منذ مطلع ستينيات القرن الماضي، تعرف القارئ العربي على إبداعات بعض الشعراء العرب الذين خاضوا تجربة الهايكو لأول مرة ، ولعل من أبرزهم كان الشاعر لفلسطيني عز الدين مناصرة، لتأخذ هذه التجربة خطا تصاعدا في السبعينيات والثمانينيات فالتسعينيات، إذ اتسع الاهتمام بهذا النمط الشعري الجديد في أدبنا العربي خاصة عند شعراء المشرق العربي،فحققنا بذلك تراكمات لابأس بها ، غير أن السؤال المطروح هو: رغم هذه التراكمات التي حققها الهايكو العربي، ألم يحن الوقت بعد لطرح أرضية للنقاش تكون منطلقا لوضع تصورات – إن لم نقل نظريات – تؤسس وتقنن هذا النمط الشعري؟ فالهايكو بصفته قصيدة شعرية قصيرة، شديدة الاختزال، بسيطة البناء تعطي انطباعا خاطئا ومغلوطا بأنها سهلة المنال يمكن لأي كان أن يبدع فيها …في حين إنها على عكس ذلك قصيدة تعبر عن حالة ذهنية عميقة التأمل، شديدة الحساسية لكل ما يحيط بنا من كائنات وأشياء وظواهر. إنها على رأي الشاعر نور الدين ضرار : «..الهايكو نص مضغوط قد يبدو للوهلة الأولى، في تحققه على الورق، مجرد بذرة حبر باهتة أو زخة مطر شفيفة.. لكنه سرعان ما يتفتق بفعل القراءة المتأنية المتأملة عن كون شعري لا متناهٍ في مشهديته.. تماما كتشكلات دوائر مائيّة متماوجة عن رمي حصاة على صفحة بِركةٍ جنائنيّة هادئة عميقة…» (1) **************** إن المنجز الشعري العربي في شعر الهايكو رغم قصر عمره – مقارنة بالتجارب العالمية الأخرى – يمكن أن نقسمه إلى نوعين : 1- تيار تقليدي حافظ على الشكل التقليدي لقصيدة الهايكو كما جاءت في الهايكو الياباني الكلاسيكي . 2- تيار حاول الانسلاخ عن الشكل الكلاسيكي للهايكو الياباني . * التيار التقليدي : الهايكو في شكله التقليدي ارتبط ارتباطا وثيقا لامحيد عنه بالطبيعة، فالنصوص تصور إحساسا أو تنقل صورة مباشرة من الطبيعة كصوت الماء عند نطة ضفدع. وهي تسمى أيضا هايكو الكيغو لأنها ترتبط بفصول السنة عند اليابانيين، سواء كان ذلك بشكل صريح أو ضمني كالتعبير عن المطر أو الريح أو الثلج أو الماء أو شهور السنة . 1-عبد الكريم كاصد والهايكو الكلاسيكي: وسنمثل لهذا التيار بالشاعر……… عبد الكريم كاصد يقول: « ضباب- ورقة تهوي صفراء إلى القاع.» «رياح الخريف البيوت تترنح سفنا – بحر متلاطم « 3- « خريف – أوراق أم قتلى في ساحة الحرب .» هنا يحضر الكيغو الذي يعد أساس الهايكو الكلاسيكي : 1- بطريقة غير مباشرة من خلال قول الشاعر : ( صفراء إلى القاع ) فالأوراق الصفراء هي إحالة إلى فصل الخريف . 2- ثم من خلال ( كلمة الخريف المتكررة ) وذلك يعد تعبيرا مباشرا عن الكيغو/ الخريف. فالشاعر بهذا لم يخرج عن الشكل الكلاسيكي الذي حددته بنية النص الكلاسيكي القديم في ضرورة التقيد بالكيغو . بالرغم من اعتماد الهايكو على عنصري الإيجاز والتكثيف تماما مثل الشذرة ،إلا أنه يحاول أن يظل في منأى أو اتصال مباشر بالبلاغة القديمة، والمتمثلة أساسا في الاستعارة – وهو في بنائه هذا يعتمد ثلاثة أسطر يكتمل فيها المشهد/الكيغو في السطرين الثاني والثالث دلاليا / أو إيحائيا لينتهيا بالكيرجي، أو ماسمي في اللغة العربية بالخرجة التي تبقي عنصر الإدهاش والإبهار حتى آخر سطر في النص . 2- سامح درويش الهايكو نحو التأصيل والتجديد : يمثل سامح درويش اسما رائدا في الهايكو المغربي ومن خلال قراءتنا لديوانه « خنافس مضيئة» ، إذ أنه – الديوان – عبارة عن ومضات وهاجة ولوحات منتقاة بدقة متناهية ، تقتفي مواطن الجمال والدهشة الشعرية في حياة الشاعر اليومية . الديوان من حيث الشكل يحتوي على ثلاثة عناوين كبرى : 1- معصوب المجاز أنظر إليك يا أزهار اللوز 2- مكان قلبي، بهمة يحفر نقار الخشب 3- قبلة في الهواء تبهج فتى يصلح السكة . 4- خوذته معه ، لكنه يعتمر عمامته . كل عنوان من هذه العناوين الاربعة يتشكل من مجموعة نصوص يوحد بينها قاسم مشترك هو الطبيعة، وهذا هو لب الهايكو الذي يبدو فيه سامح محافظا على هذه الروح ،لكنه مجدد في اللغة والصياغة والتركيب اللفظي والموضوعات (التيمات )– ولا أقول هنا المواضيع -عنصر التجديد هنا في هذا الديوان ، هو قدرة الشاعر الخلاقة على أن يجعل المألوف المعتاد مبهرا ، جديدا ، لافتا مدهشا ….ومحملا بدلالات عميقة. فالكائنات التي رصدها سامح : نبات…شجر…طير…حشرات…لا تعدو أن تكون كائنات معتادة مألوفة لدينا ، لكنه يرصدها وسيلة يحملها شعرية رائعة في اقتصاد لغوي بديع : « من بعيد ، شجرة البرتقال تبوح بكل شيء.» ص فالمشهدية التي تعد أساس الهايكو ليست غاية في ذاتها ، إنما هي إطار لتمرير رسالة أوخطاب شعري موجز مكثف، يختزل لنا رؤية الشاعر وتجرية حياة ، وإن كان يتحدث عن نملة او فراشة أو خنفساء…..أو حتى قشرة مندرين حتى : « يالقشرة المندرين تتضوع من المدفأة ، فيندلع الحنين « ص 19 أعود لأقول إنها المشهدية ولكنها مؤطرة بدهشة شعرية تقول وجدانيات الشاعر المنبثقة على شكل التماعة عشق أو حسرة أو ذكرى أوعزلة أو إعجاب…مرة يحضر فيها الكيغو ومرات تنزاح فيها قليلا ليراهن الشاعر على التقاط مشاهد يومية، ولك أن تقرأ في هذه المجموعة ألوانا متعددة دون تكرار أو ملل أو نمطية … إذ لم تعد المشهدية محصورة في الطبيعة وعناصرها بل نجد سامح ينوع لنا المشاهد فيلتفت إلى المحطة والباص والقطار والترومواي والمصعد والسوق والمتسول….إنها قدرة خلاقة للشاعر في التقاط كل ما حوله وتحويله إلى لوحات شعرية، وهذه روح تجديدية بثها سامح بكل أناقة في الهايكو العربي، انزاح فيها سامح عن روح الهايكو وتقاليده الكلاسيكية وحضرت ذاته بشكل فعال لتعبرعن إضافات نوعية …. يقول : « المصعد معطل يلهث صاعدا ، عامل المناجم المنخور « «في السوق، بسخاء يفشي السلام رجل الريف المجلبب» ويبقى الهايكو عند سامح إبداعا جماليا ونظرة فكرية عميقة الدلالات تحاول استجلاء كنه الأشياء المحيطة بنا. في نصوصه تنزاح اللغة لترسم لك مشاهد شعرية بألوان الطيف ،تستدرجك الصورة المشهدية بدلالاتها وإيحاءاتها. فحين نقرأ له في نفس المجموعة نصوصا أخرى: « أمام المدفئة شجرة اللوز تظللني حتى وهي تحترق .» هنا أيضا نلاحظ حضور الكيغو المتمثل في فصل الشتاء من خلال الدال / المدفأة ، إلا أن سامح يراهن أيضا على التقاط مشاهد يومية مغايرة للكيغو . « أول الخريف، بنصف كم أتلذذ قطر المطر .» « لي موعد معي، على أوراق التوت اليابسة اسمع نقر المطر .» 3- نور الدين ضرار وروح التجديد بشعرية أنيقة : الهايكو عند نور الدين ضرار نص شديد الإيجاز و التوهج، يختزل شساعة العالم في اقتصاد لغوي مدهش، والشاعر هنا ينتصر لشعرية اللغة وإيقاعها وجماليتها بالقدر الذي يجل نصه في الهايكو مشهدا شعريا يمتزج فيه الإيقاع الخارجي للجملة بجمالية اللغة وعمق الفكرة ،وهي شعرية راهنت عليها القصيدة الشعرية العربية منذ مئات ومئات السنين،يقول ضرار : « وجهك قبس من سماء، كلما تطلعت إليه غشا بصري العماء « يقول أيضا : « وجهها الغائم في لوحة على الجدار خاطرة نجم ببال النهار « تحضر ذات الشاعر وأناه بقوة مما يمنح للهايكوهنا شعرية أكثر بهاء،بعكس ما نادى به الكثير من الباحثين الذين يلحون على ضرورة تنحي الأنا والذات الشاعرة في النص أسوة بالهايكو الكلاسيكي إذ يكتفي الهايكيست بنقل مشهد من الطبيعة كان مطرا أو برقا أو ريحا…بدون إقحام ذاته الشاعرة، في هذه الحالة نتساءل : أليست آلة التصوير « كانون» بدقتها الرقمية العالية أكثر دقة من الشاعر نفسه في نقل أي مشهد من الطبيعة ؟؟ إن الشاعر العربي مسكون بالمجاز والاستعارات، لأن ذاكرته تختزن عشرات القصائد للشعراء العرب القدامى من مختلف العصور والأزمنة، لذلك فأنت لابد أن تجده يتسرب إلى قصيدة الهايكو العربي، بل إنه طبيعة الغة ذاتها،لأن جل مفردات اللغة تحمل شحنات مجاز تشبعت بها منذ قرون خلت، وتنزاح هذه المفردات بكل أناقتها لتمنح جماليات تتعدد من نص إلى آخر، يقول نور الدين ضرار : « السماء تمطر بقلبي وأنت على مقربة مني أبعد من كل سماء. « « السماء تمطر بقلبي « هنا يحضر الهايكو بأناقة المجاز في مشهدية رائعة، فالسماء البعيدة قبل أن تمطر بزخاتها على الأرض، فإنها أمطرت بقلب الشاعر، أما تلك القريبة منه في الحيز المكاني ، حبيبة كانت أو قصيدة يجعل المشهد مفتوحا على التأويل والقراءات المتعددة التي تعدد بتعدد القارئ، وهذا مؤشر قوي على غنى النص وعدم سقوطه في الاستهلاك اللحظوي الذي يقتل النص بمجرد الانتهاء من قراءته . « تلك آخر سماء وهذي الأرض مجرد فقاعة في الهواء « * مداخلة في ندوة حول «الهايكو بين واقع التأثر وأفق التأصيل» التي نظمتها المديرية الجهوية للثقافة بجهة البيضاءسطات وجمعية شتلة للثقافة والفنون يوم 11 بريل الجاري. هوامش: (1) « نفحات من الهايكو الياباني « نور الدين ضرار ص7 ط1 عن منشورات نويغا – الرباط (2) نصوص سامح درويش مقتطفة من ديوانه « خنافس مضيئة « منشورات « الموكب الأدبي « طبعة اولى 2015 ونصوص نور الدين ضرار وعبد الكريم كاصد مقتطفة من كتاب « أنطولوجيا الهايكو العربي « تأليف عبد القادر الجاموسي – منشورات الموكب الأدبي ط/2016