يكاد لا يخلو مجمع يدور فيه الحديث حول وضعية التعليم ببلادنا، من استحضار لنجاعة بيداغوجيا التعليم في سنوات السبعينات وبداية الثمانينات، إذ أن الاتجاه يسير نحو اعتبار هذه الفترة زاهية، واستطاعت أن تنتج متعلمين يمتلكون ناصية المعرفة. ويؤكد العديد من الذين جايلوا هذه المرحلة التعليمية على أنه رغم كون الأساليب المتبعة في التدريس كانت تقليدية والوسائل المستعملة بسيطة لا تتعدى القراءة واللوحة والقرآن، فإن الأداء المهني بالنسبة للمدرسين كان فاعلا، ويلامس الأهداف المسطرة في السياق العام، وأبرزوا في حديثهم لجريدة "الاتحاد الاشتراكي"، أن المتعلم أو الدارس كان يستوعب كنه الدروس ويتلقنها بسلاسة وبدون أدنى مشاكل، وحتى المستويات الدراسية كانت تتخللها محطات، يكون فيها التلميذ أمام منعطف حاسم، يرهن ما يلي من مستويات تعليمه، إذ كان اختبار الشهادة الابتدائية بمثابة محك حقيقي للمتعلم.وأضافوا في سياق ذلك، أن الأنظار المتجهة نحو هذه المحطة من قبل الأسر والمؤسسات التعليمية، جعلت منها جسرا حقيقيا أمام المتعلم للمرور إلى المحطة الموالية بدماء مفعمة بالطموح والأمل في بلوغ أفضل النتائج، ولا ننسى أن الحصول على هذه الشهادة كان مثار فخر واعتزاز لدى الأسر المغربية، وكثيرا ما أقام البعض حفلات بالمناسبة. الشيء نفسه بالنسبة لشهادة "البروفي"، يقول الفاعلون التربويون، مؤكدين على أنها محطة أخرى تتوج سنوات التتلمذ بالمستويات الإعدادية، باعتبارها جسر المرور إلى مستويات الثانوي، استعدادا لدخول محطة الباكلوريا التي كان لها شأن عظيم، لأن تخطي هذا الحاجز والحصول على الشهادة، بمثابة امتلاك مفاتيح الشغل. واسترسلت مصادرنا مبرزة أنه يأتي بعد ذلك، التعليم الجامعي الذي لا يجد فيه الطالب أدنى عناء، باعتباره خبر الظروف الصعبة للاختبارات في مستويات الابتدائي والثانوي، واشتد عضده وامتلك المعرفة من أصولها وفصولها، وأصبح جاهزا لدخول أي رهانات بعزيمة وصمود. هذا واقع عاشه التعليم في المغرب في سنوات ما قبل منتصف الثمانينات، لكن ماذا وقع الآن؟ يتساءل إبراهيم، أستاذ مشرف على التقاعد، وأضاف قائلا، لماذا أصبح تلامذتنا غير جاهزين للتنافسية؟ لماذا لم تعد الأسر تعايش مع ابنها عن كثب مراحل تعلمه وتتألم طيلة فترة الاستعداد، وتتخذ التفوق والنجاح رهانها الخاص؟ ماذا تغير بين الأمس واليوم؟. ويرى، محمد، مفتش بالتعليم الابتدائي، أنه إذا أخذنا طبيعة المقررات المعتمدة حاليا نجدها أكثر تعبيرا وتفصيلا لكنه الدروس، بالإضافة إلى ما أصبح يطبع وقتنا الحاضر من انفتاح معلوماتي، أي أن المعلومة ليست حكرا على الكراس والمدرس، إنما أصبحت متاحة عبر الإنترنيت وفي مختلف مواقع التواصل الاجتماعي. وأبرز المصدر ذاته، أنه بقليل من التمعن، سنجد أن عصب الإشكال يرتبط أساسا، بالاختبارات الفصلية الصارمة والحازمة، بحيث لم تعد لشهادة الدروس الابتدائية أية قيمة معنوية ومسألة النجاح بالنسبة للتلميذ متاحة بأقل مجهود، ما يجعل التلميذ يفقد روح التنافسية ولا يبالي بمساره التعليمي، وهذا ما يؤدي في كثير من الأحيان، حسب المؤطر التربوي، إلى بعض أنواع الهدر المدرسي، بسبب لامبالاة المؤسسة التعليمية وعدم اكتراث الأسر بوضعية المتعلم ناهيك عن تعاظم المشاكل الاقتصادية والاجتماعية، التي تجعل التلميذ قابلا لفقدان زمام الأمور والدخول في متاهات التيهان والخروج عن جادة الصواب. الشيء نفسه أكده، زميله بوشعيب، واسترسل قائلا، وحتى إذا مر التلميذ إلى مرحلة التعليم الثانوي وفي غياب المعطيات السابقة نفسها، يفقد المتعلم الفعالية والطموح، ما يجعله يراهن في ما تبقى من مساره الإعدادي والثانوي، على الغش للحصول على المعدل الذي يخول له المرور إلى المستويات الأخرى أو الانتقال إلى التعليم العالي. وما من شك، أن وضعية التعليم ببلادنا عرفت طيلة سنوات الثمانينات إلى الآن تراجعا مهولا وضعفا في الأداء التربوي، وهذا ما ذهبت إليه العديد من التقارير الوطنية والدولية، وما من شك أن هذه الوضعية بنيوية ومرتبطة بالعديد من المشاكل المترابطة والمركبة التي يختلط فيها ماهو اقتصادي بالاجتماعي والثقافي والتربوي. فالمشاكل المالية للأسر لها تأثير على وضعية أبنائها، بحيث لم يعد يسعفها الوقت لتتبع مسار أبنائها التعليمي، وتزايد العاطلين كان مؤثرا سلبيا على تعاطي التلاميذ مع التمدرس واعتباره مضيعة للوقت بالنظر لما يشاهدونه من ويلات البحث المضني عن عمل لأشقاء سبقوهم في التمدرس وحصلوا على شواهد، لكن بدون جدوى، وكان مصيرهم الانحراف أو الدخول في أشكال احتجاجية أمام البرلمان. كما كان لسياسة الحكومات السابقة بفتح مراكز التكوين في وجه الطلبة غير الحاصلين على الباكلوريا لولوج سلك التعليم، نصيب في الأزمة التي يعيشها التعليم ببلادنا، لأن الكثير من هؤلاء الطلبة الأساتذة، لم يكن يهمهم من مهنة التدريس، سوى "المنصب المالي"، في غياب امتلاك بيداغوجيا التعليم التي تعتبر المحور الأساس في المنظومة التربوية، ما خلق لدينا نوعا من الإشكالية داخل المشهد التعليمي. أضف إلى ذلك، توالي مناهج التجريب الفاشلة التي أربكت مسار المتعلم والمدرس على حد سواء وجعلت مستقبله مفتوحا على كل الاحتمالات، هذا دون نسيان الوضعية الاجتماعية والمالية لهيئة التدريس التي ظلت جامدة ولا تحظى بنفس الأهمية التي تطبع التعليم كمهنة وكأداء تربوي، يرهن مستقبل الأمة، كما أن هناك العديد من الإكراهات الظرفية التي يواجهها التعليم بالوسط القروي الذي أنتج بدوره الأمية والتخلف خصوصا في زمننا هذا. إن هذا الواقع المسكون بالكثير من السلبيات والهزات، يتطلب عملا وطنيا مندمجا تجتمع حوله جميع القطاعات من أجل التلاقي حول حل منطقي وناجع يعيد الاعتبار لقطاع التعليم ببلادنا. فالرؤية الاستراتيجية لإصلاح التعليم 2015 – 2030 ، التي أطلقها المجلس الأعلى للتعليم، لا يجب أن تكون مسؤولية تتحمل وزرها وزارة التربية الوطنية والتكوين المهني والتعليم العالي والبحث العلمي، لوحدها، بل من المفروض أن يتقاسم معها هذا الوزر جميع القطاعات الحكومية والأحزاب السياسية والمركزيات النقابية وجمعيات المجتمع المدني والمواطنين، فالتعليم قضية الجميع.