك نصوص أدبية تحفل بكثير من الإيحاءات والأفكار والمعتقدات والتمثلات الناظمة لعلاقة الإنسان بالطبيعة والوجود، من هنا أهمية اعتمادها لاستكشاف علامات الوعي الإنساني وانتقالاته وتفاعلاته مع المحيط والعالم. هذا، وقد أفضى تحديد السلالات الشعرية والمظاهر النثرية في الأدب الأمازيغي بالأطلس المتوسط إلى محاولة إبراز أهم المقوّمات التركيبية التي تنتظم داخلها وهي التي حددها الباحث في خاصيتين مهمتين، الأولى تتعلق بارتباط هذا الأدب ب «طقس الأداء» الذي يمنحها جمالية خاصّة ترعاها الطقوس الجماعية والفردية (أحيدوس، تافراوت، الأعراس، حفلات الختان الجماعي، المواسم، ومختلف مظاهر الاحتفاء بالخصب والطبيعة)، وما تستدعيه من إيقاعات وأصوات وحركات وإيماءات . أما الخاصية الثانية فتتعلق بهيمنة « بناء المشابهات « باعتباره ذا « أهمية فكرية ونظرية في الثقافة والإبداع الاْمازيغي ّ» (3)، مبرّر ذلك إن فعل الوجود ( كَيخ) أو فعل الصّيرورة (ايكَا) يكاد يكون ابرز الدّوالّ التي تشغّلها عمليّة تشكيل الصورة الشّعرية في الأطلس المتوسط والأمثلة كثيرة في هذا الباب ، حيث تقوم على مشابهات حسّية، في مجملها ، تستقي عناصرها من الواقع الملموس ولو أن أبعادها الحسّية ، في سياقات معينة ،» تؤازرها أوضاع أو هواجس لا مرئيّة « (4). إن فاعلية المشاهدة أو «العين» هي التي ستجعل مفردات المجال جزءا لا يتجزأ من بنية الصورة الشعرية في الأطلس المتوسط حيث تبدو الغيوم مثلا امتدادا للحالات العاطفية كما يغدو غيثها في حالات أخرى امتدادا للوعة والبكاء الأبدي : أذالّخ أينّا ثالّا ثاكَوت خف لاجبال ألّيكّر اومرذول ازيزا دّاو نّيطّينو «. إلا أن الشعر هنا لا يحفل فقط بأشياء المجال بل وأيضا بقضاياه وأحاسيسه خصوصا في فترات التصدّع والتحوّل حيث يختزن الوعي الإنساني الاْمازيغي بالأطلس المتوسط الصّور النّموذجية للمجال ،قبل انكساره، داخل البنى الذهنية العميقة لتنعكس عبر الكلمة الشعرية ملونة بلون الاغتراب عن المحيط وعن الذات، تارة وبلون المقاومة والنضال أحيانا أخرى حيث استوعب الشعر الاْمازيغي بالأطلس المتوسط كما خلص الى ذلك الكاتب في فصل المدخل الموضوعاتي وخصوصا صنف « ثايفّارث» كثيرا من مظاهر الاحتجاج والرفض والدعوة إلى طرد المحتل الأجنبي . وختاما فان هذا الموْلّف، في تقديري المتواضع، سيملأ جزءا من الفراغ الذي يشكو منه البحث في الثقافة الامازيغيىة بالأطلس المتوسط المركزي بالخصوص كما انّه سيفتح لا محالة ، كما يدلّ على ذلك عنوانه ، آفاق البحث أمام الطاقات الشابة المتطلّعة لانجاز أعمال بحث حول الثقافة والمجتمع بالأطلس المتوسط . انّه في تقديري عمل جادّ بتفاعله الناضج مع سياق تنامي الوعي الفردي والجماعي ، محليا ووطنيا وعالميّا ، بجدوى وأهمية صون تراثنا الثقافي عبر جرده والبحث في قضاياه والحرص على توفير شروط ديمومته الممكنة لما يمنحه ذلك من شعور بالكرامة واعتزاز بالانتماء الهوياتي كقيم لا يمكن للإنسان أن تكون له بصمته الخاصّة في الوجود بدونها. (*) باحث ومسؤول بالمركز الثقافي أبي القاسم الزياني،وعضو مركز روافد بخنيفرة (**) مداخل إلى الأدب الاْمازيغي بالاْطلس المتوسط ، سعيدي المولودي، منشورات جمعية اجذير ايزوران – خنيفرة ، مطابع الرباط نت ط الأولى ،2018. (1) المرجع المذكور ص 25. (2 )انظر الفصل المتعلق بالمدخل الاجناسي (3) نفس المرجع ص 144. (4 ) المرجع نفسه ص 156.