«وقد كنت في شبابي أؤمل أن يتم لي هذا الفحص وأما في شيخوختي هذه فقد يئست من ذلك، إذ أعاقتني العوائق عن ذلك، ولكن لعل هذا يكون منبها لفحص من يفحص بعض هذه الأشياء». في إحدى السنوات الرائعة حين كانت الكلمات تمتزج بالأشياء والوجود يغازل الهوية، وجدت المفكر الجابري يتأهب للرحيل أمام كلية الآداب في الرباط، ينقل أشياءه وكتبه من شعبة الفلسفة ويضعها في سيارته، شغوف بهذه القطيعة، لم أتردد كثيراً عندما سألته: هل حان وقت الرحيل؟ هل ستتركنا هنا غرباء؟ وهل سنستمر في هذا الطريق الذي رسمته لنا؟ ألا يكون ابن رشد منزعجا من هذا الرحيل؟ وهل يستطيع أن يستمر وحده؟ متأملا في صمت أبدي كادت الأسئلة تفقد صوابها، ولكنه تكلم بحكمة وقال: كان من الضروري أن أرحل، لن أترك هنا سوى ذكريات، أحمل معي كل المشاريع التي بدأتها، لا أتردد في الاعتراف بأن قدرك حزين وزمانك سيكون مضطرباً، ووجودك ملتهباً تأكله تلك النار التي أكلت كتب ابن رشد، أنت الذي اخترت قدرك. فهل يستطيع أياً كان مساعدتك؟ اخترت ابن رشد والسياسة ونسيت أنه احترق بنارها؟ هكذا ودعني المفكر الجابري أمام كلية الآداب في الرباط، حيث غادرها للتقاعد، مبتهجاً بنشوة الانتقال، لم يتردد ولو لحظة واحدة، بل خاطبني قائلا: استمر، ثم قاوم، وقاتل لأن الفلسفة نضال. والفيلسوف ثوري يعشق الحرية، ولا أريد لهذه الشعلة أن تنتهي. ولكن حبك لا ينمو إلا على حضن الفلسفة الحلو، فكيف يمكنها أن تنساك، فأنت من أعدت إليها الأمل، والدفء في هذا الشتاء القاسي، وجعلت منها تياراً عقلانياً يصارع التيار الديني الظلامي، ألا يكون هروبك غروراً، ألا يكون هذا الموقف مجرد إعلان عن موت الفلسفة في المغرب، ألا نكون نحن ضحية هذا الموت، هل بإمكاننا أن نطرد الفلسفة من المغرب ونتركه فارغا، من أجل أن يتمتع حراس العدمية والتيار الظلامي. أنا لا أدعوكم إلى ترك البلاد لهذا الموقف الجبان: فالمغرب للجميع وليس لهؤلاء الجبناء، أنتم أولى به، بيد أن صراعكم سيكون شرساً، لأنهم قتلة وأشرار. ولم أترك الزمان ينفلت ولا الوجود يهرب من حقيقته، عندما قلت لأستاذي المشرف على دكتوراه الدولة في موضوع ابن رشد والسياسة، فهل رحيلكم يعني نهاية هذه الأطروحة، هل بدأ الحلم بالنهاية في أعماق القلق بالبداية؟ هل مات ابن رشد عندنا من جديد؟ هل يجب إغلاق شعبة الفلسفة؟ قال لي المفكر الجابري، إن قدرك حزين، ستجد نفسك تصارع العمالقة، ولا أتوقع بأنك ستنجح في مهامك، أنت تحب الحكمة والحياة وهم أشرار وأموات، فما عليك إلا المقاومة أو الانسحاب؟ إذ معنى أن تدافع عن العقلانية في هذه المدينة الجاهلة، أنا ذاهب وأنت ستظل هنا، فمن منا اختار طريق الحقيقة؟ ولماذا لا تفعل مثل ابن رشد الذي طلب العودة إلى قرطبة حتى ولو كان ميتاً؟ لأنه ما معنى أن يبقى الفيلسوف بين هذه الوحوش الضارية؟