في البداية لا بد من توضيح منهجية هذه المساهمة، التي تعتبر أن التنمية هي عملية متكاملة، لا ينفصل فيها السياسي عن الاقتصادي والبيئي والاجتماعي والثقافي، كما أن جوهر هذه التنمية هو العنصر البشري، الذي يعتبر الفاعل الرئيسي فيها وهو أيضا المستهدف منها، لذلك فإن ما سأقدمه من أفكار أولية، سأحاول الحديث فيها عن التفاعل الجدلي بين النموذج التنموي والأبعاد الثقافة والتربوية والإعلامية والتواصلية، بل وأيضا التصورات الإيديولوجية والواقع السوسيولوجي في تحولاته وتعقيداته. عندما نتحدث عن البعد السوسيوثقافي، فإننا نعني أولا واقع الموارد البشرية، سواء في مساهمتها أو عجزها عن لعب دور إيجابي في التنمية الشاملة، أو في تحسين أوضاعها المادية والمعنوية. هنا من اللازم تسجيل ملاحظة جوهرية، هي أن التحولات السوسيوثقافية، التي عرفها المغرب، في العقود الأربعة الأخيرة، تلقي بظلالها على النموذج التنموي، لأنها أحدثت رجة في التوازنات التقليدية، التي تميز بها، مثل انتقال الثقل الديمغرافي من البادية للمدن، وزيادة عدد الشباب في البنية السكانية، وتطور الأدوار التي تلعبها النساء، وتكريس ثقافة حقوق الإنسان، وانفجار عدد جمعيات المجتمع المدني، وتقدم مسلسل الدمقرطة، وتعميم مظاهر الاحتجاج. غير أن كل هذه المؤشرات، تحتاج إلى افتحاص دقيق، لدراسة أبعادها الفعلية، في الواقع المغربي. ملامح تغَيّر النظام السياسي لا يمكن دراسة هذه الأبعاد، دون التطرق لمسألة أساسية تتعلق بطبيعة النظام السياسي السائد، وهو موضوع يثير جدلاً كبيراً، بين المختصين في العلوم السياسية والسوسيولوجيا السياسية، وبين مختلف الفاعلين السياسيين والحقوقيين. هل مازال المغرب يعيش في ظل النظام الذي يطلق عليه في السوسيولوجيا السياسية بالباتريمونيالية الجديدة، أم أنه تجاوز هذا النمط لوضع آخر؟ الباتريمونيالية الجديدة تعني لدى المنظرين الذين استعملوها، كنمط مثالي، أن هناك تداخلاً بين المجتمعات التقليدية المحلية ومفهوم الدولة الحديثة، فهي تستمد شرعيتها من بنية تقليدية ونظام سياسي حديث، لكنه يتبنى النمطين معاً، الشكل والمظهر الخارجي حديث؛ دستور، قانون مكتوب، إدارة... لكن نمط التسيير والتدبير باتريمونيالي، أي يعتمد على علاقات الزبونية والمحسوبية والولاء للسلطة المركزية، التي توزع المنافع والنفوذ. الدراسات والأبحاث التي حاولت مراجعة هذا النمط وإثبات أنه لم يعد مناسباً كأداة للتحليل، اعتبرت أن الإصلاحات التي تمت منذ حكومة التناوب وما سمي بالعهد الجديد، كرست وضعا جديدا، تميز بمراجعة الماضي الأسود وتبني المفهوم الجديد للسلطة واعتماد قوانين حديثة في مختلف المجالات، ومن بينها ما يهم المرأة، رغم حساسية الموضوع، ومحاولة تكريس سيادة البيروقراطية الإدارية، بمفهوم ماكس فيبر، والمحاسبة، وغيرها من أدوات الدولة الحديثة. غير أن التحديات الواقعية تظل مطروحة، وتثير تساؤلات مشروعة حول طبيعة النظام السياسي، خاصة في ضوء التجارب الإنتخابية، التي تشكل التمثل السياسي للمواطنين، بغض النظر عن مساهمتهم في عملية الاقتراع أم لا، فالمنتوج الإنتخابي، له دور في تمثل الوعي السياسي والثقافي، لدى الجمهور. لذلك لا ينبغي أن نستهين بهذا المعطى في تشكل الوعي لدى المواطنين، فالحمولة التي يتضمنها، على المستوى الواقعي اليومي وعلى المستوى الرمزي، يطبع إلى حد بعيد، تصور المواطن للنظام السياسي، وجوهره وطبيعته، وعلاقته بالسلطة وبالهيئات المنتخبة، وكذا فهمه لحقوق المواطنة وللمشاركة، هل هي حديثة وديمقراطية، أم أن الجوهر مازال يحتفظ بمقومات النظام النيوباتريمونيالي، سواء في تعامله مع حقوق المواطنة وفي اعتماده على توزيع المنافع والخيرات على الزبناء، رغم حرصه على احترام المظاهر الخارجية العصرية والحديثة. أما الوجه الآخر لهذه الصورة، هو التبخيس المتواصل للنخب وللأحزاب السياسية، الأمر الذي يؤدي في نهاية المطاف إلى تكريس سلوك العزوف الإنتخابي وانعدام الثقة في المؤسسات المنتخبة والهيئات التأطيرية. محدودية بنيات الاستقبال والتأطير من هنا يمكن تناول الأبعاد السوسيوثقافية للنموذج التنموي، التي لا تنفصل عن البعد السياسي والسيويولوجي، لأن المغرب عاش تحولات كبرى في بنيته، على كل المستويات، أهمها زيادة عدد الشباب في هرمه السكاني، وتزايد الهجرة من البادية نحو المدن، وهو ما خلق حاجيات جديدة، لم تتمكن المؤسسات الرسمية السائدة من تلبيتها. بل أكثر من ذلك، لقد أدى هذا الوضع إلى تكريس نموذج ثقافي هجين، ناتج عن إكراهات دمج المدن الجديدة، التي نبتت في ضواحي المدن التقليدية، بكل المواصفات المتناقضة والمركبة التي تحملها معها، وانعكس ذلك أيضا على التمثيلية السياسية، بكل ما تتضمنه من تشوهات ثقافية وسوسيولوجية مثل استمرار التموقعات القبلية والإثنية والمنفعية والإيديولوجية/ الإحسانية والمافياوية. لذلك لا يمكن أن نستغرب من تطور ثقافة متخلفة في مثل هذه الظروف وهذا السياق، بسبب ضعف وغياب بنيات الإستقبال والتأطير الحديثة والمؤسساتية، حيث يتم ملء الفراغ من طرف بنيات رجعية/دينية أو منفعية أو مافياوية، بعيدة كل البعد عن منطق الدولة العادلة والحق والقانون. من تجليات هذا الواقع أيضا استمرار ثقافة الشعوذة، واتخاذها لبوسا عصرية، وتطور الخطاب الشعبوي/الديني، وانتشار موضات ثقافية دينية جديدة، في اللباس والسلوك والخطاب، متأثرة بالانكماش والانغلاق الهوياتي، الناتج عن الإحساس بالاغتراب في مناطق حضرية تطبعها العشوائية والهشاشة، وعن ردّ الفعل الدفاعي تجاه قيم العولمة الكاسحة. يتم هذا في ظل وضع يتسم بعجز واضح في الهياكل والبنيات التربوية و الثقافية والإعلامية، التي من المفترض أن تعالج هذه التناقضات، بل إنها على العكس من ذلك تشكل ترجمة لها في أرض الواقع. خصاص في الثقافة والإعلام ودون الغوص في التفاصيل، يمكن تقديم بعض أمثلة هذا العجز من خلال المعطيات التالية: أولا، الأزمة التي تعرفها المنظومة التربوية، على عدة مستويات، من أهمها الهدر المدرسي، الذي يعتبر نزيفاً خطيراً مازال متواصلا، رغم المجهودات المبذولة لتقليص حجمه، غير أنه بالإضافة إلى كل هذا، هناك إشكالية المضامين التي تقدم للتلاميذ، على الخصوص، والتي تكرس الكثير من مظاهر التخلف الفكري والثقافي، ولست هنا في حاجة إلى مزيد من تشخيص أزمة المنظومة التربوية فقد أنجزت حولها عدة دراسات وتقارير، تنقصها الشجاعة السياسية للمرور إلى مرحلة الإصلاح الشامل والتنفيذ. ثانيا، أزمة القراءة كآفة سائدة في المجتمع، ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل هناك أوضاع غير صحية تتعلق بكل مجالات الثقافة والفن، تم تشخيص العديد من مظاهرها في التقرير الذي أنجزه سنة 2016 ، المجلس الإقتصادي والإجتماعي والبيئي، حول اقتصاد الثقافة، والذي اعتبر الثقافة عاملاً أساسياً لتحقيق التنمية، منطلقا من أن المغرب يتوفر على رأسمال ثقافي غني ومتنوع، لكن دون أن يحظى بشروط التفعيل اللازمة، فهناك عجز في البنيات التحتية وعدم الاستغلال الجيد لما هو قائم بسبب ضعف التأطير البشري ومشاكل البرمجة، كذلك وقف التقرير على ضعف استغلال الرأسمال الثقافي في التعليم والإعلام والحياة العامة، كما أكد على مشكلة عدم إيلاء العناية الضرورية للإبداع المغربي، وغياب التنسيق بين مختلف المتدخلين في الشأن الثقافي والفني. ومن بين الأرقام التي قدمها أن هناك فقط 71 مركزا ثقافيا في المغرب و624 مكتبة عمومية، بينما تعتبر منظمة اليونسكو أن المغرب يعاني من نقص بقيمة 4000 مركز ثقافي، إذا كان يريد أن يصنف في الحد الأدنى المقبول عالميا. ثالثا، أزمة التواصل والإعلام، في مختلف قطاعاته، حيث لم يستجب المجال المرئي والمسموع العمومي لمتطلبات المرفق العام، ويلعب الدور المطلوب منه في تطوير الجدل الضروري حول الشأن العام، كما أن الصحافة الورقية تعرف وضعا صعبا بحكم ضعف الإقبال عليها (لم يتم تجاوز سقف 300 ألف نسخة في اليوم) ناهيك عن المنافسة التي أفرزتها الصحافة الإلكترونية، وهي نتيجة أثبتتها الدراسة التي أنجزتها الفيدرالية المغربية لناشري الصحف، سنة 2016 ، غير أن هناك أسباباً أخرى، من بينها ما يتعلق بالنموذج الاقتصادي للمقاولات ومشاكل التكوين التأطير والتوزيع وغيرها من القضايا التي تم التفصيل فيها في تشخيص وخلاصات العمل الذي تم إنجازه في الحوار الوطني حول الإعلام والمجتمع، سنة 2010. من تجليات هذا الواقع، ما توصلت إليه النقابة الوطنية للصحافة المغربية، في دراسة مازالت لم تنشر بعد، (عينة من 300 صحافية وصحافي من مختلف القطاعات) من بين معطياتها أن نصف المؤسسات والمقاولات الصحافية، فقط، هي التي تنظم اجتماعات دورية لهيئة التحرير، علماً أن هذه الإجتماعات ضرورية يوميا، في تقاليد وأعراف الصحافة الجادة، بل تتم مرتين في اليوم في الصحف العالمية. أما في ما يتعلق بوعي الصحافيين لمسؤوليتهم الاجتماعية، فقد أكد 51,7 من المستجوبين أن هدفهم هو البحث عن الحقيقة، لكن أقلية صغيرة، أي 5,8 منهم قالت إنها تضع في سلم أولوياتها المسؤولية الاجتماعية، و19,8 منهم فقط اعتبر أن الأولوية هي احترام كرامة الإنسان، و4,3 فقط من قال إنه يضع في سلم الأولويات قرينة البراءة، و2,2 رفض الخلط بين الخبر والتعليق. الخلاصة هي أن قطاعات الصحافة والإعلام، التي تلعب دوراً مهماً في الديمقراطة والشفافية وتكريس الوعي بحقوق المواطنة ورافعة أساسية في تداول المعلومات والأفكار والمشاريع والآراء، للارتقاء بذوق وتوعية الرأي العام، مازالت في حاجة كبيرة إلى سياسة واستراتيجية لتطويرها، الأمر الذي مازال ضعيفا ومرتجلاً . رابعاً، كما هو الشأن في مختلف بقاع العالم، فإن استعمالات التكنولوجيات الحديثة، في الحياة اليومية والإعلام أحدث تغييرات في العلاقات التواصلية والاجتماعية والثقافية، وأضاف قيمة جديدة لوسائل حرية التعبير، غير أن هذا التطور الهائل لم تكن له دائما آثار إيجابية على الوظيفة الاجتماعية للصحافة والإعلام والتواصل، خاصة أمام ضعف التكوين والتأطير، وهشاشة هياكل أغلب الجرائد الإلكترونية، مما يحول دونها وإمكانية تقديم منتوج ذي جودة. بصفة عامة، فإن النموذج السائد في التعليم والثقافة والإعلام، غير قادر على المساهمة الفاعلة والمنتظرة في تنمية الموارد البشرية، لأن هياكله وبنياته مازالت متفاوتة التطور، العديد منها يعيد إنتاج مظاهر التخلف السائدة في المجتمع، كما أنها تحتاج كثيرا إلى التفاعل الإيجابي مع الثورة الرقمية وتحديات العولمة، والإندماج في المشاريع المثلى المطروحة اليوم، من قبيل التربية على الإعلام ومحاربة ما يسمى بالأمية الإعلامية، لتزويد المواطنات والمؤطرين بمعارف وأدوات النقد اللازمة لتمييز الجيد من الأسوأ. وأفتح قوسا هنا لأقول إن المغرب يتوفر على عدد لا يستهان به من التقارير والدراسات التي تشخص الوضع جيداً، لكنها لا تنفذ إلى الأسباب العميقة للخصاص والنقائص، كما أنها لا تأخذ بعين الإعتبار في السياسات العمومية والميزانيات. مشروعنا المجتمعي يحق التساؤل هنا، ما هو النموذج التنموي الذي ينبغي أَن ندافع عنه، ونعمل من أجله كاشتراكيين؟ إنه ينطلق حتما من مشروعنا المجتمعي، الذي يهدف إلى بناء دولة عادلة ومؤسسات قوية ومجمتع حداثي ومتضامن، لكننا نعلم أن مشروع الحداثة، يواجه عوائق بنيوية، من أهمها وجود مشروع مجتمعي آخر، يسعى إلى «تجديد التقليد»، كما يقول المفكر عبد لله العروي، على مستويين. المستوى الأول، يتعلق بإعادة انتاج العلاقات الزبونية في الحياة السياسية، عبر الشبكات النفعية والإحسانية، مما يؤدي إلى تكريس مفهوم سلبي ومتواكل للمواطنة والوعي السياسي. المستوى الثاني، يهم القيم الثقافية والفكرية التي تتصارع في المجتمع، من بينها المشروع الرجعي، الذي يحاول الهيمنة، عبر ترويج إيديولوجية قديمة/جديدة، قديمة لأنها تستعمل المرجعية التراثية، في صيغها الخرافية والظلامية، وجديدة لأنها تعمل في التعبير عنها بأدوات عصرية. وهنا لابد أن نقدم بدائل لهذا النموذج الثقافي، ليس عن طريق ترويج منتوج ثقافي وفني ترقيعي يطغى عليه الطابع التجاري والإسفاف والضحالة، بل بعمل متأصل في الثرات والإبداع المغربي، المنفتح على أرقى ما يُنتج في العالم، من خلال تشجيع الطاقات والكفاءات الخلاقة التي يعُجّ بها الواقع المغربي. نحن مطالبون بالدفاع عن مشروع التحديث الشامل للتعليم والثقافة، ودعم الاعلام والصحافة الأخلاقية، كخدمة عمومية، والنضال من أجل احترام قيم المواطنة الفاعلة والمشاركة والنزاهة والاختيار الحر من الاكراهات الإقتصادية والانتفاعية في اختيار المنتخبين، واقتراح بدائل للهياكل والبنيات القائمة، في إطار تصورنا للنموذج التنموي الذي نسعى إليه، دون أي شكل من أشكال التردد، لأن بلادنا في حاجة إلى أن تجعل من مواردها البشرية الدعامة الأولى للتقدم والتطور، ولا يمكن أن يتم هذا في ظل النماذج الحالية.