كأني بالباحث السوسيولوجي أحمد شراك يحب المسافات الطويلة. فآخر كتاب بحثي صدر له «سوسيولوجيا الربيع العربي أو الثورات التأسيساتية» استلزم منه ما لا يقل عن ثلاث سنوات ونصف من العمل المسترسل بمعدل ست ساعات يوميا. وإذا كان أستاذ مادة علم الاجتماع قد انتهى من صياغة مؤلفه هذا في غشت 2014، أي بعد «ثورة» السيسي في مصر، فإن الكتاب صدر في 2017 عن دار النشر مقاربات المغربية التي تولى مديرها، د. جمال بوطيب، تسيير اللقاء الذي قدم خلاله الإصدار ضمن فعاليات الدورة الحالية من معرض الكتاب (الأربعاء 14 فبراير الجاري، قاعة القدس، فقرة «في حضرة كتاب»). وعلى خلاف جل فعاليات المعرض التي اتسمت بظاهرة غياب الجمهور المرَضية، كانت قاعة القدس شبه غاصة ذلك الصباح للإنصات للباحث الذي يتضمن مؤلفه 508 صفحة من القطع الكبير مزينة بلوحة للشاعر والتشكيلي عزيز أزغاي. كان من المفروض أولا أن يصدر فصل من الكتاب على شكل حلقات في صفحات جريدة مغربية، لكن الأمر تعذر. ورغم العروض المغرية ماديا التي تلقاها الباحث في علم الاجتماع من طرف العديد من دور النشر العربية، فإنه أحجم عن نشر بحثه المطول عندها، إذ كانت هذه الدور تشترط سحب فصول بعينها تعتبرها «مسيئة» لدولها، خاصة القسم المخصص ل»بناء الدولة». يتميز «سوسيولوجيا الربيع العربي…» بانتصار صاحبه لمفهوم الثورة واستبعاده لمفهوم الربيع، مثلما يتميز باستحضار المؤلف للبيبليوغرافيا الغزيرة التي تناولت «الثورات العربية» بجميع اللغات (أكثر من 600 عنوان جردها أحمد شراك ضمن ملحق بيبليوغرافي)، وبالبحث الميداني خاصة في مصر. بصوت أكاديمي تسكنه المسافة الضرورية كشرط للبحث العلمي الرصين، يستبعد شراك وينتقد عدة نظريات حاولت مقاربة «الربيع العربي»، على رأسها نظرية المؤامرة التي يسمها ب»بلاغة السهل» المفرغة للشباب والإنسان العربي من كل قدرة على الفعل سياسيا، وكذا نظرية الخيبة والانكسار التي يميل إلى اعتناقها الحس المشترك. ويعتنق أطروحة نقدية تسعى إلى ترصيد «الربيع العربي» قصد توصيفه، ذلك الربيع الممتد من الماء إلى الماء والذي كانت عتبته الإطاحة ببعض رموز الاستبداد والانخراط في تأسيس مجتمعات جديدة، وذلك دون ادعاء بلوغ أهداف العمليات التأسيسية هذه، متفاديا الخوض في النتائج لأن تحليلها من اختصاص الباحثين في العلوم السياسية، ومركزا على السلوك السياسي الذي ولد قارة احتجاجية فسيحة وقوية من الخليج إلى المحيط. من ميزات المؤلف أيضا أنه تناول ظاهرة الغرافيتي كتعبير احتجاجي جديد وظف ضمنه الجسد أيضا، كما انتبه إلى سلطة السخرية والشذرية التي تسلح بها المحتجون، مضيفين إليها إحياء الشعر. ومن موقع الباحث والراصد المتتبع، يقول شراك إن الغرافيتي كان لسان الثورات العربية، حيث تكاثرت الصور والأيقونات والشعارات على الجدران وعلى الأرض وعلى مداخل خيمات ميدان التحرير في مصر وميادين التحرير العربية الأخرى، بل يمكن القول حيثما تولوا وجوهكم فثمة الغرافيتي . وقد امتدت الظاهرة إلى الرسوم والتشكيل إذ تحولت الشوارع المحاذية لميدان التحرير، كما وقف على ذلك الباحث ميدانيا، إلى معرض مفتوح لبورتريهات الثوار الذين استشهدوا أو الذين أعطبت أعينهم، فضلاً عن اللوحات التشكيلية التي تدخل في باب الفن الغرافيتي. كما يميز شراك ضمن مؤلفه، وفق ما فسره، بين "الثائر" و"الناخب"، علما أن الأخير هو من منح فاكهة "الربيع" للمتأسلمين الذين لم يلتحقوا بالاحتجاجات إلا في الأشواط الأخيرة.