ما معنى الفيلسوف أمام محكمة العائلة المقدسة؟ «العالم العربي في أمس الحاجة إلى العلم بالوعي الذاتي» بهذا العنوان نكون قد وضعنا الفيلسوف في خطر، إذ سنحكم عليه بالضياع في أركيولوجية الصمت، ذلك أن الصراع بين الوعي بالذات والوعي الشقي لن يحسم إلا بالهدم والتدمير والتصفية، مادام أن الانتظار استطاع أن يحول الفيلسوف إلى مسافر في الاغتراب، باحثا عن إقامة شاعرية في الوجود ينعم فيها بالطمأنينة والسكينة، حيث الغروب في شفق الأصيل يؤهل الروح إلى البحث عن آثارها في نصوص الفلاسفة، هناك تتم عملية إنتاج وإعادة إنتاج الوعي المبتهج، ومن خلاله سيتمكن الفيلسوف بخوض معركة التحرير من هيمنة العائلة المقدسة. لا يصبح الحكيم محررا لشعبه إلا إذا استيقظ هذا الشعب من سباته التيولوجي، واقتفى أثر هذا الحكيم، من أجل أن يستعيد حقه في الوعي السعيد، ويتمرد على الوعي الشقي الذي حوله إلى عبد خادم للعائلة المقدسة التي نمارس الحكم باسم الحق الإلهي، إنها تتلقى خطابها من السماء لتمارس استبدادها في الأرض. ومن طبيعة الكتابة الفلسفية أن تتحول إلى قراءة لتاريخها، وبانتباهها إلى تلك اللحظات المشرقة تحقق وحدتها في الروح المطلق، هكذا تصبح كل الكتب الفلسفية مجرد صراع ابدي مع هذه العائلات المقدسة والحال أن أول من كتب على العائلة المقدسة هو كارل ماركس الذي انتقد السلطة المعرفية والسياسية، باعتبارهما استيلابا للأرواح بغية استغلالها طبقيا، واستنزاف قوتها الإنتاجية ولعل هذه الهيمنة السياسية، لم تكن لتتحقق لولا استغلال المقدس، الذي تحول إلى الإيديولوجية، يسهل اقتحامها بواسطة النقد الفلسفي، ولذلك فان غاية هذا الكتاب تختلف في الظاهر عن غاية ماركس، لان التوجه الى الطبقة الحاكمة يختلف عن التوجه الى الفلسفة المثالية الألمانية يقول ماركس:"إننا نسعى إلى إبراز الاختلاف بين رؤيتنا للمفهوم الاديولوجية ورؤية الفلسفة الألمانية، من اجل تصفية حساباتنا مع وعينا الفلسفي القديم، وبعبارة أخرى انه نقد موجه إلى فلسفة ما بعد هيجل". فبأي معنى تصبح الإيديولوجية والعائلة المقدسة اثنان بالعدد واحد بالماهية؟، ألا تكون هذه الوحدة في الروح هي ما يشكل خطرا على الطبقة الشقية؟، الا يتم هدم العائلة المقدسة، بمجرد ما تنهار ايديلوجيتها ؟ الا يكون الصراع بين الحق و الزائف اعنف من الصراع الطبقي؟. أسئلة ستمزق الحجاب عن وجه الحقيقة المشرق وبإمكانها أن تنتشر كضوء النهار، هكذا يظهر الفيلسوف وهو يخوض صراعا مع العائلة المقدسة من خلال تجلياتها في الرأسمالية والسلطة السياسية والدينية والثقافية، وبما أن هذا التجلي الأنطولوجي لا يمكن مقاومته إلا بالنقد التنويري، فإن الفيلسوف يجد نفسه وحيدا في هذه المعركة، وبخاصة وأنه لم يعد يكتفي بتفسير العالم، بل يسعى إلى تغييره، بيد أن هذا التغيير لن يتحقق إلا عندما يصبح الشعب شعبا، لا يستبدل الفلاسفة بلاعبي كرة القدم وعارضات الأزياء والممثلين ونجوم سياسة الأعيان، ألا يكون هذا العصر يبشر بنهاية الرأسمالية وبداية صراع الأديان؟، ألا يمكن أن يعود الفيلسوف بمقاربته للسؤال الثقافي فلسفيا؟، وما الذي تنتظره الشعوب المضطهدة من الفلاسفة بعدما فقد ثقتها في السياسيين والسوفسطائيين؟، ألا يكون ثمة إغراء للحديث عن عودة عصر المثقفين الملتزمين بقضايا الشعب؟. والحال أن الكتابة عندما تدرك نفسها في الالتزام بأسئلة العصر، تغمرها نشوة مقدسة تحرضها على الضياع في المجتمع، التي تدين له بتألقها، فالانعتاق من هيمنة العائلة المقدسة لن يتم بالسلاح، بل بالثورة الثقافية التي تمكنت من تحرير شعوب أمريكا اللاتينية وغيرها. ولذلك ينبغي على الفلسفة أن تتدخل في الحاضر وتنسى التراث الذي حولها إلى مجرد تحفة فنية تعرض في المتاحف، والشاهد على ذلك ابن رشد الذي دمرته العائلة المقدسة، والآن أصبح يستغل إيديولوجيا بغية الابتعاد عن التطرف السياسي والديني. لم يعد الزمان هو نفسه، حين كان يستدعي الفيلسوف للتدخل في بناء إيديولوجية الدولة والدفاع عنها، وبمجرد ما تنتصر تدمره، وتتخلص منه ومن مؤلفاته، بل إن ما يجعل هذا الزمان قلقا هو الوضع الراهن للفيلسوف الذي أصبح منصهرا في الصراع الطبقي، يعيش مع الطبقة البروليتاريا، يتألم بآلامها، مما يجعله ملتزما بقضيتها، لأنها قضيته، ومادام أن الفيلسوف هو مبتكر أسئلة العصر، فإنه يستطيع أن يبدع إشكالية الفكر المضطهد في التحرر من الهيمنة السياسية. هكذا سنفتح جبهة جديدة نقاتل فيها من أجل الحرية والمساواة، لأنهما وجهان لمفهوم الكرامة، ذلك أن الرغبة بالغايات لا يمكن أن تعني سوى الرغبة بالوسائل، ولعل هذا يعني من أعظم ما يعنيه التخلص من شعار الميكيافيلية الجديدة التي تجعل من الغاية تبرر الوسيلة، إذ لا يهم أن يموت الشعب جوعا وقهرا، بقدر ما يهم أن تتمتع العائلة المقدسة بخيرات البلاد وببذخ الحياة، البذخ في مقابل الشقاء وتقديم صكوك الغفران من أجل تخدير الإدراك الذي يتنازل عن حقه في الأرض لكي ينعم بمتعة السماء. سيكون هذا الكتاب غريبا إن لم يكن فلسفيا، والفيلسوف نفسه غريب في هذه البلاد، فإلى أي أرض سيشد الرحال؟، ذلك أن هدف الروح ليس شيئا آخر سوى الحرية، وبما أنه يبحث عن الأرض ولا يسعى أن يهرب منها، فإن الارتحال معناه بحثا عن الإقامة الشعرية فيها، بعيدا عن شر الطغاة، ومع ذلك فإن من كان أصله غريبا يظل غريبا: "إن الغريب يتبع النداء الذي ينكشف له ويجعله سائرا في الطريق إلى امتلاك وجوده"، بيد أن سر الوجود ينام على حضن الحقيقة الحلو، ولذلك فإن الفيلسوف لا يعرف هدفا آخر غير إيقاظ الوجود من نومه بواسطة سؤال الحقيقة من أجل أن يتحرر من سجن اللاوجود، الذي يقدمه الاستبداد للعبيد، الذين ينظرون إلى هذا الوجود كصورة زائفة للوجود الحقيقي الذي ستنتقل إليه النفس بعد تجربة الموت. لكن إلى أين يسير هذا الغريب؟، إلى الأرض؟ أم إلى السماء؟ ألا يظل الاتجاه؟ الواقع أن قبلة الغريب هي في اتجاه ينبوع محبة الحكمة، حيث نشوة الروح تنتظره، أرض فارغة من الأشرار، يقطع جسدها نهر الخير الذي يسبح فيه هرقليط مرتين، على الرغم من أنه يقول من المستحيل أن تستحم في نفس النهر مرتين. ههنا ستصبح حياته آمنة ينعم بالطمأنينة والسكينة والدعة، يتساءل بكل حرية، لن يتهم بالزندقة والإلحاد، ولن يعيش تجربة المنفى والسجن، وسيسلم من قدح السم. وفي نعيم هذه الدعة يمنح الوجود ماهيته للفيلسوف، ويرعاه بعنايته، هكذا تنزلق روحه في شفق الأصيل الذي يأتي مع المساء، بدون ضجيج، ويقدم نفسه كتأملات للحنين، والفلسفة ذاتها مجرد مذكرات للحنين، بهذا المعنى يتحرك الفيلسوف خارج المقدس لأنه اختار أن يحلم، ويستغرق في هذا الحلم، ولذلك فإنه حين ينتقد المدينة الجاهلة، يظل هو الذي يحلم بالمدينة الفاضلة، أما حين يسعى إلى التحرر من العائلة المقدسة، فإنه يرغب في الدولة المدنية التي تحكم بالحرية، ويجد حقيقته بجوار المواطنين، الذين تحرروا من عتمة العبودية، ذلك أن ضرورة الوعي بأشكال الهيمنة وبالحالات المأساوية للوجود البشري، هو ما يجعل الانعتاق والحرية هما الطريق نحو دولة الحقوق السياسية. ثمة تلازم بين وجود الفلسفة ودولة الحرية، فبغياب إحداهما تغيب الأخرى، ولذلك فإن مهمة الفيلسوف تكون دائما صعبة، تعرضه للخطر فلا يستطيع أن يأمن على نفسه، وإلا كيف يمكن تفسير هذا الاضطهاد الأبدي؟، ألا يكون سببه هو البحث في النواة التحريرية والانعتاقية للتنوير؟، وهل بإمكان غير الفيلسوف التحريض على الانعتاق من الهيمنة السياسية بواسطة التنوير؟، ومن يستطيع تفكيك السياسة المقدسة غير النقد التنويري؟. إذا كان تاريخ الفكر هو تعبير عن الهيمنة، فإن الفيلسوف هو مكتشف هذا التاريخ، وهو الذي يرعاه كما لو كان ابنه الشرعي، ومن أجل أن يصبح في وضع ثابت، يوجهه نحو النقد التنويري الذي يدعو إلى التحرر من السلطة وسلطة العائلة، التي تحكم بالطاعة والإخضاع بالعنف، والسيطرة بالإيديولوجية، هكذا تصبح سلطة العائلة تهيمن من خلال: "القدرة على فرض الطاعة"، باعتبارها أداة الشرعية، لأن المعتقدات والآراء الأسطورية تمارس تأثيرها على أرواح العبيد، والسلطة لا تقاس في الفضاء العربي المقهور إلا بالهيمنة والنفوذ وبالتأثير الذي يمارسه الحاكم المستبد على أفراد المجتمع". ولذلك أن من يمتلك الشرعية الدينية، ويحتكر العنف الجسدي هو من يسيطر على الدولة، ويفرض الطاعة لتوجهاته الإيديولوجية، التي تصبح قواعد مقبولة من قبل الأغلبية، ومطاعة من طرف الجميع، لأن من ينتقدها سينتقد الشرعية الدينية، ومن تم سيكون مصيره العنف الجسدي، والقهر النفسي والاجتماعي، ولعل الفيلسوف الذي يرفض الوضعية الراهنة، والعيش تحت سيطرة سلطة العائلة المقدسة، سيجد نفسه خارج المجتمع، يتحرك نحو الاغتراب، وربما سيختار إقامته مع ابن باجة في تدبير المتوحد؛ هذا الذي شيد جمهوريته على الحرية والحكمة، يحملها معه أينما ارتحل يحميها من الأعشاب الضارة، ويخاف عليها من الطغاة، إنها جمهورية الفلاسفة، ول يدخلها، إلا من كان فيلسوفا. فما معنى أن يصبح الإنسان فيلسوفا في جمهورية العبيد؟، هل معناه الخوف على نفسه؟، أم الخوف على الفلسفة؟، ولماذا كل هذه المقاومة من أجل منح الفلسفة الحق في الإقامة في هذا الفضاء الشقي؟، ألا تصبح الفلسفة شقية من شدة تأثرها بشقاء المجتمع العربي؟، وهل بإمكانها أن تنسى محنة الفلاسفة إلى الآن؟. الهيمنة والانعتاق، الحرية والاستبداد، الظلام والتنوير، الطاعة والنقد، تضاد يسود في السماء كالغمامة السوداء، يحجب الرؤية عن مشاهدة شراسة الطبقة السائدة، وحملها مجتمع العبيد على تبني قيمها واعتقاداتها، بالعنف والشرعية، هكذا تتم صياغة المجتمع بكامله في مفهوم سلطة العائلة المقدسة، يتحرك حسب مشيئتها، يخدم إرادتها، وفي عتمة هذا الليل يبرز الوجه المشرق للفيلسوف الذي يضحي بحياته في سبيل رفع المعاناة والشقاء على هذه الطبقة المقهورة، لكن في أي تأملات يغرق هذا الغريب في الراحة والصمت؟، وأي راحة؟، وأي صمت؟ وهل ينتظر المغيب ينعم بشفق المساء؟. إنها رحلة في الخوف المطلق، تتزود بالانعتاق والتحرر من أخلاق العبيد الذين تعودوا على الانحناء والطاعة للعائلات المقدسة من المحيط إلى الخليج، لم أشاهد جماعة من المواطنين الأحرار، لأنهم يعيشون في المنفى أو أركيولوجيا الصمت، لأن النقد التنويري يرعب هذه السلطة الخرافية، ولذلك فإنها تحاصره، تهمشه، تتهمه بالزندقة، ولعل هذا ما يساهم في نشر ظلامية القرون الوسطى، وحرمان العلم من ثورته، والتنوير من انتشاره، والنقد من فعاليته وهدمه للهيمنة السياسية. بما أن الخضوع لمحكمة النقد لم يعد ممكنا فإن خضوع المجتمع لاختبار العقل يظل أيضا مستحيلا، فبأي معنى يمكن فهم هذا التأجيل للتاريخ؟، وما الذي تستفيده هذه العائلات ما عدا استحواذها على خيرات البلاد والحياة الباذخة؟، ومتى تتم عملة إزالة القناع على الوجه البشع للهيمنة السياسية التي تختفي وراء العقيدة؟، بل متى يستيقظ هذا الشعب من التخدير لإدراكه؟. في سكينة هذا الألم الجوهري تتحرك جدلية النقد والتنوير، بيد أن العائق الإبيستيمولوجي الذي يحاصر هذا النقد يتجلى في العقل التراثي، ومعنى ذلك أن مشروعية المذهب النقدي، ينبغي أن تنطلق من تحرير العقل من أوهامه وأساطيره، ذلك: "أن نقد العقل الخالص لكانط يشير إلى الحاجة إلى أن نصحح أنفسنا، وأن نقومها، وإلى رغبتنا في إرضاء هذه الحاجة". هكذا يكون النقد وسيلة العقل لإصلاح كل الأخطاء التي ارتكبها في حقه وأمته، لأن الانطلاق من النقد الذاتي يستطيع أن يحرك العقل الأسطوري من تباته في لحظة ميتة من التاريخ. ومهما يكن الاعتزاز بالنفس مؤنسا للجراح، فينبغي لهذا العقل أن يجد نفسه في أرض الحرية والنقد، قبل فوات الأوان، لأنه ليس من العيب أن نترك للنقد حريته من أجل أن يكتشف ويشخص الوضع القائم والعمل على تغييره، لكن السؤال الذي يفجر نفسه ضد هذا الصمت المكتئب، هل بإمكان هذه العائلة المقدسة أن تأخذ كل الثروات وتنسحب لتشرق شمس الأنوار، وتقوم بالتفتيت التدريجي للظلام؟، هل يستطيع الشعب أن يتنازل عن الحق في الثروة مقابل الحق في الحرية والمساواة والكرامة؟. المواطنون ثلاثة أصناف العبيد والأحرار والذين يبحثون عن هويتهم، وهناك المسافرون الذين يتبعون الغريب، وقد يجدون أنفسهم مفصولين عن الأحبة: "الأحبة الذين سرعان ما يصبحون في أعينهم مجرد غرباء يميزهم الجرح الأعمق غورا في ماهية الإنسانية، وبما أنهم غرباء، فإنهم يبحثون عن الغايات التي تليق بالإنسان، العاقل وليس الجسماني: "لذا كانت الغايات التي يطلبها المتوحد من هذا النوع، فلم تكن جسمانية قط، وكان صحبُه جميعا من أهل العلوم". ويسميهم ابن باجة بالسعداء، على الرغم من أن سعادتهم لا تتحقق في مجتمع العبيد، ولذلك فإنه لا يتردد في القول بأنهم الغرباء:"والسعداء قلما يوجدون في هذه المدن. فإذا وجدوا كانت لهم سعادة المفرد أو المتوحد، وكانت حالهم أشبه بحال الغرباء". فما أمتع هذا المقام الذي يسمح للروح بالإقامة الشعرية في الغربة، وتتذوق كشوفات الصور الروحانية، وهي التي: "لا يفديها الحس ولا الطبيعة وإنما يفيدها الفكر أو العقل الفاعل"، وباعتبارها صادقة بالذات، لا يعرض لها الكذب أو الوهم، فإنها تكون بدون جدوى عند الجمهور عديم العقل، الذي ينعم بالأوهام والأساطير، لأن روحه هيولانية يشترك بها مع الحيوان، ولذلك لا يبحث عن الغايات التي تليق بالإنسان. والحرية والمساواة والكرامة تخص الإنسان بما هو إنسان: "فكل ما يفعله الإنسان باختيار فهو فعل إنساني، وكل فعل إنساني فهو فعل باختيار". ربما يكون هذا اللهو بالكلمات، ليس المقصود به تفسير الغموض بالغموض، وإنما نحت ماهية الإنسان في الأفعال الاختيارية، أي في الحرية، ذلك أن الإنسان لا يكون إنسانا إلا عندما يكون حرا، لأن كل ما يفعله الإنسان باختيار فهو فعل إنساني، أما ما يفعله مكرها فهو فعل حيواني، والعبيد مجرد حيوانات، عديمة النطق، وليس لها اختيار، ولن تتمتع بالحياة الحرة، ويستشهد ابن باجة بالفارابي الذي يقول: "حرّم على الفاضل من الناس [الفيلسوف] المقام في السياسات الفاسدة، ووجبت عليه الهجرة إلى المدن الفاضلة، إن كان لها وجود في زمانه وأما إن كانت معدومة، فالفيلسوف غريب في الدنيا ورديء العيش". كم هو غريب هذا الفيلسوف، ولكنه لن يكون رديء العيش، مادام أنه يحقق غايته الروحية في عقل الأنوار، يتزود من الوجود بالابتهاج والفرح، وينعم بالكمال عن طريق الاتصال بالعقل الفعال، ولذلك فإنه يؤسس جمهوريته، ويسمح بالدخول لمن يشبهه، ويطرد العوام وكل من كان شريرا بالطبع. بيد أن هذه الغاية لا يمكن تحقيقها إلا في نصوص الفلاسفة، لأنها مستحيلة التحقق في هذا الفضاء الشقي، الذي تسيطر عليه العائلة المقدسة، وبما أنها تستعبد الناس، فإنها استطاعت أن تحول المجتمع إلى معمل لصناعة العبيد، فيضطر الفيلسوف إلى ترك هذا المجتمع منفصلا عن أخلاقه، معتزلا سياسته، يتأمل الأجرام السماوية والعقول المفارقة، وهكذا يبدو للعامة أنه غير نافع، لأنه يمتلك الحقيقة، وأنهم تعودوا على الأوهام، يعيشون بإدراك مخدر. هكذا تكون حالهم أشبه بالمرضى الذين يتأذون بكل ما هو نافع، ويشتهون كلما هو ضار، ههنا تقع المأساة، لأن اصطيادهم من قبل السوفسطائيين، يكون سهلا، بل قد يتحولن إلى عقل أذاتي يستغل في احتكار العنف وتمريره عبر الأجساد، ولذلك فإن الدولة الاستبدادية تجد نفسها في هذه الأجساد الطيعة، والتي يتم إخضاعها بالسيطرة والهيمنة، إما بواسطة العنف، وإما من خلال الإيديولوجية، فأحلامهما مر، لا يسمح بظهور الذات الفاعلة، هذه الذات الناقدة للعقلانية الأذاتية، ومدى تأثيرها على جسد الإنسان، ذلك أن: «العقلانية الأذاتية باعتبارها مبدأ إجرائيا يسمح بتحليل التاريخ من خلال الإكراه الذي يخضع له الإنسان». في هذا الواقع المخيب للآمال، يجد الفيلسوف نفسه مكرها على الرحيل، من أجل العيش في دولة المتوحد، لأن تدبيرها لن يكون سوى فلسفيا، مادام أنها مركبة مما هو إنساني، وليس مما هو بهيمي فقط، على الرغم من هذا الاختيار يبدو مناقضا لما وضعه أرسطو من أن الإنسان مدني بالطبع، والفيلسوف إنسان مدني، ولكن غياب السياسة المدنية، وسيطرة العائلة المقدسة يرغمه على التوحد، واعتزال المدينة الجاهلة، واختراق كشوفات الروح في سياسة المتوحد، لأن الغايات التي تليق به لا يمكن أن يجدها، إلا في تدبير المتوحد، ولذلك نجده يقول على لسان ابن باجة في رسالة الوداع: "ومسعى بعيد يشتمل على مقدار من الزمان غير يسير بالإضافة إلى الأعمار الإنسانية، ولعلي لا ألقاك، فإني مادمت ومعي هذا البدن فإني أقدر على لقائك..وأنا متعرض فيها للخطر، وفي نفسي تشوق شديد إلى مفاوضتك". فأي خطر هذا الذي يهدد الفيلسوف؟، وما هي هذه الأمور التي يتشوق إلى التفاوض من اجلها؟، وبعبارة أوضح؛ من يهدد الفيلسوف ويجعله معرضا للخطر؟، ألا تكون العائلة المقدسة التي تنشر الرعب بواسطة فقهاء الظلام؟، ألا يكون هذا الخطر قد تحقق بالفعل حين تم تدمير جسد الفيلسوف؟. مهما يكن هذا الزمان رديئا، فإن الفيلسوف سيظل متشبثا بآراء أهل المدينة الفاضلة: "وقد تقدمت في غير هذه فأعلمتك بالسبيل التي أعتقد بسلوكها". والحال أن عدم الإفصاح عن هذا السبيل يؤكد على أن الفيلسوف يخفي حقيقته على الجمهور، لأنه كان مضطهدا ولم ينعم بالراحة، بيد أن محبته للحكمة سيجعله يعترف بأن فلسفة الوداع هي في الحقيقة فلسفة الغاية: "وأوكد من هذا وأشده وجوبا علي وألذه وأشهاه إلي إعلامك بأجلِّ الأمور التي وقفت عليها، وهي صفة الغاية التي ينتهي الطبع بالسلوك إليها، فقد وصفها وأطال الوصف فيها من تقدمني، وأحد من وصفها وكرر القول فيها أبو نصر، ومكانه في هذا العلم مكانه، لكن لا أجد في جميع كتبه التي وصلت الأندلس هذا النحو الذي وقفت عليه وسيبين لك ذلك من قولي فيها إن هذا النحو من النظر إنما تبين لي فقط". هكذا يصبح النص الفلسفي هو وطن الفيلسوف، إنه المنفى لكل لاجئ سياسي، يسعى إلى إتمام أعماله، ومادام أن لكل فلسفة غاية، فغاية ابن باجة هي تشييد مدينة للمتوحد، وبخاصة وأن الفارابي لم يستطع أن يحقق هذه الغاية، على الرغم من أنه كان يمنع الفيلسوف من العيش في المدينة الجاهلة، ولكنه هو نفسه كان يعيش فيها، وبعبارة أخرى؛ إن مقاومة الفارابي لآراء العائلة المقدسة كان نظريا، لأنه في الواقع ظل يتحرك داخل فضاء السياسة الفاسدة، يبيع كتبه من أجل أن يشتري قلوب الحملان ونبيذ العراق، فكيف إذا سيتخلص ابن باجة من سلطة هذه العائلة المقدسة؟، هل يكتفي برسالة الوداع؟، أم أنه سيوجه فلسفته نحو تدمير سياستها الفاسدة؟، بل أكثر من ذلك: هل كانت غايته هي النقد التنويري، أم مجرد هروب من صدمة هذه العائلة؟، هل اللجوء إلى مدينة الفارابي كان سببه الخوف من مدينة وحداني التسلط؟. لم يعد الفيلسوف يبحث عن الانتفاع، بل أصبح مهزوما، منكسرا، حزينا، يخضع لسلطة المحرك الأول، الذي يختصره في الأشواق باعتبارها غاية الطبع الإنساني: "لكن إن قدر وسبق فحكم بوقوع مفارقتي لبدني قبل مشاهدتك وإطفاء الشوق بمعارضتك، فأنت قادر على لقائي، لأني مضايفك، واللقاء يكون إما بحركة كل واحد من المتلاقين أو حركة أحدهما". لايمكن تفسير هذا الإرهاب الفكري الذي يتحكم في بنية رسالة الوداع، ذلك أن الكتابة يلاحقها الزمان، والوجود يضطهده العدم، والبدن يهدد الفيلسوف بالفراق، ولذلك فإن الخوف من الموت المبكر يظل هو غاية هذه الرسالة، وكأننا أمام فيلسوف يودع الحياة: "ومسعى بعيد يشتمل على مقدرا من الزمان غير يسير بالإضافة إلى الأعمار الإنسانية، ولعلي لا ألقاك، فإني ما دمت ومعي هذا البدن فإني أقدر على لقائك". والشاهد على ذلك، فإن ابن باجة لم ينعم بحياة هادئة ولا بسكينة تحفزه على الكتابة الفلسفية العميقة والتي تتخذ من إشكالية الوجود مصدر أسئلتها، وتحاور الفلاسفة بواسطة جدلية العقل والنقد، بل نجده يتحرك بسرعة وكأنه يكتب أثناء سفره، متنقلا بين سراغوسة وفاس، وهناك من يرغمه على هذا السفر، وإلا ما معنى عبارة وأنا متعرض للخطر!، هل معناها أن الإسبان يضطهدونه في الأندلس، والمغاربة في المغرب؟، هل كان يخضع للصراع الديني؟، أم لصدمة الحضارة والثقافة؟ هل الفيلسوف لا يستطيع أن يؤمن على نفسه في الزمان والمكان؟، وما قيمة هذه الحياة المضطربة في تأملاتها الميتافيزيقية؟. ومن طبيعة التأملات الميتافيزيقية أن تنمو على حضن الأمان والاطمئنان، ولذلك نجد ديكارت، في رسائله إلى الأميرة إليزابيت، منتشيا بالدعة والسكينة، ينام أكثر من عشر ساعات، ويكتب تأملاته بعيدا عن الإرهاب الفكري، والاضطهاد السياسي، على عكس ابن باجة الذي بدأ يشكو من شراسة الزمان، غير مطمئن لعصره، يكاد يعلن عن تخليه على مشروعه الفلسفي، والاكتفاء بصناعة الطب، لولا شغفه وتشوقه إلى ألم محبة الحكمة: "فأنا إنما نتعلم بالشوق إلى العلم والتشوق ألم". ربما يكون هذا الألم أقل عنفا من عنف السلطة المقدسة، التي تطارد الفيلسوف في حياته وموته، فأسئلة الفيلسوف مزعجة لا يمكن تركها تتمتع بالراحة في الوجود، وإلا ستتمكن من الانتشار، والقيام بالهدم التدريجي للعدمية والفكر الظلامي، والسياسة الجاهلة، لأن قوتها لا تقف عند حدود النقد، بل تتجاوزه نحو تمزيق الحجاب عن الحقيقة، مما يساهم في نشر التنوير الثقافي والسياسي بين أفراد الشعب، هكذا سيستيقظ من سباته الدوغمائي، ويطالب بحقوقه السياسية. إنه التزام أخلاقي بين الفيلسوف والشعب، ولذلك فإن العائلة المقدسة لا ترى فيه سوى المحرض على الثورة. لعل هذا الوجه الثوري للفيلسوف هو ما يعجل بنفيه، وتهميشه، ولم يسلم منه سوى الفلاسفة الذين حققوا كمالهم في عصر الأنوار، أما أولئك الذين عاشوا في ظلامية المقدس، فإن قدرهم كان حزينا: "لقد كانوا يحومون حول النور والحرية كما الفراشات والشعراء، ولكنهم ما شعروا بشيء يسير من وقر الأيام ومن صقيعها حتى هرعوا إلى الموقد". أفقد هؤلاء الشجعان إقدامهم لأنني تواريت عنهم في عزلتي فباتوا يتصنتون لنداء الوجود؟. فما أقل القلوب التي تصمد بوجه الزمان، وليس في سواها ما يعزز الروح، وما أكثر الجبناء فهم السوقة الدخلاء على الحياة، ولذلك نجدهم يضطهدون كل من يحب الحياة، والفيلسوف يأتي في المقام الأول، لأنهم يتصنتون إلى دجال هرم يقلد الأشباح، داعيا إلى الحزن بصوته الحزين، فكيف لمن لا يعرف الفرح أن يربي شعبه على الفرح؟، وكيف يمكن لمن تعلم الحراسة في الليل أن يبتهج بشروق الأنوار؟. الواقع أن حراس الليل هم أعداء النور، وحراس العدمية هم أعداء الوجود، ولذلك تراهم أحيانا يمزجون تقواهم بالسرور، لأنهم يتلقون الوحي من السماء، ولطالما تبرأت منهم الأرض، لأنهم حولوها إلى مقابر للأحياء والأموات في نفس الآن، والحق أن الشعب المخدر بالأساطير يستحق هذه المأساة، لأنه يقدم طاعته لمن يتقن حراسة الليل، وينشر الظلام ويهاجم من يدعوه إلى التنوير، والمطالبة بحقوقه السياسية، وهذا بالذات ما يشكو منه ابن باجة، ويشكو منه ابن رشد، وها نحن نكرر نفس الشكوى. تدور عجلة الزمان وتظل أحوال الفلاسفة، حراس الأنوار، هي نفسها، فلا شيء يشجع على القول بأن ما عاشه ابن باجة في هذا الفضاء الشقي، من مأساة قد انتهى، بل تعاظم إلى درجة أن الحرب على محبة الحكمة لم يعد معلنا من العائلة المقدسة فقط، بل تخطاه إلى السوقة الذين يتم تحريضهم من قبل القوى الظلامية. هكذا أصبح الفيلسوف يدافع عن نفسه، ويدافع عن الفلسفة، فالحق في الوجود هو ذاته الحق في المعرفة، ومن يمنع الناس من المعرفة كأنه يمنع العطشان من الماء. أنت وطني أيتها الحكمة، ولم يعد لي وطن سواك، لقد طال اغترابي في مدن السوقة، فها أنذا أعود إليك أيها الوطن. انظري إلي مبتسمة، لقد نسيت كل أحزاني، فأنا متشوق إلى تلك الألم التي كان ابن باجة يخشاها، لقد دفعته أحزانه إلى تدبير المتوحد، بعد ما كتب رسالة الوداع، فمن حقه أن يبحث عن وطن جديد، فارغ من المواطنين، لأنه كان يعتقد في النجاة، ولكنه مات مسموما، ولذلك فإن سياسته لم تعد صالحة لهذا الزمان، الذي أصبح فيه الخطر لا يعترضنا، بل يعيش معنا، إنه قدرنا. فما أحلى هذا القدر الحزين، الذي يحمل في صوته نبرات السعادة، على الرغم من أنها سعادة المتوحد، الذي يقول: "يا للعزلة السعيدة أتمتع بها..إنني أستنشق بملء رئتي هذا الهواء النقي في هذا السكون المتنصت". الذي يقول لك همسا: تكلم واهدم، إذا أردت أن تتحرر من العائلة المقدسة، ذلك أن روح الفيلسوف تتجلى في الاشتعال، باعتباره احتراقا مضيئا، يجعل العالم مشعا، ولكنها قد تتحول إلى رماد في ذلك المساء من فصل الشتاء، عندما تنطبق العزلة باسمة، لأنه هو الغريب في بلده، بين أهله، والاغتراب هبة الفلسفة إنها مكافأة شرفية لعشاقها، ولذلك قد يتساءل الفيلسوف قائلا: إلى من سيهب نفسه؟ هل إلى هموم وطنه؟ أم إلى محنة الفلسفة؟، ألا يكون إخلاصه لمحبة الحكمة قد دمر كينونته كإنسان؟، ألا يكون هذا الاغتراب بمثابة لعنة الوجود التي طاردت الفلاسفة منذ سقراط؟. يقول الفيلسوف للفلسفة ليس بيني وبينك من شكوى ولا عتاب: "فكلانا نمر صريحين من الأبواب المتسرعة، لأن كل شيء لديك مضيء والساعات تمر فيك عجلى خفيفة، وما تتثاقل الساعات في النور تتثاقلها في الظلام". فالعودة إلى الفلسفة هي بمثابة هروب من عنف الواقع، الذي يخاطب الحكيم بشراسة، يحذره من استعمال النقد، وإلا سيواجهه بالسلاح، النقد مقابل السلاح، لأن النقد الفلسفي يرعب السلطة المقدسة: "فهو نقد للخضوع والسيطرة والهيمنة، ولذلك يعتبر نقدا سياسيا، وليس نقدا معرفيا، بل إن المعرفي لم يعد مفصولا عن السياسي، إنه العلاقة الحميمية بين الحقيقة وإرادة الحقيقة". والحال أن من يقول الحقيقة، لابد أن ينتقد، وبخاصة إذا كان يخضع هو نفسه لسيطرة العائلة المقدسة، ولعل هذا بالذات ما يجعل من النقد موقفا أخلاقيا يعيد تقليدا فلسفيا قديما يحمل اسم شهيد الفلسفة، وسقراط كان أول شهيد، ثم جاء ابن باجة، وابن رشد وغيرهم، ومع ذلك ستظل الفلسفة شامخة، تحرر الشعوب من الظلام والهيمنة، وتمتعهم بالحرية والمساواة والكرامة، لأنها وجدت من أجل هذه الغاية، تحمل براءتها في ذاتها. يموت الفلاسفة وهي أبدية تشبه نهر هيراقليط، الذي لا يمكنك أن تستحم فيه مرتين، فبأي حجة يتذرع أعداء الفلسفة؟، هل بحجة امتلاكهم لإرادة الشعب؟، أم بحجة احتكارهم للعنف وخيرات البلاد؟، أم لأن الفلسفة مجرد سلاح نقدي وثوري ينبغي تدميره؟. أنا مدين للفلسفة، لأنها استطاعت أن تحررني من مستنقع السلطة المقدسة، التي كادت أن تتلف ماهيتي، ولذلك لم يعد يهمني ما الذي ينتظرني في المستقبل، بقدر ما يهمني أن أقدم خدمة للفلسفة، اعترافا بالجميل، لان ما يشيخ بسرعة هو الاعتراف بالجميل حسب أرسطو، وما الحياة السعيدة إلا على القمم وها أندا أنشق الهواء الطلق على أعالي الجبل حيث لا أشتم روائح المجتمع الإنساني"، والفلسفة هي العيش في أعلى هذه القمم والمشي على الثلوج، والإنصات لنداء الحقيقة، والاستمتاع بفرجة الوجود، فما قيمة هذا الإحباط أمام هذه المتعة الأبدية؟، وما قيمة تحرير الشعب الذي تعود على العبودية بالقياس إلى هذه العزلة المبتهجة؟، هل هي مجرد أحلام الصباح اللذيذة؟، أم أنها الحقيقة التي تهب نفسها لمن تريد؟. ستظل الأسئلة هي نفسها، والفيلسوف هو ذاته يرعى الوجود، ويعمم عنايته على الأشياء والكلمات، لأن الوجود ينفتح، ويقدم نفسه كهدية مقدسة لسحر اللغة، لأنها مسكنه الحميم، وأبهج الأعياد، يتغنى بها الشعراء، ويتأمل من خلالها الفلاسفة، ولكن الهرم يدب إلى قلبها، حين يتم استغلالها من قبل أعداء النزعة الإنسانية، هؤلاء المشعوذون الذين تزعجهم براءة الشعب، فيتحلون إلى قطاع طرق على الأبرياء، فهل تاه العقل وتاهت الفضيلة في هذا الزمان؟ وهل تحول الجهل إلى حكمة؟، والخداع إلى فضيلة؟، وهل أصبح أردأ الناس يدبرون الحكماء والأفاضل؟ أفليس هذا شكلا جديدا للشر؟، أفليس التدبير السياسي الراهن مجرد شمس وهمية التفت عليها أفعى التيولوجيا؟، وأي أمل يمكن انتظاره من الذين فقدوا الأمل في أرواحهم؟. مديد هو زمن الحرية، وما أن نشرع في السير فيه، حتى يصبح الطريق نفسه حرية، لأنه: "في الزمن الذي يختلج فيه قلبكم تتكون فضيلتكم لأن هذا القلب يفيض باختلاجه كالنهر العظيم فيغمر القائمين على ضفافه بالبركة كما يهددهم بأشد الأخطار". فالحرية عندما لا تستغل من قبل شعب ما تموت، أو تتحول إلى سلاح خطير ضد هذا الشعب، لأنها فضيلة لا تمنح إلا لشعب شجاع، تجعله قويا وتبعث فيه عزما، وتظهر على رأسه كالتاج، تميزه عن العبيد، ولذلك فإن زمن الحرية أحلى من زمن الاستبداد، إذ لا يمكن للشعب الطموح أن لا يتذوق حلاوته، ولكن يجب أن ينصت لإرادته الطيبة، التي تقول: فلتكن شجاعا على امتلاك الحرية. وإلا ستظل خادما للعائلة المقدسة. ولذلك فإن الفلسفة النقدية قد اختارت المقاومة بالتنوير من أجل هدم طقوس هذه العائلة المقدسة. فما هي هذه المقاومة؟ وكيف يمكن أن تنجح في بناء الثورات المعرفية والتنويرية في المجتمع العربي؟ وهل أصبح هذا المجتمع يتحرك خارج التاريخ أم أن التاريخ هو الذي أرغم على المغادرة؟.