«أريد أن أكون سعيدا وحرا في وطني» ديدرو إذا كان خطافا واحدا لا يصنع الربيع، فإن الملتقى الدولي لربيع الفلسفة قد استطاع إنتاج أسئلة عقلانية لحاضر ينمو على حضن مجتمع يهدده الانهيار الإيديولوجي، والصراع الإثني والعقائدي فمن أجل إنقاذه من العصبية الدينية لابد من ربط التقدم بالثقافة من خلال الإعلان عن ثورة العقلانيين شعارها النقد والتنوير، لأن ما يهم هو التحرر من هيمنة العصبية التي تسيطر على السلطة من خلال الترويج للأموات، ولذلك فإن النقد التنويري يقوم بفضح ابتعادها عن منطق التاريخ، وتهديها للمجتمع المدني، لكن كيف يمكن تفجير هذه البنية التقليدية بواسطة الفكر الفلسفي المتنور؟، وهل بإمكان أسئلة الفلاسفة أن تقتحم مجتمعا مخدر الإدراك بواسطة العصبية والدولة؟، فما الذي ننتظره من الفلسفة والسياسة المدنية الآن؟، وهل يستطيع العقل النقدي أن يحمي الحرية والفكر من شراسة الجماعة المنصهرة دينيا، والرافضة للدولة المدنية والحداثة والحريات الفردية؟. مهما يكون هذا الزمان محيرا، وهذا العصر مضطربا سياسيا وثقافيا، فإن ظهور الذات الفاعلة باعتبارها حرية وفكرا، مناضلة ومقاومة ضد الهيمنة الإيديولوجية لأنها تمثل الانتقال من العقل الأسطوري إلى العقل الانواري، من التراث الممزق بالجراح إلى الحداثة العقلانية لأنها الأمل الوحيد الذي ينتظره الناس لقد افتقدوا أنفسهم في هذا الليل الذي تبدو فيه كل الأبقار سوداء ولذلك يتعين عليهم أن يعودوا إلى أنفسهم من خلال تحديد المسافة التي تفصلهم عنها يتمكن من التحرر بواسطة الذات الفاعلة المقاتلة ضد الاستعباد والإخضاع. هكذا ينبغي تشييد المجتمع المدني الضامن لحرية المواطن، هذا الذي ينبغي أن يملك السيادة الشعبية ويختار من يحكمه بحرية وبإرادة يقظة، ولذلك يتعين على الفلسفة أن تساهم في بناء هذه الإرادة من خلال الوعي الذاتي، تلك هي مهمتها الراهنة. وليس من السهل النجاح في هذه المهمة، لأنها تخوض معركة شرسة مع النزعة العدمية التي تحرض الناس على العقل والحداثة والحرية، باسم الهوية والخوف من صدمة الفكر النقدي التنويري. تمجيد العقل هو شعار فلسفة الأنوار والذي تبلور في الإعلان عن حقوق الإنسان لأن الإنسان سيد نفسه وليس عبدا للسيد يعتبره مجرد شيء أو سلعة ولذلك ينبغي تحريره الجهل والفقر واللاعقلانية من أجل بناء أمة عظيمة متحررة من أولئك الذين ينتجون المجتمع ويستهلكونه، السلطة العقلية الشرعية محل السلطة الراقية القمعية كما يقول ماكس فيبير الذي يعتبر أن الإنسان ليس شيئا آخر سوى مشروعه وأنه لا يوجد إلا بقدر ما يحقق ذاته ومجموع أفعاله وحياته الحرة المرتبطة بالواجب. هل يتعلق الأمر بانتصار للهوية الثقافية على التيولوجية القهرية؟ وبعبارة أخرى كيف يمكن للفلسفة أن تنحصر في بناء المجتمع المدني العقلاني ؟ وهل بإمكانها المساهمة في التربية على الحرية والعيش معا في مجتمع الأمل؟ وكيف يمكن بناء الأمة في حضور الاستبداد السياسي وعدم تحرير المجتمع المدني من وحدة الرأي؟ وهل سنصل إلى هذا الأمل م ع فلسفة بعد عودتها من الاقتراب؟. انطلقت أشغال الدورة الثالثة عشر من فكرة مدهشة للجيل الجديد الذي يتألم من جراح عميقة للهوية، وثقوب في الكينونة، لأنه بقدر ما ينتمي إلى الحاضر بثقافته الكونية، بقدر ما تتحكم فيه سلطة وسطوية وعقل أسطوري خرافي، وهذه الفكرة هي أن المستقبل الذي نريده يوجد في الحاضر، وما ينبغي القيام به هو هدم هذه الأصنام التي تتحرك خارج جدلية العقل والتاريخ. فمن سؤال إلى سؤال يتحدد مصير الأمة، لأنها مجرد لغة، وحرية، وسيادة، ومن يمنحها قوة الحضور في التاريخ إذا لم يكن هناك شعبا حرا يتمتع بوعيه الذاتي، ومنصهرا في مفهوم الذات الفاعلة، لأن الأمة لا تمنح لقب الذات الفاعلة لمن تريده، بل إن الذات الفاعلة هي التي تبدع عظمة الأمة وانصهارها في التاريخ، ومنحها بطاقة الحضور في العالم. أما إذا كان هذا الشعب تتحكم فيه جدلية العبد والسيد، ويتم إخضاعه بالقهر والإيديولوجية، فإن صورة الأمة تكون مزيفة تسير الحاضر بأوهام الماضي. هناك إجماع على أن المغرب في حاجة إلى عصر تنوير، لأنه فضاء متوسطي تلمع فيه أنوار الحضارات والثقافات، بيد أن العصبية الدينية هي من أطفأت هذه الأنوار وشردت الفلسفة واعتقلت الحرية وفرضت العبودية على الأبرياء والجهل والقهر وتخدير الإرادة. ومن أجل عودة الأمل لابد من عودة فلسفة البحر الأبيض المتوسط، لأنها الأصالة الحرة للروح، والمحراب الأكثر براءة للفكر، ففي حميمية هذه العودة يتم تدشين المشروع الحداثي للمغرب الحقيقي وليس مغرب الشعارات الزائفة، مغرب العصبية والأعيان الذين يطبقون سياسة الغاية تبرر الوسيلة كما تركها الماكر ميكيافيلي، وبذلك يتم إنتاج مجتمع الانتظار الذي يتحرك على حافة الانتقال ثم الانتقال، ولكن إلى أين؟ ومتى سيصل إلى مغرب أندلسي عميق للمغاربة؟. والحال أن الانتظارات المتكررة والانكسارات العميقة جعلت الشعب لا يبالي لا بالسياسة، ولا بالتربية والثقافة، لأن العادة تولد اللامبالاة، هكذا تتحول إرادة الشعب إلى الخضوع لأوامر وطاعة الدولة، بل إنه يتحول إلى أجساد طيعية تختصر وجودها في البحث عن ضروريات العيش، وهذا ما يعجل بانهيار ظاهريات الروح، ويهدد بهدم المجتمع المدني، على الرغم من أنه هو الذي يحمي المواطن من عنف الدولة، فبأي معيار تصبح الفلسفة أداة طيعة في ثورة العقلانيين؟، وبعبارة أخرى هل يمكن بناء مغرب جديد بدون فكر جديد؟، هل يمكن تحقيق نهضة سياسية وفكرية واقتصادية بدون فلسفة وعلوم البحر الأبيض المتوسط؟، وكيف يمكن تحقيق ثورة علمية في غياب الأرواح العلمية وسيطرة الأرواح الميكانيكية التي تخطط للمستقبل الإنسان والوطن كما تخطط للطرق والقناطر؟. كانت كلمات الافتتاح كلها تتجه نحو الأمل الذي تحمله سفينة المتوسط إلى مغرب متشوق لمرحلة أخرى تنقذه من الضياع في التراث الظلامي الذي لم يعد نافعا لحاضر منفتح على الضفة الأخرى من المتوسط يستنشق رائحة الحرية والحداثة الفكرية، والديمقراطية التنويرية، هكذا كانت كلمة وزارة الثقافة، والجماعة الحضرية، وجمعية أصدقاء الفلسفة، وجامعة ابن رشد الربيعية، وضيوف الملتقى، متفائلة بالمستقبل الذي سيحمل أشعة السعادة للشعب، وينشر ظلال التقدم العقلاني ويعمم نعمة المغرب على المغاربة. فإليهم جميعا نتوجه بعميق الشكر. كما كانت الجلسة العلمية برئاسة المفكر السياسي الأستاذ محمد الدرويش ممتعة لأنها جعلت من التعدد الثقافي غاية البناء المعرفي للمغرب المتوسطي، مغرب فلسفة الفضاء والروح، فلسفة ابن رشد، هذا السفير إلى الضفة الأخرى، لكن بدون أن يتسلم أوراق اعتماده. توزعت المداخلات بين الفلسفي، والفكري والإبداعي، خليل النعيمي، عبد الوهاب التازي سعود، سعيد الناجي، عزيز الحدادي، ألبيرتو مونتيكون عبد الرحمان طنكول، محمد الخروطي، كما انطلقت الأسئلة للطلبة من غموض الحاضر والرغبة في البناء العقلاني للمغرب الحديث، ولا يمكن لهذا الملتقى إلا أن يتوجه بالشكر إلى مقدم برنامج الناقد بالقناة الثانية الذي واكب أعمال ملتقى ربيع الفلسفة، لأن الإعلام مسؤولا أمام التاريخ، ومسؤوليته في نشر التنوير وتربية الروح على الحوار والتسامح، أصبحت تكبر في هذا العصر الذي يحتاج إلى الحداثة لأنها الأمل المعقود على العقل وعلى اكتشافاته. إنه إثيقا المستقبل في مقابل إثيقا الماضي، رؤية تنويري للعالم ضد الرؤية التقليدية التي تمارس الهيمنة بواسطة السحر والخرافة والحال أن الأصولية الثقافية قاتلة تحكم على المغرب بالمرض، ولذلك فإن ثورة العقلانيين هي الأمل الوحيد للخروج من هذا الليل الروحاني.