«إن الموت هو مجرد نوم بدون أحلام، أو أنه مناسبة للالتقاء بالعظماء كهومروس وهوزيود وبارمينيد» سقراط أهكذا يموت الفلاسفة في هذا الزمان الرديء، زمان فقد مذاقه ونزعته الإنسانية وتحول إلى مجرد لعبة في يد القدر تمارس التهميش والحصار على الحكماء الذين يرغبون في وطن حر ويؤمنون بالفكر والإنسان، لأنه لا قيمة لوطن يموت فيه الفلاسفة في أعلى مراتب التوحيد، التي كان الجابري يكتب فيها رسالة الوداع بحبر الصمت، متأملا ذلك الانتظار الذي يتحكم فيه طغيان الانتظار. لأن الموت أفضل من فشل الأمل وتجرع ترياق الإحباط عندما يتحول إلى مهرج متجول في سياسة الفشل التي تذوب في لهيب وحدانية التسلط بلغة ابن رشد هذا الفيلسوف الذي كان عزيزا على قلب المرحوم الجابري. التقيت به في رحاب كلية الآداب بالرباط وأنا أحمل مشاريع قلقة لتهيئ أطروحة دكتوراه الدولة في الفلسفة الأندلسية، وبعمقه الإنساني وسمو روحه الفلسفي استضافني بحميميته في شعبة الفلسفة ورحب بالإشراف على هذا العمل، وخاطبني مستعملا عبارة الزميل، وشعرت بالخجل مما جعله يفتح باب السؤال الفلسفي قائلا، هل أنت بصدد كتابة مقالة أخرى عن ابن رشد كتلك التي نشرتها مجلتنا فكر ونقد؟ فقلت له نعم، فبدأ يتحدث عن أهمية التراث الفلسفي المتنور في إنقاذ المغرب من الموت الثقافي، والانهيار الفكري والروحي لأن الأمة تموت بمجرد موت الفكر والحرية فيها. وابن رشد هو أمل المغرب إذا كان يرغب في الحداثة. هكذا كانت البداية مع فقيد الفكر المغربي والعربي حيث تعود إلى سنة 1996، عندما طلب مني أن أعتزل الناس والمدينة الجاهلة، وأعيش كابن باجة متوحدا عاشقا لمحبة الحكمة، صديقا للحكماء، لأن صداقتهم وحدها لا تنضب كذلك النهر الأبدي، وعندما ودعني لم يترك للغموض مكانة مقدسة، بل خاطبني بأناقة أرسطو قائلا، لن يكون هناك لقاء فيما بيننا إلا بعد أن تنتهي من كتابة أطروحتك كاملة، فأردت أن أتكلم، لكنه تدخل بروحه العذبة ليوضح أن العمل معه لابد أن يأخذ هذا المسار: الكل أو لا شيء، فاقتنعت بالفكرة وحملت أمتعتي وأحلامي، واخترت الإقامة في خزانة القرويين بفاس التي كانت محاطة بعناية المحافظ المرحوم عبد العزيز الدباغ الذي اعترف بفضله وعمق محبته، حيث كان نوره كالعقل الفعال، لأنه كلما شعرت بالاغتراب والاحتراق من شدة قهر نصوص التراث العقلاني والصوفي، كلما حفزني ووجه نظري إلى ذلك الطريق الذي يقود إلى الأمل. نعم لقد اشتغلت مع الجابري في موضوع الفلسفة والسياسة عند ابن رشد هذا الفيلسوف الذي كان موته بمثابة إعلان عن موت الفلسفة والسياسة في أرض المغرب الأندلسي لمدة أربعة قرون، لكن من الذي قام باغتيال محبة الحكمة ومحاصرة الفيلسوف ابن رشد، وهل هو نفس الحصار الذي عاشه الجابري ومات من شدة حزنه على فشلنا في المغرب الذي يقترب من العدم؟ كان الجابري إذن متحمسا، فرحا عندما كتب مشروعه (نقد العقل العربي) بأجزائه الثلاثة، ثم احتفل بالذكرى المئوية على موت ابن رشد، حيث قام بإعادة نشر مؤلفاته والاحتفال بهذه الذكرى وكأنه كان ينتظر من هذا الاحتفال بسنة ابن رشد أن يحتفل المغاربة بثورة عقلانية تبعدهم عن الجبرية والعدمية، وتجعلهم في أعلى مراتب السعادة في حوض المتوسط، لأن هذا الحوض تألق من خلال أبدية الفلسفة وروح ابن رشد الذي دمر ظلامية القرون الوسطى، وأعاد الأمل للنهضة الفكرية والرقي الحضاري، بيد أن خيبة الأمل عادت مرة أخرى لتضع حدا لهذا الفرح الذي لم يدم إلا سنوات قليلة، ستظل حاضرة بقوة في ذاكرة الأصفياء أصحاب القلوب اللطيفة الذين يموتون من شغفهم بالعشق والمحبة لهذا الوطن الذي اختار لهم الاغتراب والإقامة في الصمت والهامش، ومنح لأعداء النزعة الإنسانية مكانة رفيعة ووضع بين أيديهم السلطة والمال. مات الجابري إذن، وماتت معه الأحلام وتأهبت الرؤى والكشوفات إلى الرحيل لأن الشمس التي تركته نائما في مقامه الأزلي أخذت منه كتاباته ومشاريعه وتركت له الأدوات التي كان يشتغل بها كما فعلت مع محمد عزيز الحبابي وجمال الدين العلوي وعبد الكبير الخطبي. لعلنا نشعر في الحقيقة بحزن عميق لأننا نودع مفكرا أصيلا، ومربيا للأجيال، لم يكن يفكر إلا في إيقاد نيران البهجة والسعادة في قلوب الآخرين، إلى درجة أنه نسي نفسه هناك حيث لحقه الموت وهو لا يزال يحلم بمستقبل أفضل، في مغرب أفضل، لكن الأيام علمته بان المحبة لا مكان لها في بلد هربت منه محبة الحكمة في ليل ممتلئ بالأشباح والرموز. ربما أن المستشرق ديبور كان على صواب حين وصف مأساة ابن رشد قائلا «غير أن الأيام تنكرت له وحل السخط بالفلاسفة؛ فصارت كتبهم ترمى في النار. ثم أمر أبو يوسف بإبعاد ابن رشد في شيخوخته إلى اليسانة (قريبا من قرطبة)؛ ومات في مراكش، عاصمة المملكة، في 10 ديسمبر 1198 م» والواقع أن موت الجابري لا يختلف عن موت ابن رشد على الرغم من الزمان الذي يفصل بينهما.